جور نار
المجلس الأعلى للتربية … ما لا يجب أن يُقترف !
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriبداية، ما لُزوم هيئة مُجرّدة من أية صلاحيّات تقريرية يجتمع في لجانها المتخصصة الخبراء وجميع الشركاء في الشأن التربوي والتعليمي والتكويني، من أجل إبداء الرأي في جملة القضايا المتعلقة بتكوين الناشئة وإعداد مستقبلها وتسيير المرفق التربوي عموما وحوْكمته ؟
المجالس العليا للتربية في عديد بلدان العالم هي هياكل استشارية تُعنى بالتنسيق والتوجيه والمتابعة والتقييم واقتراح اتخاذ القرارات على الحكومات. وباعتبار خصوصية هذا المرفق الاستراتيجي وحيويّته وتشابك العلاقات صلبه وتعدد الأطراف المتدخّله فيه وتنوّعها، وبحكم تشظّي مكوّناته وتوزّعها على أكثر من وزارة وجهة رسمية، وكذلك اعتبارا لكون التربية والتعليم والتكوين هي مجالات خِبرة وتخصّص دقيقين، فإنه لا يمكن لأية حكومة سياسية مهما علا مستوى اقتدار أعضائها أن تُبدي النظر الدقيق والمختص فيها دون الرجوع إلى ما يقوله الخبراء والمختصون وأهل المهنة وجميع الشركاء الآخرين. …
وعليه، فإن وجود مثل هذه الهيئة قد يساهم بشكل كبير في تجاوز عديد الإشكاليات التي أعاقت تاريخيا التوصّل إلى حلول مُقنعة لشتّى معضلات مدرستنا التونسية، مثل تحديد الأطراف المشاركة في الحوار الوطني حول التربية والتعليم، وفق أية نسب تمثيليّة، من يؤمّن التنسيق بين مختلف وِجهات النظر، أيّة آليات للتعديل وحسم الاختلافات في الرؤى والتصورات… ؟
ولكن تحقيق هذا الهيكل الاستشاري المستقل للأهداف التي سيُبعث من أجلها مرتبط إلى حدّ ما حسب اعتقادي بشرط أن لا “يتتوْنس” كثيرا، لا بمعنى ضرورة تبيِئتِه وجعله يراعي مختلف خصوصيّاتنا وإرثنا وعقليّتنا وظروفنا الخ… بل على معنى أن لا يُعيد إنتاج عديد التجارب السابقة مع هيئات وطنية مستقلة أخرى شُحذت السّكاكين من أجل افتكاك مواقع نفوذ فيها أو تمّ السطو عليها واستخدامها في تصفية الحسابات وتمرير أجندات لا تمتّ بصلة للغايات التي بُعثت من أجلها… أو ظلت يافطة لمّاعة تستخدمتها السلطة القائمة لإقناع الهيئات الدولية المانحة بأن “تونس على الطريق المستقيم”.
والتونسيون بصورة عامة بارعون جدا في الالتفاف المُحكم على أي إجراء أو آليّة يتمّ إقرارها :
– إذ تمّ إقرار إجراء احتساب المعدّل السنوي للتلميذ بنسبة 25 % في امتحان الباكالوريا (لجعل التلميذ يستفيد من مجهوده وكدّه أثناء السنة الدراسية … في جزء من فلسفة هذا الإجراء على الأقل كما هو معمول به في عديد بلدان العالم) ولكن سرعان ما اكتظّت المعاهد الخاصة بالتلاميذ الراغبين في “شراء” معدلات مرتفعة جدا تكون حاسمة في المعدّل النهائي ! أذكر في هذا الخصوص بأن معهدا خاصا بالعاصمة كان يدرّس أكثر من 1000 تلميذ في الباكالوريا (أي ما يعادل 30 قسما تقريبا).
– وتمّ إقرار مادّة “إنجاز مشروع” كمادّة اختيارية سنة إجراء امتحان الباكالوريا، فاكتظّت الأسواق والدكاكين بمجموعات هائلة من التلاميذ يشترون مشاريع جاهزة مقابل آلاف الدنانير … ولكن مع ضمان “عشرينات كاملة” في تلك المادة تُحتسب بسخاء في الباكالوريا.
– وتمّ إقرار التمييز الإيجابي لفائدة الجهات الداخلية في التوجيه الجامعي نحو بعض الشًعب صعبة المنال، فهاجر بعض تلاميذ المناطق الساحلية نحو الداخل لضمان التفوّق ضمن جمهور غير متمرّن بشكل جيد على ما قاله أحمد شوقي “وما نيل المطالب بالتمنّي…”
فرجائي بالتالي هو أن نُتوْنس هذه الهيئة إن كُتب لها أن ترى النور بالشكل الإيجابي الذي يجعلنا نتخطّى عجزنا وخيباتنا لا بالشكل الذي كنت بصدد الحديث عنه.
ينصّ الدستور الجديد في بابه الثامن وبالفصل 135 على بعث المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي “يتولّى إبداء الرأي في الخطط الوطنية الكبرى في مجال التربية والتعليم والبحث العلمي والتكوين المهني وآفاق التشغيل.“
يمكن لأي مطّلع ولو بصورة جزئية أن فكرة بعث آلية عليا تسهر على حوْكمة الشأن التربوي والتعليمي هي فكرة قديمة جدا، فكان أول مجلس أعلى للتربية في تونس سنة 1888 وكان اسمه المجلس الأعلى للمعارف “يعطي رأيه في الإصلاحات وفي الميزانية وفي التأديب بالنسبة لأعضاء التعليم”. ثم المجلس الأعلى للتربية القومية سنة 1958 إلى أن جاء القانون التربوي عدد 65 لسنة 1991 والأمر الحكومي عدد 2260 المؤرخ في 10 أكتوبر 2000 اللذان يؤسّسان نفس الآلية لتشريك “المجتمع” في ضبط السياسات التربوية والتعليمية العامة والمساهمة في رسم ملامح المدرسة التي يحلم بها عموم الناس.
نحن إذن أمام محاولة متكرّرة تسعى إلى تأسيس آلية وطنية مستقلّة تسهر على تطوير أداء مدرستنا التونسية من خلال تقديم المقترحات ولفت النظر إلى مواطن الخلل وإبداء الرأي في السياسات المتّبعة… وكل رجاؤنا أن ألا يُكتب لها الموت الجنيني مثل سابقاتها وتكون من الملفّات المنسيّة بمجرّد أن تتغيّر الحكومات ويتبدّل الأشخاص.
لن أتحدّث في ما يجب أن يكون عليه المجلس الأعلى للتربية وتركيبته وصلاحيّاته ومجالات تدخّله وكيفية اشتغاله هياكله ولجانه الخ… وإنما سأحاول قدر الإمكان لفت الانتباه إلى ما لا يجب أن يقع فيه هذا المجلس صوْنًا له كمكسب وطني وضمانا لديمومته واكتسابه فاعلية حقيقية بالنظر إلى حجم الانهيارات والأزمات المتتالية :
واحد : المجلس الأعلى للتربية هو أساسا مجال للخِبرة والتخصّص… وليس مجالا “برلمانيا” نُطبّق فيه التمثيلية الشكلية لكل الرؤى والتوجّهات لأن التربية لا علاقة لها بسياسة “السياسيين” بقدر ما لها علاقة بتوجّهات فلسفية وتربوية وثقافية عامة هي اليوم بصدد إحداث نقلات نوعية في المنظومات التربوية الأكثر تطورا في العالم.
إثنان : تجاوز معضلة تمثيلية الأولياء والتلاميذ وكافة المعنيين والمتدخّلين في الشأن التربوي التي عطّلت تاريخيا إحداث “مجلس المؤسسة” و “مشروع المؤسسة” تحت ضغط شعارات نقابية لا تستقيم كثيرا حسب اعتقادي. فبأي منطق نُقصي التلاميذ من إبداء أرائهم داخل هذا المجلس والحال أن كل قراراته ونقاشاته وسياساته المقترحة…محورها الأساسي وهدفها النهائي هو التلميذ ؟
ثلاثة : المدة التمثيلية لا يجب أن تكون نفسها بالنسبة إلى مختلف الأطراف الممثلة داخل المجلس باعتبار أن تلميذ اليوم سيصبح طالبا في ظرف وجيز والولي المعني اليوم غير معني غدا.
أربعة : من الضروري أن يكون المجلس الأعلى للتربية ممثلا للتربية والتعليم العالي والبحث العلمي والتكوين المهني… ولكن مع الانتباه إلى أهمية أن تكون تمثيلية التربية هي الأهم وأن تكون تمثيلية التعليم العالي والتكوين المهني بقدر ارتباط التربية بهذين المرفقين والانسجام مع مهمة التنسيق والتكامل بين الوزارات الثلاث في ما يخص مخرجات التربية.
خمسة : سيكون هذا المجلس هيئة استشارية بالتأكيد مهمته الأساسية التفكير الاستراتيجي في قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي ولكن لا يجب أن تكون استشارة بنكهة “جئتُ أستشيركم في سياسة قرّرتُها” بل يتوجّب أن تُتّخذ كل الاحتياطات الإجرائية والقانونية من أجل ضمان إنفاذ الإصلاحات المقترحة والحائزة على أوسع توافق ممكن داخل هيئات هذا المجلس.
ستة : من المفروض ألا يتحوّل المجلس الأعلى للتربية إلى “منتدى فكري حرّ لتطارح النظريات والمقاربات” بل من المفروض أن يكون ورشة كبيرة للخوض في كبرى المسائل التربوية والتعليمية والتكوينية والانتهاء إلى صيغ وحلول ورسم آفاق للتجاوز ويتعيّن أن يُكسِب صاحب القرار قوة معنوية في إنفاذ الإصلاحات والإجراءات المقترحة.
سبعة : لا يجوز استبعاد أية كفاءة أو صاحب رأي يُعتدّ به على قاعدة “الانتماء الفكري أو السياسي المحتمل لهذا أو ذاك” طالما أن القاسم المشترك بين جميع الذين سينتمون إلى هذا المجلس هو مدرسة الجمهورية بمبادئها وقيمها الإنسانية الكبيرة القائمة على الحياد والمواطنة والفكر النقدي ونبذ العنف والتطرف والعيش المشترك …
ثمانية : لا خطوط حمراء في الإصلاحات المرتقبة والتي من المفروض أن يتولى أعضاء المجلس التداول بشأنها والتصديق عليها. فلا إصلاح حقيقي في تقديري بدون التحلي بالجرأة “الرمزية” على زعزعة بعض الثوابت وإجراء مراجعات كلية وعميقة في العديد من المجالات … مع المحافظة قدر الإمكان على استقرار الموارد البشرية المُتاحة ولكن بتوزيع جديد. فالتخلي عن شعب دراسية معينة وإعادة هيكلة أخرى أو بعث مسالك جديدة أو مراجعة منظومة المواد الاختيارية أو كذلك إعادة النظر في المؤسسات التربوية النموذجية … هي إجراءات قد تكون تداعياتها كبيرة لكنها ضرورية ولا مناص منها إن كنّا نطمح إلى إصلاحات حقيقية ترتقي بمدرستنا.
تسعة : تجنّب تمتيع أعضاء المجلس الأعلى للتربية بأي نوع من الامتيازات حتى تكون الرغبة في الانتماء إلى هذا الهيكل قائمة فحسب على التطوّع والالتزام الشخصي والإرادة الصادقة في جعل مدرستنا ذكيّة ومُبادِرة ومُنصفة ومؤهِّلة وتوّاقة نحو معانقة المعايير الدولية. فالامتياز الحقيقي هو رمزي بالأساس لأن المساهمة في بناء نموذج مدرسي جديد وناجح هو أكبر الامتيازات وأرقاها.
عشرة : من الطبيعي أن تكون الجلسات العامة les plénières متباعدة نسبيا في دوريّتها نظرا لارتفاع عدد الأعضاء (حوالي 100 عضو في العديد من بلدان العالم) ولكن لا يجب أن يقتصر عمل المجلس على جلسات عامة سنوية ثم “شكر الله سعي الجميع” بقدر ما يتعين أن يستمر العمل على امتداد كامل السنة في شكل ورشات متخصصة توكل إليها مهمات محدّدة ومضبوطة.
أحد عشر وأخيرا : لا يجب بأي حال إستبعاد عالم المهن وخاصة الفاعلين الاقتصاديين والصناعيين والخدميين الذين لديهم فكرة مستفيضة عن سوق الشغل المحلية والعالمية.
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …
لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..
قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…
ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …
وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …
وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..
وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..
قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..
للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …
نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
… من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…
وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…
جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..
اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.
اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.
ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.
ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.
رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،
خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.
سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.
سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم
وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.
محمد الزمزاري:
التاريخ:
ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.
وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …
موقف بورقيبة من المخدرات:
خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.
ماذا عن عهد بن علي؟
عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.
بعد بن علي:
خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…
ـ يتبع ـ
استطلاع
صن نار
- ثقافياقبل 4 ساعات
صاحب دور “يوزرسيف” في تونس
- جور نارقبل 19 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 86
- ثقافياقبل يوم واحد
الإبداع الأدبي والفكري التونسي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر
- صن نارقبل يوم واحد
الحوثيون يستهدفون قاعدة للاحتلال قرب حيفا
- ثقافياقبل يومين
كسرى: الدورة الثالثة لملتقى “سينما الذاكرة”
- جور نارقبل يومين
آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)
- رياضياقبل يومين
معين الشعباني يواصل تصدر البطولة المغربية
- صن نارقبل يومين
اختتام المؤتمر الدولي للطب وعلوم الرياضة
تعليق واحد