مع أولى زغاريد هذا اليوم، انفتحت أمام وجوهنا نسمات ربيع غاب عن موعده الطبيعي و ها هو يأتي متأخرا بأشهر، كعادة كل شيء تقريبا في بلدنا المتثاقل … إنها الباكالوريا، آخر فرص السعادة المجانية عندنا بعد أن تمت خوصصة كل شيء و بسعر الذهب المستحيل …
اليوم إعلان نتائج باكالوريا 2021 في دورتها الأولى، و قد وعدت وزارة التربية بأن يكون ذلك صباح السبت ثم الجمعة، و ها هي تفي بوعدها … النتائج قد لا تكون هائلة مثلما اعتدنا في أعقاب الدورات الرئيسية، و رغم ذلك فإن الرسميين يعتبرونها أفضل من السنة الماضية بالأرقام … و نحن لا رأي لنا هنا بعد رأي الحكومة … و مع النسبة العامة، هناك نسب فرعية تتعلق بالشعب المختلفة و يخفق القلب دائما مع شعبة الآداب التي تتذيل القوائم كما عهدناها مذ عمّ الجهل للأسف و ليس هنا مجال إضافي للتأوّه و التنكيد …
التوزيع يشمل أيضا الناجحين بحسب الولايات، و هنا يتكرر تقليد أخذ مكانه منذ عشرات السنين … حبيبتنا صفاقس في المرتبة الأولى وطنيا و لم ينازعها في ذلك موقع آخر و لو أنجب إنشتاين و نيوتن و النابغة الذبياني مجتمعين … مبروك لأصدقائي هناك و أبناء أصدقائي و أحفادهم … و لكي تفهم السرّ، يجب أن تقصد تلك المدينة الكادحة في السابعة صباحا من أي يوم، لتجد حرفييها فاتحين أبواب رزقهم باكرا في حين لن تفرح بذلك في أية مدينة أخرى من مدننا قبل التاسعة، و زادت على تعلاّتنا الكورونا و حجرها المزعوم … إضافة إلى مشهد لم يعد مألوفا كثيرا في أية بلاد عربية: تلاميذ يتوقفون أمام فترينة مكتبة و يتفحصون بشغف آخر عناوينها … لم أر هذا صراحة إلا في مكانين: صفاقس و بغداد …
و ربما لهذا السبب، تلاحظ أن أكبر نسبة من الأطفال الحاملين لنظارات طبية منذ الخامسة و السادسة ابتدائي هم من صفاقس … قالها لي رجال تعليم عديدون و رأيت ذلك بعيني و أنا الذي لم تنل شدة المطالعة من ناظريّ إلا بعد تلك السنّ بكثير، و كثير جدّا … لست من صفاقس العزيزة بل من جهة أخرى لها عقلي و قلبي و خالص وفائي … و لكنني كنت محظوظا بأن تتلمذت في سنوات الصبا البعيدة على مدرّس عتيد من عاصمة الجنوب اسمه سيدي الحبيب ذويب … لا أعرف اليوم إن هو ما يزال على قيد الحياة و أتمنى ذلك، و أتمنى قبلها أن أراه من جديد و لو مرة واحدة، و ألثم جبينه الأشمّ و “أكبّ” على يديه الطاهرتين و قد تعلّمت منه أفضل ما تعلّمت …
إذن نالت صفاقس كعادتها قصب السبق، و ليتنا نأخذ عنها أصول الجدّ و الكدّ بدل التناوح على واقعنا و مصيرنا و التباكي على التشغيل و التنمية و غلق الطرقات و مواقع الإنتاج القليلة دون ذلك … ليتنا نتعلّم من صفاقس و من غيرها من حواضر الجنوب خاصة، كيف تنحت مصيرك في الصخر الصلد، و كيف تصنع من الفقر كنوزا، و من القحط زراعة، و من سوء الحظ طوالع خير، و من اليد آلة عمل، و من الاعتماد على النفس صندوق دعم لا يعجز، و من الذكاء البشري ثروة باطنية تتصاغر أمامها البراميل و تتضاءل كل المحروقات …
و ها أن بوادر تثمين العمل، و العمل المضني فقط، تمرّ عدواها إلى ربوع أخرى من وطننا الكريم النفس … و قد لمع هذا الصباح تلاميذ من جهات منسية من نظامنا المركزي و دون منّة من أحد … أولى نوابغنا كانت من نموذجي جندوبة و قد حصلت على معدل قياسي (20 على 20) من النادر أن سجلته ذاكرة الباكالوريا … و تبعها عباقرة آخرون من الكاف و غار الدماء و بومهل و القلعة الكبرى أفقر مدن الساحل و أكثرها تهميشا من النظام القائم … و يقيني أن هذا المدد الطيب يؤكد القاعدة “الصفاقسية” و لا ينفيها … اعمل و ثابر و لا تنتظر أحدا …
أحرّ التهاني لناجحي اليوم، و أماني النجاح العاجل للمؤجلين، و النجاح الآجل لمن فاتته فرصة هذا الموسم … أما الذين سقطوا إلى الأبد و لا أمل لهم في باك و لا في تكماك، فأمامهم مستقبل زاهر في السياسة و في برلمان لا ينجح فيه سوى الساقطون و ـ حاشاكم ـ السُقّاط …