جور نار

في اليوم العالمي للإذاعة

نشرت

في

في السنوات الخمسين كانت تجتمع كل العائلة لمشاهدة الرّاديو، أمّا اليوم فقد ترذّلت الصّورة إلى درجة أصبح معها الناس يستمعون إلى التلفزة.  الإذاعي الفرنسي بيار  بوتييّي.

صادقت الجلسة العامة للأمم المتحدة سنة 2012 على اعتبار يوم 13 فيفري من كل عام يوما عالميا للإذاعة باعتبارها “أداة قوية للاحتفاء بالإنسانية في كامل تنوّعها ومنصّة للخطاب الديمقراطي،.. تُسمع فيها كل الأصوات  وتتعدّد فيها البرامج ووجهات النظر.”

<strong>منصف الخميري<strong>

وتحتفل شعوب الأرض هذه السنة باليوم العالمي للإذاعة تحت شعار “الإذاعة والثقة”، ويمكن أن تُعاد صياغة هذا الشعار على معنى “هل يجب أن نثق بالإذاعة والإذاعيّين” أو “أي ثقة للمواطن في الإذاعات التي يستمع إليها ؟” أو كذلك “هل ما يزال ما تُذيعه المحطات الهرتزيّة محلّ ثقة في زمن مُعوْلم تتنافس فيه المواقع والمنابر الرقميّة والمنصّات على كسب رهان الأوديمات”؟ (بالمناسبة، بإمكانكم الاستماع بشكل مباشر  إلى أية إذاعة من إذاعات العالم على منصّة radio garden  القابلة للتّحميل المجاني على الهواتف والحواسيب).

كان جيل النصف الثاني من القرن الماضي يتعامل مع المذياع باعتباره “صندوق عجب” شكّل واحدة من أغرب باكورات الثورة التكنولوجية مع التلفاز والتصوير بالأشعة وحبوب منع الحمل والاسطوانة الموسيقية والثلاجة والهاتف والأبواب الآلية والجيل الأول من الحواسيب والكهرباء المنزلية… فكان الشباب يأخذ لنفسه صورا و”التيساف” (تليغراف لاسلكي TSF) على كتفيه مثلما يُسلفي جيل آخر من الشباب اليوم أمام برج إيفيل في باريس أو سور الـ 20 ألف كيلومتر الصيني. وفي السياق التونسي، كان المزاج الوطني العام يتشكّل على نسق المدائح والأذكار في الصباح الباكر ووجبات متقاربة من توجيهات الزعيم ونشرات إخبارية تُمعن في إذاعة هزائمنا على كل الجبهات وانتصارات الشعوب الأخرى في العلم والتصنيع وجودة الحياة و… برنامج أسبوعي (أعتبره شخصيا برنامجا ينبع من فكرة بَلْديّة بائسة تتأسّس على ضرورة تخصيص مساحة ما لهذا الريف الشاسع الحزين والغارق في أهازيجه البدويّة) هو “قافلة تسير” فهمنا بعد عقود أنها قوافل تائهة تسير نحو الخلاء والبيداء…

ولكن كانت ثمّة وجوه أخرى في تجربتنا البِكر مع الإذاعة التونسية يجدر التنويه بها لأنها ظلت أرفع مستوى – رغم حداثة التجربة ونقص الموارد وضعف التكوين التقني المتخصص- من موجات القصف الإذاعي العشوائي الذي نتعرض له يوميا خلال السنوات الأخيرة.

ما هي أسماء إذاعاتنا اليوم ؟

يبدو أن إسناد أسماء إضافية تجميلية لمحطاتنا الإذاعية في القطاعين العام والخاص هو تقليد تونسي صِرف، فنسمّي الإذاعة الوطنية أم الإذاعات، وموازاييك الإذاعة الأولى في تونس، وإي اف أم أحلى راديو، وإذاعة تونس الثقافية صوت إرادة الحياة، وإذاعة المنستير عروس البحر، وإذاعة جوهرة الدنيا وما فيها، الخ… وهو تقليد لا نجد مثيلا له في كبرى الإذاعات العالمية مثل سكايروك وفرانس أنتار و أرتي آل وأوروب 1 وفيرجين وفرنسا الثقافية… ربما لأن تقليد مُضاعفة مكانة المنعوت من خلال اجتراح نعوت يعتقد صاحبها أنها تضيف معاني وأوصافا وبيانات حتى وإن كانت لا تتوفر تلقائيا في الشيء أو الشخص الموصوف، ضارب في تاريخنا الحضاري والسياسي والفني.  (مثل المجاهد الأكبر و رجل التغيير و شحرور الخضراء وكروان الإذاعة وكوكب الشرق…).

في أصناف المذيعين والمذيعات:

بالرغم من وجود فئة من الإذاعيين الذين يحرصون على تعهّد أصواتهم وتدريبها وتدليكها وتجويدها (تماما كما يعتني رياضيو النخبة بأرجلهم وعضلاتهم) وينتبهون إلى تفاصيل اللغة وإتقان فنون البلاغة مثل حسن التعبير والتلطّف في الكلام واستبدال تعبير غير سار بآخر أكثر مقبولية منه ويطّلعون على كل ما يحدث في الوطن وخارجه… تُلاحقنا أثيريّا فئة أخرى من المذياعيين الشّامتين في اللغة العربية (أو قل العربية المائلة إلى العامية التونسية بمقدار، ولكن تكون لطيفة ومستحبّة وفي غير تنافر مع ما يتكلّمه أغلب التونسيين) والمُعتقدين أنه ليس من الضروري العمل بعناء لمدة ساعات قبل الحصة المبرمجة لإجراء محاورة ناجحة مع فنان أو أديب أو خبير في مجال ما، وأنه تكفي ثلاثة أو أربعة أسئلة “عوّامة” من نوع “ماذا تقول للمستمعين؟” أو “كيف ولدت لديك فكرة إنجاز هذا العمل” أو “ما هي وجهتك- عملك- محطتك … القادمة ؟” للإيهام بأن العمل أُنجز … ولكن دون فرادة أو تميّز أو تفوّق يذكر.  

وهناك أيضا فئة :

  • من البارعين جدا في استعمال التعابير الكسولة الجاهزة مثل “التفكك الأسري” و”التسرب المدرسي” و”التمسك بتعاليم ديننا الحنيف” و”مساهمة المجتمع المدني في مؤازرة العائلات محدودة الدخل” و “الواجبات المحمولة على الدولة” و “الخبر مقدس والتعليق حرّ” و “التحكّم في مسالك التوزيع”، إلخ … والتي تشي بأن صاحبها يكتفي بالسباحة على سطح اللغة لا في أعماقها.
  • ممّن ليس لديهم كبير مشكل مع الخطاب الحوماني المؤثّث بتعابير مثل “حاجة واو خشينة برشة هاذي ” والترهدين والتسكبين ونريسكي ونبوجي ويكمبص ويكونسومي ومريقل ويتهيبل” الخ… تماهيا مع ما “يطلبه المستمعون” والانخراط في روح العصر.
  • من المذيعات اللواتي تحرصن على تحريك شفاههن وألسنتهنّ بطريقة تحاول الاقتراب من نطق الباريسيين لحرف الرّاء والسعي المحموم إلى إصدار أصوات قطنية ممشوقة وتكتفين بجمل فرنسية سائلة يتعلّمها أطفال التحضيري هناك.

الإذاعة التونسية : هل تأسّست الثقة بعد الثورة ؟

تحررت المصادح بعد الثورة بشكل كبير وانعتقت الحناجر المغلولة وتدفّقت موجات الكلام تلو الكلام عبر الأثير…ولكن سرعان ما أدرك الحُكّام الجدد أهمية الدور الذي تلعبه الإذاعات والتلفزات في توجيه الرأي العام فسعوا إلى إحكام قبضتهم على إدارة هذه المؤسسات وانتداب “المعلّقين” و “المدوّنين” و “الحاضرين في كل مندبة” (أو الكرونيكورات في لغة المحدثين) للإفتاء في كل كبيرة وصغيرة سواء تعلق الأمر بالكتاتيب أو ببرلمان الألاعيب وحتى السحر العجيب في جلب الحبيب.

حتى أن بعضهم بات من أصحاب النفوذ “الأثيري” يُلمّع هذا ويسوّد ذاك ويقرب هذا ويستبعد ذاك بحيث يتراجع الهدف الأسمى من العمل الإذاعي لفائدة أجندة خاصة تناقَش تفاصيلها في الزوايا القصيّة بكبرى النزل والصالونات.

أما البعض الآخر، فاختلط عليه الأمر وأصبح لا يفرق بين جُرأة الأداء وقلة الحياء فلا يمتنع مثلا عن مناداة رئيس الجمهورية بشكل سُوقي “يا سي قيس سعيد فيق على وضعك” ويسمح لنفسه بالتطاول على المربين والأطباء والوزراء والناس أجمعين… والحال أن مستواه في أسفل السّافلين.

وأختم هنا بمثال حيّ، حيث كنت أستمع إلى عشرات الإذاعات التي تبثّ عبر الويب للاستئناس بها في صياغة هذه الورقة، كانت الطّرفة التالية بتاريخ السبت 12 فيفري ليلا :

المذيع (ديوان أف أم) متوجها لشاب متسابق بعد سؤال حول أصل تعبير لغوي غريب شيئا ما، والإجابة الصحيحة كانت كمبوديا : هل تعرف أين تقع كمبوديا ؟ أجاب الشاب “لا والله ما عندي حتى فكرة”.

فكان تعقيب المذيع : ” كمبودجا ؟ والله كيفي كيفك لا نعرف عليها وين موجودة، برّة نتعدّاو للسؤال الموالي”.  

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version