15أكتوبر الذكرى الثالثة و الستين لعيد الجلاء .. التي احتفلنا بها بالأمس مرت باهتة وسط انقسامات عديدة و أوضاع متردية يعيشها المواطن التونسي …
شارع منقسم بين مؤيدين لرئيس الجمهورية في شخصه قبل أن يكون في صفته و معارضين له اتفقوا على معارضته دون أن يتفقوا على الوقوف معا ضده ، لاختلاف المشارب و الأهواء بينهم (انقسامهم هو الذي سمح بتغوله و اطمئنانه إلى وهنهم و ضعف تأثيرهم) … ذكرى مرت باهتة و نحن نستشعر ما بلغته تونس من ضعف و استكانة و ” اليونيسيف ” يوجه إليها مساعدة غذائية عاجلة لأبناء العائلات المعوزة و محدودة الدخل، و يشترط أن يقوم بتوزيعها بنفسه و كأن لا ثقة له في مؤسسات الدولة و هياكلها ، في ضرب تام لمبدأ الاستقلالية و السيادة الوطنية الذي يجسده عيد الجلاء …
ذكرى مرت باهتة كذلك وسط معارك جانبية بين والي بنزرت و رئيس بلديتها تعكس مدى الهوان الذي وصلته مؤسسات البلاد و أزمة التسيير التي تعيشها و الصراعات الداخلية التي تحكمها … ذكرى مرت باهتة كذلك على وقع طوابير انتظار طويلة في محطات البنزين و حيرة في الأعين ، حيرة العاجز عن توفير ضروريات العيش و تحت أنظار حكومة تلاحق اليومي و تعجز عن تجاوز الصعوبات…ففي كل دول العالم تعمل مراكز البحوث والدراسات على استشراف الازمات و إيجاد حلول لها قبل وقوعها و لكن أين معهد البحوث الاستراتيجية (المعهد يتبع مؤسسة رئاسة الجمهورية) في بلادنا من كل ذلك؟
ذكرى مرت باهتة و نحن نحلم بالتغيير و نرجو الجلاء الحقيقي و انجلاء الغمة و الهمّ عن هذه البلاد بانجلاء مسؤولي الولاءات و انعدام الكفاءة عن المناصب التي يحتلونها .. فعندما تستمع إلى مسؤولة في قطاع الطاقة تتحدث عن أسباب غياب البنزين و ترجعها إلى جمال الطقس و تزامنه مع يوم عطلة دفع المواطنين إلى الخروج للنزهة ” يركبك 100 غزّول و عزّول” و تولي تفكر في الحرقة و تقول البحر يمكن يكون أهون و ألطف من هؤلاء المسؤولين الذين لم يحركوا شعرة على ضحايا الحرقة من جبنيانة و المهدية و جرجيس و غيرها و لم يتحركوا إلا بعد الضغط الشعبي و الإعلامي الذي سلط عليهم … و لم يحركوا شعرة لمعاناة المواطنين من انقطاع المواد الغذائية المدعومة، و لم يعيروا الفلاحين من منتجي الحليب الذين يعانون من مشاكل منظومة التوزيع و من غلاء الأعلاف أي اهتمام مما دفعهم إلى البحث عن طريقة للتخلص من أبقارهم التي باتت مصدر خسران لهم بتهريبها إلى الجزائر و بيعها هناك ..
سلطة تترك مواطنيها بمفردهم في مواجهة أزماتهم ، سلطة توجه أصابع الاتهام إلى المواطن في كل مرة بدل أن تصارحه بالأسباب الحقيقية للخلل .. سلطة تقول بأنّ المواطن و لهفة المواطن هي دوما السبب في فقدان المواد الأساسية و إن لم يكن المواطن ( المستهلك ) فإنه الاحتكار و افتعال الأزمات … أي انّ الحكومة بريئة و ” خاطيها و هي موفرة كل شيء أما الغلطة من الآخرين “.
و في الوقت الذي كنا ننتظر فيه خطابا صريحا من أعلى هرم السلطة و نقاشا حقيقيا و جديا حول الأزمات المتواصلة و المتكررة و تشجيعا على التجديد في المجال الفلاحي و حثا على مضاعفة الأراضي المزروعة ( و نحن في الخريف فصل الحرث و البذر ) لتحقيق الأمن الغذائي ، و دعوة إلى تغيير طبيعة الاستثمار و فتح السوق أمام المبادرات الشبابية الجديدة نجد أن الجانب السياسي هو الطاغي على اهتماماته و أن بوصلته الوحيدة تاريخ 17 ديسمبر حتى و إن وصل إليه بشعب يتضور جوعا و يرتجف بردا …
و لكن لسائل أن يتساءل أليس من الأفضل لهذه السلطة أن ينشغل الناس في كل مرة بالبحث عن المحروقات أو الفارينة أو الزيت أو الحليب أو القهوة أو السكر أو الماء … بدل أن ينشغلوا بالتفاصيل السياسية و بالحديث عما في الدستور من فصول تتنافى مع الديموقراطية أو بالحديث عن القانون الانتخابي الجديد و الانتخابات القادمة و مهزلة التزكيات و أخطاء هيئة الانتخابات .. أو بالحديث عن تقصير الدولة في التعامل مع ملف “الأفارقة” الذين استوطنوا بلادنا وةفي التعامل مع ملف الحرقة و التقصير في التعامل مع المفقودين في جرجيس و الإخلالات في التواصل مع العائلات المكلومة ..أليس ذلك أسهل في ما بعد عند تطبيق الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي و في فرض أسعار جديدة للمنتوجات المدعومة المفقودة و سيرضى المواطن حينها و يسكت و يحمد الله على توفر السلع بعد طول انقطاع …
63 سنة على جلاء آخر جندي ، و بعد أن غادرنا الاستعمار الترابي المسلّح ها أننا نرزح تحت أنواع أخرى من الاستعمار … تجعلنا نحلم من جديد بالجلاء … الجلاء الفعلي …