تاريخ أو تواريخ للاحتفال ، شارع أو شوارع للتظاهر ، قراءة أو قراءات لما حدث بين من يعتبره انتصارا لإرادة شعبيّة ومن يرى أنّه استجابة لقرار دولي بإزاحة بن علي ، تسمية أو تسميات بين انتفاضة و ثورة و انقلاب جزء من النظام على جزء آخر ...
إلى اليوم لم يتّفق التوانسة على ما حدث … و لكن مهما اختلفت المواقف والرؤى ، فإنّ الجميع يقرّون بأنّ يوم 14 جانفي كان يوما استثنائيا بكلّ المقاييس و أن لا أحد يمكنه أن يمحوه أو أن يمحو رمزيّته من الذّاكرة بمجرّد مرسوم نابع عن إرادة فرديّة ، فالحكاّم راحلون و الشّعوب باقية وذاكرة الشعوب أبقى و أنصع … و ما أكثر الحكّام الذين حاولوا بناء التواريخ بما يتماهى مع رغباتهم و رؤاهم و لكنّهم فشلوا في ذلك بل زادوا الشّعوب تشبّثا بذاكرتهم الجمعيّة ….
فتونس بلادنا جميعا و هي ليست ملكا للدساترة أو للنهضة أو لغيرهما و هي كذلك ليست ملكا لشخص واحد يُهيَّأ إليه أنّه الصادق الوحيد و يُهيِّء إليه المحيطون به أنّه الزّعيم و المنقذ الوحيد و لكنّه يدرك و يدركون معه انحسار شعبيّته و يعرف جيّدا المأزق الذي أوقعه فيه مساره الفردي و استفتاؤه الضعيف و انتخاباته التي نفخوا فيها لتبلغ نسبة 11 % من المشاركين ..
شعبية يحسّ بأفولها و يحاول أن يسترجعها دون جدوى و لذا خرج يوم 13 جانفي مستبقا الأوس و الخزرج إلى الشارع و محاولا بسيره وسط الأسواق – مدجّجا بالأمن و حاملي السّلاح – أن يبيّن أنّه لا يخشى المعارضة و أنّه مازال محافظا على شعبيّته …غير أنّه فضح بعباراته و ملامحه ما أراد أن يخفيه فهدّد و توعّد و شتم المعارضين كعادته بأاعتبارهم سبب كلّ خراب و انهيار … متناسيا أنه في الحكم منذ 3 سنوات و في حكم فردي ممسك بكلّ دواليب السلطة منذ سنة و نصف و أنّ الازمة السياسية التي سببتها اجراءات 25 جويلية 2021 بإغلاق البرلمان و ما تبعها مثل المرسوم 117 و تعيين حكومة شكلية – مادامت القرارات الرّسميّة لا تصدر إلا عن قرطاج – و وضع دستور ذي صياغة فرديّة – رافضا أي حوار أو تشاور و مقصيا للمقترحات الواردة عليه – و سنّ قانون انتخابي على مقاس مؤيّديه و أنصاره ..
كلّ هذه الإجراءات عمقت من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها البلاد منذ ثورة 2011 و حتّى ما قبلها (و إلاّ فعلام انتفض النّاس و سقط الشّهداء حينها ؟) فالتّوتّر الداخلي يلعب دورا كبيرا في التّضخّم و تدهور قيمة الدّينار و العجز عن إيجاد حلول للموادّ المفقودة في الأسواق ، أضف إلى ذلك ما يعانيه نظام قيس سعيّد من عزلة خارجيّة تسببّ فيها رفضه لكلّ حوار و تصريحاته المتشنّجة و خطاباته الفاقدة للدّبلوماسيّة و تطاوله على المؤسّسات الدّولية و حتّى على بعض القوى الأجنبيّة ممّا فاقم من عجز البلاد عن إيجاد الحلول و التمويلات …
أمّا من ناحية المعارضة فإنّ المشهد بالأمس كان أصدق تعبير عن وضعها و عمّا أراده لها سعيّد أيضا و قد انقسمت مربّعات مربّعات في شارع الحبيب بورقيبة و في غيره من المناطق … معارضة منقسمة إلى مِلل و نِحل تعارض السلطة و تعارض بعضها البعض … مازال بعض قياداتها يعيشون صراع السّبعينات و الثمانينات و انقسامات الجامعة ويحنّون إلى خطابات حجرة سقراط و مقاهي و حانات المدينة و يتشبّثون بالماضي …و قد نسوا أنّ المستقبل لن ينتظرهم و أنّ الشعب قد سئم عباراتهم المكرّرة و فقد ثقته فيهم و أنّه قد جرّب أغلبهم ففشل و أنّه عليهم إن أرادوا لأحزابهم البقاء أن يفسحوا المجال أمام وجوه جديدة و كفاءات شابّة بخطاب جديد مساير للعصر و تصوّرات تلبي احتياجات شعب 2023 و 2025 و 2030 و ما بعدها …
كفاءات تنبذ الصراعات الإيديولوجيّة و توقن أن البلاد تتّسع للجميع بعيدا عن منطق الكره و الإقصاء و العقاب الجماعي … و رغم عرقلة التنقّلات بين المدن بالأمس و رغم الانقسام و رغم أنّ يوم 14 لم يعد يوم عطلة بعد أن قرّر قيس سعيّد حذفه من قائمة العطل الرّسميّة و منع بطريقة غير مباشرة عددا كبيرا من المشاركة في المظاهرات … إلا انّ الأعداد كانت كثيفة و كان الشارع مسرحا لتحرّكات عديدة عبّر أصحابها عن رفضهم لحذف الاحتفال بهذه الذّكرى و عن معارضتهم لتوجهات الرئيس الفردانيّة و لكنّها رغم ذلك لم تكن كافية لإسقاط النّظام كما كان يحلم بعضهم …
فالغالبيّة العظمى من الشعب ليست مع سعيّد أو هي لم تعد معه كما كانت في الدّور الثاني من انتخابات 2019 أو حتّى كما كانت معه لحظة 25 جويلية بعد أن أرهقها ضعف تسييره لدواليب الدّولة و عجزه عن حلّ المشكلات الاقتصاديّة و الاجتماعيّة للبلاد … كما أنّها ليست مع من نزلوا اليوم من معارضة تميّز بعضها سابقا بانتهازيّته و بفشله في إدارة دواليب الدّولة عندما كان في الحكم و تميّز بعضها الآخر بتقلّب مواقفه و رقصه على كلّ الحبال …
و في الأثناء و أمام فقدان الثقة في الطّرفين سُلطة و معارضة تستمرّ حالة التوازن المتفجّر و عدم حسم أي طرف للمعركة و تتواصل أزمة البلاد و تتزداد هشاشة الواقع و يوشك غضب الشّعب أن ينفجر بطريقة سيعجز الجميع عن تأطيرها و الإحاطة بها، فالجوع كافر و اليأس قاتل و من يفقد الأمل في الحاضر لن يأبه أبدا للمستقبل … و لعلّ الأيّام القادمة تحمل الجديد خاصّة بعد خطاب الطبوبي بالأمس و بعد المبادرة التي يعدّ لها الاتحاد و من معه من منظمات و يوم 26 جانفي في البال …