تابعنا على

جور نار

في اليوم العالمي للإذاعة

نشرت

في

في السنوات الخمسين كانت تجتمع كل العائلة لمشاهدة الرّاديو، أمّا اليوم فقد ترذّلت الصّورة إلى درجة أصبح معها الناس يستمعون إلى التلفزة.  الإذاعي الفرنسي بيار  بوتييّي.

صادقت الجلسة العامة للأمم المتحدة سنة 2012 على اعتبار يوم 13 فيفري من كل عام يوما عالميا للإذاعة باعتبارها “أداة قوية للاحتفاء بالإنسانية في كامل تنوّعها ومنصّة للخطاب الديمقراطي،.. تُسمع فيها كل الأصوات  وتتعدّد فيها البرامج ووجهات النظر.”

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

وتحتفل شعوب الأرض هذه السنة باليوم العالمي للإذاعة تحت شعار “الإذاعة والثقة”، ويمكن أن تُعاد صياغة هذا الشعار على معنى “هل يجب أن نثق بالإذاعة والإذاعيّين” أو “أي ثقة للمواطن في الإذاعات التي يستمع إليها ؟” أو كذلك “هل ما يزال ما تُذيعه المحطات الهرتزيّة محلّ ثقة في زمن مُعوْلم تتنافس فيه المواقع والمنابر الرقميّة والمنصّات على كسب رهان الأوديمات”؟ (بالمناسبة، بإمكانكم الاستماع بشكل مباشر  إلى أية إذاعة من إذاعات العالم على منصّة radio garden  القابلة للتّحميل المجاني على الهواتف والحواسيب).

كان جيل النصف الثاني من القرن الماضي يتعامل مع المذياع باعتباره “صندوق عجب” شكّل واحدة من أغرب باكورات الثورة التكنولوجية مع التلفاز والتصوير بالأشعة وحبوب منع الحمل والاسطوانة الموسيقية والثلاجة والهاتف والأبواب الآلية والجيل الأول من الحواسيب والكهرباء المنزلية… فكان الشباب يأخذ لنفسه صورا و”التيساف” (تليغراف لاسلكي TSF) على كتفيه مثلما يُسلفي جيل آخر من الشباب اليوم أمام برج إيفيل في باريس أو سور الـ 20 ألف كيلومتر الصيني. وفي السياق التونسي، كان المزاج الوطني العام يتشكّل على نسق المدائح والأذكار في الصباح الباكر ووجبات متقاربة من توجيهات الزعيم ونشرات إخبارية تُمعن في إذاعة هزائمنا على كل الجبهات وانتصارات الشعوب الأخرى في العلم والتصنيع وجودة الحياة و… برنامج أسبوعي (أعتبره شخصيا برنامجا ينبع من فكرة بَلْديّة بائسة تتأسّس على ضرورة تخصيص مساحة ما لهذا الريف الشاسع الحزين والغارق في أهازيجه البدويّة) هو “قافلة تسير” فهمنا بعد عقود أنها قوافل تائهة تسير نحو الخلاء والبيداء…

ولكن كانت ثمّة وجوه أخرى في تجربتنا البِكر مع الإذاعة التونسية يجدر التنويه بها لأنها ظلت أرفع مستوى – رغم حداثة التجربة ونقص الموارد وضعف التكوين التقني المتخصص- من موجات القصف الإذاعي العشوائي الذي نتعرض له يوميا خلال السنوات الأخيرة.

ما هي أسماء إذاعاتنا اليوم ؟

يبدو أن إسناد أسماء إضافية تجميلية لمحطاتنا الإذاعية في القطاعين العام والخاص هو تقليد تونسي صِرف، فنسمّي الإذاعة الوطنية أم الإذاعات، وموازاييك الإذاعة الأولى في تونس، وإي اف أم أحلى راديو، وإذاعة تونس الثقافية صوت إرادة الحياة، وإذاعة المنستير عروس البحر، وإذاعة جوهرة الدنيا وما فيها، الخ… وهو تقليد لا نجد مثيلا له في كبرى الإذاعات العالمية مثل سكايروك وفرانس أنتار و أرتي آل وأوروب 1 وفيرجين وفرنسا الثقافية… ربما لأن تقليد مُضاعفة مكانة المنعوت من خلال اجتراح نعوت يعتقد صاحبها أنها تضيف معاني وأوصافا وبيانات حتى وإن كانت لا تتوفر تلقائيا في الشيء أو الشخص الموصوف، ضارب في تاريخنا الحضاري والسياسي والفني.  (مثل المجاهد الأكبر و رجل التغيير و شحرور الخضراء وكروان الإذاعة وكوكب الشرق…).

في أصناف المذيعين والمذيعات:

بالرغم من وجود فئة من الإذاعيين الذين يحرصون على تعهّد أصواتهم وتدريبها وتدليكها وتجويدها (تماما كما يعتني رياضيو النخبة بأرجلهم وعضلاتهم) وينتبهون إلى تفاصيل اللغة وإتقان فنون البلاغة مثل حسن التعبير والتلطّف في الكلام واستبدال تعبير غير سار بآخر أكثر مقبولية منه ويطّلعون على كل ما يحدث في الوطن وخارجه… تُلاحقنا أثيريّا فئة أخرى من المذياعيين الشّامتين في اللغة العربية (أو قل العربية المائلة إلى العامية التونسية بمقدار، ولكن تكون لطيفة ومستحبّة وفي غير تنافر مع ما يتكلّمه أغلب التونسيين) والمُعتقدين أنه ليس من الضروري العمل بعناء لمدة ساعات قبل الحصة المبرمجة لإجراء محاورة ناجحة مع فنان أو أديب أو خبير في مجال ما، وأنه تكفي ثلاثة أو أربعة أسئلة “عوّامة” من نوع “ماذا تقول للمستمعين؟” أو “كيف ولدت لديك فكرة إنجاز هذا العمل” أو “ما هي وجهتك- عملك- محطتك … القادمة ؟” للإيهام بأن العمل أُنجز … ولكن دون فرادة أو تميّز أو تفوّق يذكر.  

وهناك أيضا فئة :

  • من البارعين جدا في استعمال التعابير الكسولة الجاهزة مثل “التفكك الأسري” و”التسرب المدرسي” و”التمسك بتعاليم ديننا الحنيف” و”مساهمة المجتمع المدني في مؤازرة العائلات محدودة الدخل” و “الواجبات المحمولة على الدولة” و “الخبر مقدس والتعليق حرّ” و “التحكّم في مسالك التوزيع”، إلخ … والتي تشي بأن صاحبها يكتفي بالسباحة على سطح اللغة لا في أعماقها.
  • ممّن ليس لديهم كبير مشكل مع الخطاب الحوماني المؤثّث بتعابير مثل “حاجة واو خشينة برشة هاذي ” والترهدين والتسكبين ونريسكي ونبوجي ويكمبص ويكونسومي ومريقل ويتهيبل” الخ… تماهيا مع ما “يطلبه المستمعون” والانخراط في روح العصر.
  • من المذيعات اللواتي تحرصن على تحريك شفاههن وألسنتهنّ بطريقة تحاول الاقتراب من نطق الباريسيين لحرف الرّاء والسعي المحموم إلى إصدار أصوات قطنية ممشوقة وتكتفين بجمل فرنسية سائلة يتعلّمها أطفال التحضيري هناك.

الإذاعة التونسية : هل تأسّست الثقة بعد الثورة ؟

تحررت المصادح بعد الثورة بشكل كبير وانعتقت الحناجر المغلولة وتدفّقت موجات الكلام تلو الكلام عبر الأثير…ولكن سرعان ما أدرك الحُكّام الجدد أهمية الدور الذي تلعبه الإذاعات والتلفزات في توجيه الرأي العام فسعوا إلى إحكام قبضتهم على إدارة هذه المؤسسات وانتداب “المعلّقين” و “المدوّنين” و “الحاضرين في كل مندبة” (أو الكرونيكورات في لغة المحدثين) للإفتاء في كل كبيرة وصغيرة سواء تعلق الأمر بالكتاتيب أو ببرلمان الألاعيب وحتى السحر العجيب في جلب الحبيب.

حتى أن بعضهم بات من أصحاب النفوذ “الأثيري” يُلمّع هذا ويسوّد ذاك ويقرب هذا ويستبعد ذاك بحيث يتراجع الهدف الأسمى من العمل الإذاعي لفائدة أجندة خاصة تناقَش تفاصيلها في الزوايا القصيّة بكبرى النزل والصالونات.

أما البعض الآخر، فاختلط عليه الأمر وأصبح لا يفرق بين جُرأة الأداء وقلة الحياء فلا يمتنع مثلا عن مناداة رئيس الجمهورية بشكل سُوقي “يا سي قيس سعيد فيق على وضعك” ويسمح لنفسه بالتطاول على المربين والأطباء والوزراء والناس أجمعين… والحال أن مستواه في أسفل السّافلين.

وأختم هنا بمثال حيّ، حيث كنت أستمع إلى عشرات الإذاعات التي تبثّ عبر الويب للاستئناس بها في صياغة هذه الورقة، كانت الطّرفة التالية بتاريخ السبت 12 فيفري ليلا :

المذيع (ديوان أف أم) متوجها لشاب متسابق بعد سؤال حول أصل تعبير لغوي غريب شيئا ما، والإجابة الصحيحة كانت كمبوديا : هل تعرف أين تقع كمبوديا ؟ أجاب الشاب “لا والله ما عندي حتى فكرة”.

فكان تعقيب المذيع : ” كمبودجا ؟ والله كيفي كيفك لا نعرف عليها وين موجودة، برّة نتعدّاو للسؤال الموالي”.  

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار