” هذه هي تونس الجديدة بعد 25 جويلية” هكذا تندر التوانسة على خبر توجه إحدى الفتيات لخطبة حبيبها
وواضح طيلة الأيام الماضية أن كثيرين يعلقون آمالا كبيرة على تونس بعد 25 جويلية.. و من حق الجميع أن يحلم و أن يأمل في غد أفضل.. العاطل و العامل، الجاهل و المتعلم، ابن الريف و ابن المدينة ، الفقير و الغني، المرأة و الرجل، المسلم و غير المسلم، الشاب و الشيخ…. كل تونسي من حقه أن يبني في خياله ما يريد…
ألم يكن شعار قيس سعيد في انتخابات 2019 ” الشعب يريد”، ألم يفتح قيس سعيد باب الحلم أمام جزء كبير من الشعب ليلة 25 جويلية بتأويله الخاص للفصل 80؟
و لكن ماذا يريد هذا الشعب فعلا ؟ فيم يرغب و بم يحلم؟ هل هناك مشروع مشترك بين أبنائه؟ هل هناك تصور مشترك لتونس ما بعد 25 جويلية؟ هل الشعب واحد أم متعدد؟
هل بما رأيناه طيلة الأيام الفائتة من رغبة في الاستئصال الجماعي نحن قادرون على البناء المشترك؟
إن ما رأيناه من حملات ممنهجة لتشويه الخصوم عن حق و عن باطل و من إشاعات و افتراءات يتجاوز فكرة المحاسبة إلى عقلية الحقد و الكره حيث انقلبت الموازين و صار الجميع مطالبا بإثبات براءته فكل رجل أعمال هو سارق ما لم يُثبِت العكس و كل موظف هو مرتش ما لم يُثبِت العكس و كل إعلامي هو متواطئ و خائن ما لم يُثبِت العكس و كل مسؤول هو فاسد ما لم يُثبِت العكس…
ماذا بعد تخميرة الأيام الأولى و رغبة الغالبية في المحاسبة (التي بلغت درجة التشفّي أحيانا) و شماتة الكثيرين في النهضة التي تغوّلت و في رئيسها و عدد كبير من قياداتها الذين جثموا طيلة عقد كامل على صدور التوانسة و على مفاصل الدولة و تبادلوا الأدوار في مسرحيات سمجة…
ماذا بعد هذه التخميرة ؟ ما الذي يجب فعله لتصبح تونس أفضل؟ هل القائد وحده ( قيس سعيد) قادر على إحداث الأثر و التغيير المطلوبين؟ خاصة و أن قراراته و كل إجراءاته _ حتى اليوم _ قائمة على كره النهضة و تصفية حساباته مع رموزها و باراشوكاتها و كل كلماته التي تبثها صفحة رئاسة الجمهورية مبنية على هذه الفكرة فهم الآخرون و المتسللون و المنافقون و المفسدون و الفيروسات السياسية الذين سيحاربهم و يحاكمهم و يبعدهم..
سعيد إلى اليوم لم يتوجه إلينا بتصور لما يريده لتونس بعد ستة أشهر مثلا، ليست لدينا فكرة عن توجهات الحكومة التي ستقود البلاد طيلة الفترة القادمة و لا عن أولوياتها و خططها و الملفات التي ستشتغل عليها ، بل أكثر من ذلك نحن إلى اليوم و بعد حوالي نصف شهر لا نعرف من سيكون رئيس الحكومة القادم و إن بدأنا نتعرف على بعض المكلفين بتسيير الوزارات على طريقة الري قطرة قطرة…
كيف سيكون وضع الأحزاب، كيف ستكون علاقته مع المنظمات الوطنية، هل ستُجرى انتخابات سابقة لأوانها ، هل سيقع تغيير النظام الانتخابي و وفق أية آليات ، هل سيقع تعديل النظام السياسي و نحو أي اتجاه…
إن جبهات عديدة مفتوحة و تساؤلات أكثر منها مطروحة مازالت لا تجد إجابة إلى اليوم و لا أعتقد أن مهلة الثلاثين يوما التي حددها الرئيس في بيان 25 جويلية كافية للإجابة عنها
ماذا سيفعل الرئيس و قد صار الممسك بكل السلط و المسؤول الأوحد أمام الشعب لمجابهة الوضع الاقتصادي المنهار و تفاقم مشاكل المالية العمومية؟ فلئن نجح البنك المركزي في خلاص قسط الدين بتاريخ 5 أوت فكيف سيكون الوضع في قادم الأشهر خاصة بعد أن ارتفع سقف أحلام التونسيين الذين و إن أسكتتهم اليوم بعض إجراءات المحاسبة و بعض خطابات الرئيس المهدِدة و المنددة بالغلاء و الاستغلال و المطالبة بتوفير المواد و تخفيض الأسعار فإن أصواتهم سترتفع في قادم الأيام للمطالبة بالتشغيل و الانتداب و تحسين الأجور و تطوير البنية التحتية… فحتى شعار “خبز و ماء و هاذاكا لا، و إلا هاذوكم لا..” لن يطول صبر الناس عليه كثيرا خاصة أن رئيس الدولة ما فتئ يردد كل مرّة أمام ضيوفه و متوجها إلى الشعب أن تونس دولة غنية لكنها منهوبة و أموالها هُرّبت إلى الخارج. و خطاب كهذا لا بد أن يجعل الشعب يحلم بأنه ينعم بثراء بلاده و يتمتع بثرواتها…
فهل أن تونس هي فعلا بلد غني كما يقول سعيد.. هل لتونس فعلا ما يكفي من الموارد لتعيش في رخاء؟
إن تونس بلغة الأرقام تنتمي إلى مجموعة الدول الفقيرة فهي بحساب التقارير العالمية في المرتبة 126 من 193 دولة، حيث أن معدل الدخل السنوي للفرد أقل من 4000 دولار فيما بلغ الدين الخارجي حوالي 30 مليار أورو أي تقريبا 90٪ من الناتج الإجمالي المحلي و يعاني الاقتصاد من نسبة نمو سلبية تقدر بـإلاّ 8٪
أما الثروات الباطنية من بترول و غاز فهي عاجزة عن تحقيق اكتفائنا الذاتي كما أن الفوسفات حتى و إن عاد إلى معدل الإنتاج الذي كان عليه سنة 2010 فهو لن يوفر أكثر من ملياري دولار كقيمة معاملات…
إن هذه الأرقام تبيّن أن البلاد ليست غنية كما يقول سعيد و شعبها يعيش من القروض الخارجية و هي في حاجة إلى إصلاحات سريعة كما طالب بذلك صندوق النقد الدولي منذ سنوات.. إصلاحات قوامها أساسا الضغط على كتلة الأجور و ما يعنيه ذلك من إيقاف للانتدابات و للزيادات و إيقاف نزيف المالية العمومية و خاصة فيما يتعلق بصندوق الدعم و يكفي إلقاء نظرة بسيطة على قيمة ديون شركات الكهرباء و استغلال المياه و ديوان الحبوب لمعرفة حجم الإصلاحات الضرورية و هو ما يقتضي إجراءات غير شعبية كان كل رؤساء الحكومات يهربون منها فهل سيقدم عليها سعيد و يغامر بفقدان شعبيته؟
إن الرئيس يورّط نفسه بتصريحات كتلك فحتى و إن كانت رغبته صادقة في إيقاف نزيف المالية العمومية و في التقليص من حجم الفساد و التهرب الضريبي و في استعادة ما أمكن من الأموال من الخارج فإن هذا يحتاج سنوات طويلة من العمل و قدرة على تطبيق القانون و تعاونا بين الحاكم و المحكوم.. فهل سيكون بوسع التونسيين أن يصبروا و أن ينخرطوا في هذا التمشي إن لم يخرج إليهم بخطاب هادئ مطمئن غير متشنج يقطع مع الصور التي تعودناها منه و يحادثهم بلغة الواقع و الأرقام و يبني معهم مشروعا مشتركا تكون فيه الأولوية لتحسين الأوضاع الاقتصادية بمشاريع حقيقية بنّاءة بعيدا عن شعبوية الدعوات إلى التقليص من أسعار بعض المواد الاستهلاكية رغم مشروعيتها و انخراط البعض فيها عن خوف لا عن إرادة حقيقية
إن على الرئيس إن أراد تحصين شعبيته في قادم الأيام و ضمان البقاء في قصر قرطاج لدورة رئاسية ثانية أن يخطب ودّ الشعب كل الشعب غنيّه و فقيره بتكريس القانون و بتغيير المنوال الاقتصادي بإجراءات ينخرط فيها الجميع عن وعي و اقتناع دون تهديد و وعيد… و بتغيير النظام السياسي بطريقة تضمن لكلّ من لم يخُن و لم يُفسِد بالتواجد في المشهد… و بالاتفاق مع الجميع على خارطة طريق واضحة بعيدا عن كل التأثيرات و التوجيهات الخارجية و النأي بتونس عن لعبة المحاور الإقليمية. أي أن يكون رئيس كل التونسيين بمختلف انتماءاتهم لا رئيس أنصــــاره و مريديه فحسب ، و حينها ستزف اليه تونس عروسا راغبة غير متمنّعة