ما حكايتنا نحن العرب مع صناعة الاصنام؟ هل لأن أجدادنا كانوا يعبدونها أم ماذا؟ ألم نقرأ الدرس من التاريخ…ألم نشاهد جميعا كيف أسقطت العديد من الشعوب آلهتها التي صنعتها؟ فلماذا نواصل اليوم صناعة اصنام نحن على يقين أننا سنخرج غدا لنسقطها ونحطمها إن أخطأت وأفسدت في الأرض والعرض؟ هل أصبح هذا الشعب في حاجة إلى ثورة حقيقية تعيد الروح لهيبة دولة فقدت وعيها لأكثر من عقد من الزمن، وهل أصبح هذا الشعب في حاجة إلى ثورة حقيقية تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وتعيد البعض إلى أحجامهم الحقيقية؟
أغلب من جاؤوا بعد تلك التي أطلقوا عليها اسم “ثورة” ولم تكن بثورة بل كانت انقلابا مقنّعا أتى على الأخضر واليابس، ولم يصلح حال العباد ولا حال البلاد، وعاشت البلاد معهم أسوأ عشرية ويزيد من تاريخها…ولا تزال تعيش أفظع ما يمكن أن تعيشه في ظلّ انقلاب على الانقلاب…أعودلأقول أغلب من جاؤوا بعد 14 جانفي ومن انقلبوا عليهم يوم 25 جويلية لا يختلفون عن بعضهم البعض، فلا أحد منهم أصلح وضعا واحدا من أوضاع البلاد، أو غيّر حالا واحدا من أحوال العباد، جميعهم جاؤوا فقط بحثا عن كتابة أسمائهم وأمجادهم (إن وجدت طبعا) في سجلات تاريخ البلاد، هم فقط يبحثون عن تحقيق بعض مآربهم من جاه ونفوذ ومجد مغشوش…فما عانته أو ما يزعم البعض أن البلاد عانته خلال حوالي الستة عقود قبل وصول هؤلاء إلى الحكم، لا يضاهي ما فعله الحكام الجدد بالبلاد والعباد خلال هذه الفترة الوجيزة من بطش وتخريب وإحباط ويأس وتفقير وتجهيل وتحطيم وتفرقة واستبداد بالرأي وقطع للأرزاق وتهديم لكل ما تمّ بناؤه…
أعود لأسأل كما سألت في عديد المقالات هنا سابقا، إلى متى يغرق هذا الشعب في أوهام وأساطير وتخاريف وخطب حكامه الحماسية الجوفاء؟ إلى متى لا ينظر بعين الواقع ولو لمرة واحدة؟ لماذا لم نتعظ بتاريخ الشعوب والحكام وخيباتهم…؟ ألم يفعل عبد الناصر رحمه الله ذلك وأغرق شعبه في الخطب الرنانة محاكاة لما تفعله “الستّ” بأغنيتها الجديدة كل أول خميس من كل شهر، ألم يكن عبد الناصر يطرب لهتاف وصراخ جمهوره المعجب بخطبه كما كانت أم كلثوم التي اصبح أحد المعجبين بها أشهر من بعض وزراء عبد الناصر في ذلك الوقت، فقد ذاع صيت مجنون أم كلثوم المدعو الحاج سعيد الطحان بما يتفوّه به اثناء حفلاتها فهو صاحب أشهر جملة فى حفلاتها “عظمة على عظمة يا ست”، و” تاني والنبي يا ست أنا جايلك من طنطا…” ألم يعش عبد الناصر نفس السكرة وألم يسكر بنفس الخمرة… فغرق في الوحل وفي بحر هتاف وخمرة أتباعه، فخيّب ظنّ أتباعه من المصريين والعرب أجمعين، وغرقت أحلامهم في بحر أوهامه وأوهامهم…ألم يقم صدام رحمه الله بتوريط شعب العراق وشعوب العرب في أوهام كلفتهم غاليا بخطبه الحماسية الناسفة…ألم يدمّر القذافي رحمه الله بلده بوهم عنوانه “طز”…لماذا لم نتغيّر كما تغيّر كل من هم حولنا…لماذا نصرّ على العودة إلى صناعة الأصنام والأوهام؟
لماذا صدّقنا أكاذيب حكامنا وسقطنا في فخّ خطابهم؟ لماذا انسقنا وراء أوهام كلامهم العذب الذي يقطر عسلا مرّا لا يطاق …لماذا هرولنا وراءهم ظنّا منّا أنهم جاؤونا بالخلاص…لماذا نجحوا في ايهامنا بأنهم صناع زمن جديد…زمن الخلاص من أوجاعنا…زمن إسعاد أطفالنا…زمن رفع مظالمنا…زمن العدل والحرية…زمن الأمن والأمان…زمن الحياة الكريمة…زمن تحقيق الأمنيات والوعود…زمن الخروج مما نحن فيه…زمن تحقيق أحلامنا وأحلام صغارنا…زمن القضاء على التفرقة والتهميش…زمن القضاء على الفقر…زمن القضاء على البطالة…فماذا اكتشفنا في حقيقة الأمر…؟؟ اكتشفنا أنه زمن الخديعة…زمن الأحقاد…زمن الانتقام من كل قديم…زمن القضاء على الخصوم والتنكيل بهم…زمن الاستبداد الحقيقي…زمن الأنا ولا أحد غيري أنا…زمن من ليس معي فهو ضدّي ومن هو ضدّي مكانه السجن…زمن عن أية ديمقراطية تتحدثون…زمن لا أحد يشاركني الحكم…زمن “اشرب والا طيّر ڨرنك”…
نحن اليوم في ورطة ولن نخرج منها بالسهولة التي يتصوّرها البعض ولن نخرج منها أيضا بفرض أمر واقع…نحن اليوم بما نعيشه ونأتيه نعيد الحياة لقصّة هابيل وقابيل …فالحقد أصبح شعار المرحلة…وضرب الخصوم أصبح خبزنا اليومي…وتخوين بعضنا البعض أصبح خطابنا صباحا مساء ويوم الأحد…نحن اليوم أمام مشهد أعادنا لماض سحيق، فورثة نظرية وفكر وثقافة قابيل هم الذين يرفعون اليوم راية ضرب الخصوم ويستعدون الجميع ويستهدفون من يعارضهم بكل الأسلحة المتاحة وغير المتاحة، ويريدون بذلك الاستحواذ على كل مفاصل الحكم للاستبداد به…وأتباع وورثة الفكر “الهابيلي” نسبة لهابيل هم اليوم من يرفعون راية التجميع والجميع مع الجميع والكل للوطن ومع الوطن راية إصلاح حال البلاد والعباد، دون إقصاء لأحد ودون اجتثاث لأي كان…إلا من أجرموا في حقّ البلاد والعباد…
ارتفع منسوب الحقد في البلاد إلى درجة الخوف من أن يتحوّل هذا الحقد إلى فتنة تذهب بنا إلى حيث ذهبت في العديد من الدول العربية المنكوبة بما يسمونه “الربيع العربي”… فعوض أن نلتفت إلى معالجة أمهات القضايا اكتفينا بشحن أتباعنا وقواعدنا حقدا على خصومنا…فكل حكومات ما بعد 14 جانفي وصولا إلى يومنا هذا هي حكومات فاسدة، نعم فاسدة باتباعها لسياسات غير منطقية وغير إصلاحية وغير حكيمة…فلم نخرج من وجع التضخّم…ولم ننجح في القضاء على الفساد …ولم نسعد يوما بالتخلص من العجز في الميزانية…ولا أحد من حكامنا نجح في كبح جماح الأسعار…وقد يستمر ارتفاعها إلى ما لا نهاية له، الأمر الذي سيجعل كل تونسي يفكّر في الخروج متخفّيا للتسوّل…لكن التسوّل اين وممن؟ والجميع في الحال سواء…فحكوماتنا كتم الله أنفاسها لم تترك لنا بابا واحدا من أبواب التسوّل مفتوحا…فالتونسي اليوم بين نارين …نار الموت جوعا وحسرة واحباطا…أو نار الهجرة عبر المتوسط ليصبح غذاء لحوت سيأكله من بقي من أغنياء البلاد على قيد الحياة…
كل هذا يقع في هذه البلاد وبعض “صُناع الاصنام” لا يزالون تحت تأثير خمرة ليلة الخامس والعشرين من جويلية…هؤلاء يغنون “هل رأى الشعب سكارى مثلنا” في تحدّ صارخ لبقية الشعب المنكوب…هؤلاء يتحدّون الجميع بفرض أمر واقع من مولاهم الذي صعد بأصوات خصومهم الذين استعداهم وابعدهم عن طريقه…هؤلاء لا يعلمون أن هذا الشعب لا حاجة له بخمرتهم ليسكر…ولا لخطب مولاهم ليصبح مسطولا…بل هو في حاجة فقط إلى خبز في متناول ما في جيبه…ومستقبل أجمل لأبناء نجوا من محرقة المتوسط…أتباع صانع التغيير الثاني لا يشعرون بالخطر الذي بدأ يطل برأسه على هذه البلاد، ولا يزال بعضهم يحلم بالمستبد العادل فمنذ متى كان المستبد عادلا؟ همّهم الوحيد كيف يتخلصون من خصومهم، فلما جاءهم من خلّصهم من خصومهم “خرّوا له شاكرين حامدين ” هؤلاء مستعدون للتعايش مع الاستبداد إن حلّ ركبه…وإن تحوّل صانع التغيير الثاني إلى مستبد…هؤلاء لم يعوا لحدّ الساعة ان تبعات الاستبداد أخطر علينا وعلى أجيالنا القادمة من الاستبداد إن تعايشنا معه وتأقلمنا مع مخرجاته…هؤلاء مستعدون فعلا لصناعة مستبد على مقاس حقدهم على خصومهم…
الأخطر من كل هذا عودة بعضنا إلى صناعة “الاصنام” وعبادتها، فقبل انقلاب الخامس والعشرين من جويلية كان لكل الأحزاب صنمها الذي لا يهان ولا يقال له “لا” ولا يشار له حتى بالبنان…حتى جاء صانع الانقلاب الذي شاركت في صناعته كبار الأحزاب فخرّ له الجميع ساجدين قابلين حامدين شاكرين مناشدين مفاخرين بما يمليه وما يأمر به وما يقرره وما يأتيه حتى وإن ضربهم على قفاهم…والغريب أنه لا أحد يغامر اليوم بانتقاد مولاهم أمام اتباعه، فلو أخطا وفعلها احدهم فستثور ثائرة الأتباع وقد يجمعون الحطب الإعلامي والفايسبوكي ويحرقون كل من تسوّل له نفسه الأمارة بانتقاد مولاهم سيد الاسياد…هؤلاء هم من كانوا قبل الخامس والعشرين من جويلية يعبدون إلها آخر…عفوا يتبعون قائدا آخر …وكانوا قبل ذلك أيضا مع قائد آخر وقبلها أيضا…ألا يحقّ في هؤلاء قول الله في الآية 74 من سورة الأنعام “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ”…
فوالله أنا أيضا بريء مما يشركون ويتبعون…فأنا لا أعبد ما يعبدون…فقط أنا وأمثالي لأوطانهم يعشقون وعن مستقبل أجمل لأبنائهم يبحثون…وعن أمن واستقرار بلادهم يخافون…فهلاّ استيقظتم من غفوتكم يا من للأصنام تصنعون وتعبدون؟