بالأمس كانت حرارة الشمس تدريبا بسيطا على يوم الحشر لبعضنا أو ربما لأغلبنا…فالحرارة المرتفعة التي نعيشها منذ أيام أو ربما أكثر من أسبوع تجعلنا نتخيّل كيف سيكون الطقس غدا في دار جهنم؟ خاصة وأنه يمنع منعا باتا هناك استعمال المكيّفات أو فتح الشبابيك…
قمت باكرا جدّا كعادتي لأني مطالب بحلّ العديد من المشكلات المنزلية والذهاب إلى عديد الأماكن لقضاء بعض الشؤون أو شراء بعض المقتنيات الغذائية وغيرها…قصدت مخبزا ليس بعيدا عن المنزل في درجة حرارة تفوق الثلاثين، وجدت طابورا بأكثر من عشرين نفرا ينتظرون دورهم للعودة برغيف أو أكثر إلى منازلهم، أخذت مكانا آخر الطابور حسب القاعدة المتعامل بها وانتظرت دوري للمثول امام المكلّف ببيع الخبز…
حين وصلت أول الطابور نظر لي صاحبنا والاسف يعلو محياه وقال “الله غالب يا حاج كملوا الخبزات استنوا نصيّف ساعة” … ضحكت وقلت لا يهمّ سأقصد مخبزا آخر لا يبعد كثيرا عن الأول، وكانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا، قصدت المخبز الثاني على أمل كسب الرهان، وحين اقتربت من المخبز اعترضني طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره وقال “عمّي، عمّي تشري بلاصة في الصفّ بخمسة دنانير…” ضحكت وأجبته بالرفض وانضممت إلى الطابور لم أكن أعلم أن الطابور سيكون بذلك الحجم وأنا أغني أغنية سيدي علي الرياحي رحمه الله بتصرّف “شدّ الصفّ يلا قابلني”…خلاصة القول لم يكن حظّي هنا أحسن من حظّي مع الخباز الأول …
قررت الذهاب إلى مخبز ثالث يقع خارج المدينة، قبل وصولي إلى المخبز الريفي لاح لي من بعيد حجم الكارثة طابور بأكثر من ثلاثين مترا وأغلبهم يحمل بيده قفّة من سعف النخيل، هذا يعني ان حظّي هنا سيكون أسوأ مما عشته مع من سبق من الخبّازين، قلت سأحاول الانتظار هذه المرّة… مع الساعة السادسة والنصف كان لي شرف الاحتفال برغيفين ليس أكثر حسب تعليمات صاحب المخبزة بعد أن اشتكى بعضهم من تجاوز البعض للحدّ الأقصى من عدد الأرغفة…
خرجت سعيدا بهذا الإنجاز ممنيا النفس بالرجوع سريعا إلى المنزل لتناول فطور الصباح…مهمتي الثانية كانت غذائية أيضا عليّ ان أبحث عن نصف رطل من القهوة قصدت أحد الدكاكين التي علمت أنها وفرت كمية معتبرة من هذه المادّة، وصلت وكان الطابور الرابع في انتظاري بعد طوابير الخبز التي عشتها…وقفت مكاني خلف الطابور حتى وصل دوري وكأن التاريخ يعيد نفسه مرتين في اليوم نظر لي الدكاكيني نظرة أسف وقال “غدوة نجيبوا كميّة أخرى يا حاج…” أجبته “ان شاء الله نحجّوا” وخرجت منسحبا من الطابور…نظرت إلى ساعتي لأجد أن الوقت مناسب للذهاب إلى البنك قصد سحب بعض المال، وللمرّة الخامسة اجد نفسي في ذيل طابور قد لا ينتهي … بعد نصف ساعة خرجت من البنك سعيدا بما سحبت من مال، واتجهت نحو مقرّ البلدية لإمضاء بعض الوثائق قبل التفرّغ لما بقي من مشكلات المنزل، هناك أيضا كان الطابور السادس في انتظاري والتزمت مكاني في الطابور حتى قضيت مأربي وخرجت سعيدا غارقا في بحر من العرق…
نظرت يسار البلدية فتذكّرت أني مطالب بدفع معلوم استهلاك الماء أيضا فأسرعت خوفا من طابور سابع، لكن وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، وقفت في الطابور حتى قضيت شأني وخرجت متوجها إلى شركة الكهرباء لدفع ما علي من معلوم استهلاك، وهناك أيضا كان الطابور الثامن في انتظاري لكن ولأن التاريخ يعيد نفسه اكثر من مرّة في اليوم وحين وصل دوري للدفع بالتي هي أحسن انقطع التيار الكهربائي في مقرّ استخلاص معاليم الكهرباء…ضحكت وخرجت وقلت لعل الشركة لم تدفع ما عليها !…
رنّ جرس هاتفي لتذكرني السلطة المنزلية الدائمة طبعا وغير المؤقتة بضرورة جلب رطل من السكر إن وجد وكيلوغرام من الفرينة إن حالفني الحظّ…هكذا هي تعليمات آخر ساعة…عبر الواتساب طبعا…توجهت نحو فضاء تجاري كبير لأجد طابورا في انتظاري يلهث وراء رطل من السكر…اي نعم الطابور التاسع أخذت مكاني ذيله إلى أن وصلت ليفاجئني المكلف بالبيع بإعلان نفاد الكمية المعروضة اليوم للبيع واعدا بأن غدا سيكون يوما آخر…خرجت سعيدا بالعهد السعيد الذي نعيشه…وتوجهت إلى فضاء آخر ابحث عن كيلوغرام من “الفرينة” دخلت لأجد طابورا آخر في انتظاري سألت فقال بعضهم “فرينة” وقال الآخر “سكر”، قلت لا بأس سأنتظر ولم يكن انتظاري طويلا ليأتي أحد العاملين بالفضاء ليبشرنا بنفاد الكميّة والاعتذار لنا…
وقفت لحظة أنشّط ذاكرتي لأعرف ماذا سيكون مأربي القادم وتذكرت “الزيت” وما أدراك ما الزيت وتذكرت ان أحد الأصدقاء قال إن عمّ الشاذلي وكنيته “زحلوقة” له كميّة كبيرة سيعرضها للبيع في منزله اليوم، توجهت إلى منزل “زحلوقة” ممنيا النفس بلتر أو أكثر من الزيت المدعّم، قبل حوالي مائة متر من منزل عمّ الشاذلي فوجئت بطابور طويل مكوّن من الرجال فقط استغربت أمره…اقتربت من ذيل الطابور وسألت كهلا يقف امامي وقلت “عالزيت؟”…فأجاب “هاني شاد الصفّ”، قلت لابأس سأنتظر ولم لا فأنا لم أغنم لترا من الزيت منذ رمضان…بعد حوالي ربع ساعة وكأني بالأمر كان سريعا نوعا ما…أقول بعد ربع ساعة وصلت إلى آخر الطابور لأجد نفسي مطالبا بتقديم العزاء لأبناء عمّ الشاذلي رحمه الله ” وأنا الذي كنت أمنّي النفس بلتر من الزيت…فالطابور كان للعزاء …فحين سألت من كان أمامي قائلا “عالزيت” ظنّ أنني سألته “عزيت” وأقصد هل قام بواجب العزاء أم لا … هكذا انتهى بي مطاف الطوابير إلى واجب العزاء…
خرجت وأنا أتمتم أغنية عبد الوهاب بتصرّف “يا طابور قلي رايح على فين…” فالبلاد كلها تقف منذ 2019 ذيل طابور لا أحد يعلم أين سيأخذها…رجعت مسرعا إلى المنزل وأنا أفكّر في أمر أقضّ مضجعي…بماذا سنحتفل اليوم هل بعيد الجمهورية أم بعيد مجهول الهويّة؟ وهل ستطول مدّة وقوفنا ذيل الطابور…؟؟