و في أثناء ذلك … هل توهب الحرية لمحترفي إجرام؟ (3)
نشرت
قبل 3 سنوات
في
منذ أسبوعين تقريبا، سلّطت الحكومة الجزائرية عقوبة بالإيقاف في حق مسلسل تونسي و قد علقتُ على ذلك باستياء … ليس لقرار الأجوار و لو أن ذلك يخدش كرامتنا (لو كانت لنا كرامة) بما أنه يمس من إنتاج نحن أصحابه …و لكن أكثر الحنق انتابني من التجاوب المؤدب و المهذب و المتفهّم من بعض الممثلين التونسيين المعنيّين بالمسلسل المحظور … و هو ما لم نعهده فيهم إزاء قرارات مماثلة بل أقل وطأة و لكن عيبها أنها صدرت عن جهاز رقابي تونسي اسمه الهايكا … وقتها لا تسمع سوى الاستنكار و الاستفظاع و بكائية الحريات و حتى السبّ و القشتلة في وجه النوري اللجمي و هشام السنوسي مجتمعيْن…
و لكن العبرة الأخرى التي نخرج بها من تلك الحادثة، أن للفنّ حرّاسا في كل بلاد الدنيا و يسمّون ذلك جهاز رقابة أو ضبط أو تعديل أو أي شيء … المهمّ رقابة … و هي مثل أية مراقبة لأيّ إنتاج يُطرح في السوق مع فارق … المراقبة الاقتصادية تفرض عليك مواصفات تجارية و صحية و تقنية دقيقة و في الغالب مشترك فيها دوليا … أما مراقبة المصنفات الفنية فلا تهتمّ بما يجب فعله، بل بـ “ما لا يجب فعله” و أوّلها مخالفة قانون البلاد … لذلك يلفت انتباهك أنه في السينما الأمريكية مثلا، مستحيل أن يرتكب أحد جريمة و ينتهي الفيلم من دون معاقبة المجرم أو موته … يحدث ذلك في الأعمال الكبرى كما في الأفلام الشعبية صنف ب، كما في أفلام التجريب كما في أية قصة بوليسية … تلك تسمى “الجريمة الكاملة” وممنوع التطرق إليها و دون ذلك خطايا باهظة و سجون و طبعا منع من التوزيع … حتى لا يتشجّع أحد على ارتكاب جرم و انتظار إفلات …
بينما عندنا قوانين البلاد و كل الإنسانية تُخرق يوميا في أعمالنا الفنية و بلا حسيب … ففي حلقتين اثنتين فقط من مسلسل “فوندو” حصلت على الأقل خمس جرائم قتل (السائقان + ابن الجزائري + الصائغي المروكي + الشخصية التي يجسدها ياسين بن قمرة) دون أن يحاسَب أحد أو تتدخل شرطة أو نيابة أو قضاء … صحيح عندنا مشكلة في مؤسساتنا، و لكن هل نحوّل ذلك إلى تعميم و مفخرة؟؟ …
لا وصاية على الفن أعيدها … لكن هل يوجد فن في أي مكان من العالم يُطرح في السوق من دون مراجعة جهاز جمهوري عادل عاقل يجمع أهل المهنة و أهل القانون و أهل التربية و أهل علم نفس الطفل؟ … و هل يمكن للفن مهما سما و استقلّ، أن يخرج عن القانون و يدعو مثلا للعنف أو الكراهية أو الإدمان أو يمس من قيم مجتمعية شاملة كالطفولة و الأسرة؟ … و ثانيا ما يهمّ الرقباء في الدول المتحضرة ليس اختيار الموضوع في حد ذاته، بل طريقة طرحه و مؤدّى ذلك الطرح … نحكي عن الإرهاب نعم، و لكن ليس بالتمجيد والتبرير و حض الناس على التعاطف مع مرتكبيه …
ثم أحببنا أم كرهنا هناك قيم خاصة بكل مجتمع تحولت بدورها إلى قوانين … فالجريمة درجات أعلاها عندنا قتل الوالدين أو قتل الأبناء، و كم أشبعنا الفهري و أضرابه بهذا الصنف الذي يستطعمونه من البشاعات … استباحوا كل شيء إلى درجة أننا صرنا نتوقع رؤية و سماع ما لا يُرى و لا يُسمع إلا في الغاب، في المزبلة، في الماخور، في معارك الحانات آخر الليل، في البلاد التي عصفت بها حرب أهلية فأودت بها دولة و مؤسسات وحضارة و تربية و إنسانية و نواميس … بما فيها نواميس الفن و تقنيات الدراما … جهل، جهل، جهل …
ثلاثة أرباع، بل أربعة أخماس، بل عشرة أعشار مسلسلات الفهري و من يقلدونه (مثل صاحب نكبة “نجوم الليل” السابقة في قناة حنبعل) لا يمكن أن تمر في تلفزة أوروبية أو أمريكية ليبرالية ديمقراطية حداثية مؤسسساتية دستورية من عام اسكت … من أصغر لقطة تدخين إلى أكبر لقطة قتل (مباشر) لحيوان أو ضرب لامرأة أو صفع لطفل … الكحول أيضا ممنوع في السينما الأمريكية أكثر من السينما السعودية …
و على ذكر مملكة الحجاز، صار مستهجنا هناك الحديث عن تعدد الزوجات و زواج المسيار و نكاح القاصرات في السنين الأخيرة … و يمكن قريبا أن يأخذوا منا مجلة أحوالنا الشخصية، و نأخذ منهم ـ و قد بدأنا بعد ـ شرائع الوهابية، في مبادلة لم يشهد لها التاريخ مثيلا …