جور نار

و في أثناء ذلك … لتذهبْ قضايانا إلى الجحيم !

نشرت

في

في مشهد من فلم قديم لعملاق الكوميديا “بورفيل” كان هناك شاب و شابة في تيراس أحد المقاهي يعيشان حالة رومانسية ما … و أراد الشاب أن يلاطف جليسته فاستدعى أحد رسامي الشارع المتجولين هناك (و هذا رائج في باريس) و طلب منه رسم وجه الفتاة في لوحة يهديها لها … فقعد الفنان قبالتهما و انهمك حوالي ربع ساعة، و بعد الانتهاء أدار الصورة لتراها صاحبتها، و لكن ما إن وقعت عيناها على ما أُنجز حتى صاحت و أغمي عليها …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

نسيت أن أقول إن الرسام كان من هواة المدرسة التكعيبية (كوبيزم) المختلفة تماما عن الرسم المتعارف عليه … فإذا بالعينين واحدة فوق أخرى، و الفم مربّع و الأنف يخترقه كالخنجر، و الأذنين عبارة عن مستطيلين متداخلين غير متساويين كأنهما من علامات المرور … و نسيت أن أقول أيضا إن تاريخ السينما التونسية كله تقريبا من هذا الضرب التكعيبي التجريبي و “التأديبي” أيضا لمن تدعو عليه أمه و يحصل في الفرجة … لذلك كان لا بدّ لنا دائما من نقاد بل شُرّاح و مفسرين على غرار مفسري قيس هذه الأيام و لكنهم سبقوه بنصف قرن … و مهمّتهم دوما توضيح “المغازي العميقة” للشريط و مخرجه، و تصنيفهما على أنهما فتح مبين في فن السينما … و دون هؤلاء الفقهاء، مستحيل عليك أن تفهم لقطة واحدة من فيلم تونسي …

هذه السنوات السينما عندنا راقدة … ربما لأن وزارة الثقافة صارت ـ بمفعول النقابات ـ تصرف جميع مواردها على زيادات موظفيها و لم يعد لها ما تدعم به أفلام العبث تلك … و لعلها هذه هي المرة الوحيدة التي تجعلك تفرح لتضخم كتلة الأجور داخل ميزانية الدولة … و لكن إذا غابت سينما العجائب فقد حلت محلها تلفزة الغرائب، ممثلة في مسلسلات كل واحد منها اشنع من الآخر …

لا أتحدث في الأخلاق، و لا في المواضيع التي تناسب شهر رمضان أو لا تناسبه، تلك ليست مشكلتي و لا مشكلة الفن بصورة عامة … و لكن إذا نحن طلبنا من فلاّح أن يزرع لنا أرضا، و من بحّار أن يجلب لنا سمكا، و من محتكر أن يلعب بأسعار هذه و تلك … إذا طلبنا من مهندس أن يخطّ لنا طريقا نسير عليه، و من المحامي أن يرافع عنا أمام محكمة، و من الممرض أن يسهر الليالي للعناية بمرضانا … إذا أردنا من هذه القائمة الطويلة من العاملين المبدعين أن يقوموا بشغلهم و يفيدونا حسب أصول و قواعد متفق عليها، فلماذا لا نطلب ذلك من ممارسي الفن … فهل الفنون صناعات و مهارات و تمكّنات، أم هي خبط عشواء يحترفه الجاهل و المتجاهل؟

أنا مع التعريف الغرامشي للمثقف … إما تلتحم بمجتمعك و يكون لك دور في خدمته أو الارتقاء به أو إيصال صوته أو الانحياز إلى قضاياه أو حتى الترفيه عنه، أو ماذا نفعل بك؟ … و قبل هذا، هل اخترت تلك المهنة الثقافية لأنك موهوب دارس مسيطر على أسرارها، أم لأسباب أخرى أقلّها استسهال مجال لا حراسة له و لا امتحان فيه و لا مناظرة و لا رسوب و لا طرد لضعف المستوى …  

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version