كنت أظن أن ستي أم علي مجنونة. أخذني نصف قرن، زرت خلاله بلاد السند والهند، وقابلت بشرا من جميع الأصناف والألوان، وخضت تجارب لم يخضها الكثيرون، خضتها بطولها وعمقها وعرضها، وقرأت كتبًا ونلت علوما وشهادات، وخرجت من تلك المعمعة لأكتشف أن جنونها كان ذروة العقل! فالشيء في ذروته يقترب من ضده إلى حد لا نميز عنده بين الضدين!
لقد روحنت أم علي الأشياء فتعاملت مع أرواحها، بينما نعيش في عالم مادي تتشيأ فيه الأرواح…كانت قبل أن تبدأ العجين تلامس برفق كيس الطحين: (الله يبارك فيك. كان لازم تخلص من زمان، بعدك مليان) هكذا كان يتراءى لها، أن كل شيء جميل حولها يتضاعف ويتبارك بصلاتها…
امتلكت يوما قنا مليئا بالدجاج، كان أقربها إلى قلبها القرقة وصيصانها (القرقة لمن لا يجيد لغة أم علي تعني الدجاجة الأم) وفي أحد الأيام عاد الدجاج إلى القن باكرا كعادته، إلا قرقة أم علي وصيصانها…رحت معها وهي تتدحرج بدموعها، لنبحث عن القرقة وأطفالها في الأحراش المحيطة بحينا. كانت كلما زرفت دمعة ينزف قلبي نهرا…
أوشكنا أن نملأ الوادي المحيط دموعا، عندما تناهى الى سمعنا صوت موسيقا ألفتها اذن جدتي حتى عشقتها, بق….بق….بق…..بقيق!
علق صوص صغير بشجرة كثيفة من الديس، أبت القرقة أن تغادر المكان وتترك وراءها صوصا من صيصانها، فكل طفل في حياة الأم عيد للحب!
أدمت الأشواك أصابعنا، لكننا استطعنا أن ننقذ الضحية البريئة، لم تكد تخرج من براثن المصيدة حتى زغردت القرقة وراحت تهرول مع صيصانها، وجدتي تهرول وراءها، وهي تتمتم:- آآآآه منك ياغزالة…. تفرفط قلبي عليك، والله فكّرت الجقل أكلك!
(الجقل في لغة ستي هو الذئب)
كانت أم علي ومن فرط حبها لقرقتها تراها غزالة، وكانت تتحدث معها بجدية ودقة عالم رياضيات يلقي محاضرته على طلابه… مرات عديدة كان صوتها يوقظني من سباتي في الصباح الباكر أيام الصيف، وهي تتحدث لمشتل النعناع الممتد أمام شرفتنا:- ياعيناااا لأم علي… ما أحلاكم! وتتابع: من يوم الشيخ ميهوب كتبلي الحجاب، ماقدر الخلد يأكل ورقة منكون!
(لمن لا يجيد لغة جدتي: الخلد حيوان صغير ينبش التربة ويقتات على الجذور)
ثم تمرر أصابعها النحيلة فوق وريقات النعناع فتفوح رائحتها الذكية لتملأ شرفتنا!
كان الشيخ ميهوب يخربش على قصاصة ورق صغيرة ويدسها في كف أم علي، مقابل ليرة وقبلة تطبعها على يده.ربما لم تكن تملك في جيبها سوى تلك الليرة، لكنها اشترت بها يقينا لا يشوبه شك من أن تعويذة الشيخ هي سر انتعاش نعناعها!
…….
يقول الكاتب والفيلسوف البرازيلي Paulo CoelhoEvery day I try to be in communication with the universe in unconscious way( كل يوم أحاول أن أتحدث مع الكون بطريقة خارج حدود الوعي)
يبدو أنه كان للفيلسوف كويلو قرقة وصيصان، وكان يرى قرقته غزالة، ويتحدث معها بجدية،من يدري؟؟
عندما أفكر بأننا الوحيدون الناطقون في هذا الكون أشعر بتفاهته، وعندما يسربلني يقين أم علي من أن لكيس الطحين ولمشتل النعناع ولقرقتها آذاناتسمع وتفهم كل اللغات، أقف عاجزة أمام عظمته!
…….
أخذني نصف قرن من الزمن ومئات التجارب وآلاف الكتب لأكتشف أن نظرية أم علي هي الحقيقة المطلقة:(اليقين يصنع الواقع)!
نعم، كلّ ما تؤمن به تراه!!!!! عندما تؤمن بضرب الرقاب لن يكون واقعك إلا ضربا للرقاب،أما عندما يكون هذا اليقين حبا، سيكون كل يوم في حياتك عيدا للحب!!