أشهد أن العرب لم يضيعوا وقتهم هدرًا خلال القرون التي عاشوها في إسبانيا. فقد أنتج الاندماج العربي الأوروبي صنفًا من البشر ليس له مثيل في أي مكان.
فأية بنت إسبانية ستجد لها ألف بنت تشبهها في طنجة وتونس والإسكندرية وبغداد والشارقة وصنعاء. والشعر المرخي على الأكتاف، والعينان اللتان تطلقان رصاصًا في القلوب، والقوام الذي هو شيء بين غصن البان وعصا الخيزران.واللغة العربية لا تزال باقية. وكل كلمة إسبانية تبدأ ﺑ (ال) التعريف هي كلمة عربية أصابها بعض التحريف، لكنها بقيت عربية على كل حالٍ. فالقاضي هو (الكالدي)، والزيت (الثيت)، والزيتون (الزيتونث)، والثور (الطورس)، والوادي (الجوادي)، والحجارة (اليخارا)، والقصر (الكازار)، والحمراء (الهمبرا). و(التروبيدور) معناها الطرب يدور، و(الفلامنغو) معناها فلاح مغنٍّ؛ أو المطرب الشعبي بلغة هذه الأيام، و(أوليه) هي الله باللغة الإسبانية، وألوف من الكلمات العربية تجري على ألسنة أفراد الشعب الإسباني دون أن يدركوا حقيقتها.
ولكن الإسبان للأسف الشديد يشعرون بمرارة نحو العرب، ويقولون: إن العرب فتحوا إسبانيا مرتين، مرة بقيادة طارق بن زياد، ومرة بقيادة فرانكو !
وأصل الحكاية أنه عندما نشبت الحرب الأهلية الإسبانية، كان فرانكو قائدًا عامًّا للفرقة الإسبانية في المغرب. وعبر الجنرال فرانكو البحر إلى إسبانيا بقواتٍ مغربية، وعندما تحقق له الانتصار أباح لجنوده المغاربة مدينة مدريد لمدة أسبوع. ولا يزال الأحياء من أهل مدريد يذكرون تلك الأيام ككابوس ثقيل. وحفظ فرانكو الجميل لهؤلاء، فاحتفظ بالفرقة المغربية كحرسٍ خاص حتى يوم وفاته. وكان أهم قادة الجيش الإسباني مغربيًّا يُدعى محمد مزيان، وظل في منصبه حتى بلغ الثامنة والسبعين، ولم يترك منصبه إلا بالموت!
وتجولت طويلا في الأرض التي كانت عربية، أطوف بعواصم المجد القديمة، قرطبة، وطليطلة، والأندلس، ومجريط (مدريد في لغة أهل الأندلس). ولا تزال قصور العرب القديمة شاهدة على حضارتهم العظيمة، ولا تزال جامعاتهم ومعاهدهم الموسيقية تحكي للأجيال قصة المجد الذي كان. مساكين القيسية واليمنية من أهل ذلك الزمان، تحاربوا بالسيوف حتى تكسرت، وبالرماح حتى تحطمت، وبالنبال حتى تكدست، ثم تجاذبوا بالشعور والأظافر والأسنان!
يُحكى أن حاكم الأندلس يوسف بن فهري، كان له أعداء ينافسونه على السلطة، ولكنه تمكَّن منهم أخيرًا، وذبحهم جميعًا، ثم أمر بأن يمد له السماط على جثث لم تبرد بعد. ويقال إنه تناول طعامه وهو جالس على الجثث الغارقة في الدماء، وإنه تجشأ بعدما انتهى من طعامه، وقال قولة شهيرة: “والله ما ذقت طعامًا أهنأ من هذا قط!”
وقفت أتفرج عل أطلال مدينة توليدو (طليطلة)، وفي العين دمعة، وفي القلب حسرات!
لقد رأيت مثل هذا المنظر كثيرًا: في القاهرة القديمة، وفي بغداد القديمة، وفي دمشق القديمة؛ الهندسة والرسوم والأطلال ذاتها! وكدت أركع، وأقبِّل الأرض التي صافحَتْها أقدام أبطال العرب القدامى عندما كانوا رجالا، وأمعنوا غربًا إلى أن وصلوا إلى ميناء طولون الفرنسي، ثم عادت أقدامهم فانسحبت من الأرض عندما تحوَّل أحفاد هؤلاء الأبطال إلى أشباه رجال، وظلوا ينسحبون منها في كرم زائد إلى أن خرجوا منها في مشهد ذليل، ولم يخلفوا لنا إلا الذكريات البغيضة مكللة بالعار!يا للأيام التعيسة الحزينة التي عشتُها في الأندلس، أكاد أبكي على المجد الذي ولى، والعصر الذهبي الذي ضاع!
من هذه النافذة التي فتحها العرب، تعلمت أوروبا الموسيقى ونقلت (ألف ليلة وليلة) ودرست تعاليم ابن رشد، وتتلمذت على الفارابي وابن الهيثم وابن خلدون!
تصوروا … لو بقيت شبه جزيرة أيبيريا — إسبانيا والبرتغال — عربية حتى يومنا هذا فأي عزٍّ لنا، وأي ظهر نستند إليه؟ وليتنا نتعلم من أخطائنا! ولكن فلسطين ضاعت منا كما ضاعت الأندلس