جور نار
مرحبًا بك ياسمينة خَضْرا … بين أهلك وقُرّائك في تونس
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriيحلّ بيننا هذه الأيام الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا في إطار جولة ثقافية وأدبية تقودُة من العاصمة إلى سوسة وبعد ذلك إلى جربة قبل الهُبوط بساحة كليّة الآداب بمنوبة غدا الثلاثاء.
اختار الرّوائي الجزائري محمّد مولسّهول ابن ولاية بشّار اعتماد اسم قلم جديدا “ياسمينة خضرا” (مستلّ من اسم زوجته الذي كان يوقّع به كتاباته في الفترة الأولى) للإفلات من قبضة الرقابة العسكرية لأن والده (الممرض والمقاوم القديم) وضعه بالقوة، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز التسع سنوات، في المدرسة الحربية لطلاّب الثورة بتلمسان المختصة باستقبال أيتام الحرب الفرنسية الجزائرية. يقول ياسمينة خضرا بهذا الخصوص: “توقّفت عن أن أكون طفلا في اللحظة التي تخطّيت فيها أبواب هذه الثكنة… وفي أعين العسكريّين لم أكن محمد مولسّهول بل كنت مجرد رقم تسجيل 561”.
قاد بصفته ضابطا في الجيش الجزائري الذي عمل ضمنه لمدة 25 عاما، عديد العمليات العسكرية ضد الجماعات الاسلامية المسلّحة في الجزائر خلال العشرية السوداء (1990- 2000) وأفلت عديد المرات من كمائن نصبها له الإرهابيون.
في المدرسة الحربية لطلاب الثورة بتلمسان، كان الجندي الصغير يحلم بأن يصبح شاعرا في اللغة العربية وبها، ولم يكن أبدا ميّالا إلى الكتابة باللغة الفرنسية التي كانت أعداده فيها سيّئة. لكن يعتبر خضرا أن اللحظة المُوقدة لنباهته الروائية في اللغة الفرنسية حلّت عندما التقى بأستاذه الذي حفّزه ودفعه للكتابة بهذه اللغة.
تُرجمت كتبه إلى حوالي 40 لغة ونُقل العديد منها إلى السينما (مثل “سُنونوّات كابول” و “الصدمة” و “ما يدين به النهار للّيل”…)
لماذا قرّرت الاحتفاء على طريقتي بهذا الكاتب المتفرّد ؟
أعتقد أنه من حقّ الكتّاب المتميزين علينا أن نُسهم في التعريف بهم ونشر أثرهم خاصة في صفوف الأطفال واليافعين، لجعلهم يُدمنون تدريجيا منذ طراوة أنسجتهم الدماغيّة عبق النصوص المُذهلة وشذى المعاني الفاتنة، وذلك لكوني من المؤمنين بأن الكتب الأولى التي نقترحها على الطفل هي بمثابة الطُّعم الذي لا بدّ أن يكون آسرا وأخّاذا حتى يستمر في القراءة بحثا عمّا هو أكثر متعة وإقدارا على التحليق، ومن ناحية أخرى فإن جيلا تونسيا كاملا كبُر مع أدب ياسمينة خضرا المُستساغ لغةً والعميق في معانيه والمتأصّل في البيئة التي يُعمل معاويله فيها… وبالتالي فهو جدير بهذا الاحتفاء ترحيبا به في بلادنا وتثمينا لأدب نوعيّ مُقاوم كم عربُنا بحاجة إلى صعقاته اليوم.
أعتبر أن مسيرة هذا الرجل غير اعتياديّة بالمرة، إذ كيف لطفل غضّ في التاسعة من عمره أن يلتحق بمؤسسة عسكرية بقوانينها وجوْرها وعُتوّها ثمّ يصمد ويتأقلم ولا ينهار… وأن يستمرّ باصرار واستبسال نادريْن حتى التخرّج من شرشال في تيبازة برتبة ملازم… وخاصة أن يكتب ويتمرّن على الكتابة في أجواء كهذه (من بين كل كتبه، هناك مؤلّف “الكاتب” الذي يمكن اعتباره مؤثث بعديد العناصر من السيرة الذاتية التي تأتي على هذه الفترة من حياته)… لذلك أيضا وجب الاحتفاء.
بعضٌ من ياسمينة خضرا …
وفي سياق هذا الترحيب، ترجمتُ لكم بعضًا بسيطا ممّا كتبه هذا العسكري الذي وظّف بشكل ماهر جدا سجلّ الإمداد والإنزال والذخيرة والشيفرة السرية والاستطلاع والإبهار… في كتابة مؤلفات مدنية وإنسانية تنضح حرية وتحررا ومقاومة للانغلاق والتخلّف :
- سأله أحد قرّائه ومتابعيه يوما على صفحته الخاصة :
المُتابع : السيد ياسمينة، أنا قارئ شغوف بكتبك، وكم وددت دائما أن أطرح عليك السؤال التالي: أنت تكتب ثلاث روايات في السنة، ما يدفعني للتساؤل كيف تتوصّل الى تخيّل كل هذه الروايات وكتابة كل هذه النصوص الجميلة، بينما يعجز كثير من الناس عن كتابة جملة واحدة ؟ هل هناك ملاكٌ يأتيك ليلا أو عند الفجر ليُنزل عليك هذه النصوص كما يحصل مع الأنبياء ؟ أم أن ذلك هِبة من الله … أو أنك تقول في نفسك ذلك نابع من كوني ذكيّ وهو ثمرة من ثمار نباهتي وليس هناك أي شخص وراء كل ذلك ؟ شكرا
ردّ ياسمينة خضرا : (لاحظوا تواضع الرجل وحدّة ردوده دون صلف وتكليف نفسه عناء الرد على أغلب من يعلّقون على صفحته الذين يُعدّون بالآلاف )
لِنقُل أنني أفضّل العيش مع شخصياتي بدلا من الأشخاص غير الجديرين دائما بالعطف وخاصة بالثقة الذي نُعبّر عنها تُجاههم. أنا أكتب لأن ذلك عشقي وولعي، وهو قُوّتي وألقي. أكتب لأن الخيال يثأر لي من بؤس الواقع وكآبته. أكتب لأنه يوجد عبر العالم أناس يتابعونني ويشُدّون أزري. من ناحية أخرى لا علاقة للحجم أو للوقت الذي نُقضّيه في الكتابة بعظمة أو جدية أثر أدبي مَا. قضّيتُ أربع سنوات في كتابة “نصيب المتوفّي” دون نجاح كبير. ولكن شهران فقط كانا كافيان لكتابة “الصّدمة” (الصّدمة هي ترجمة نهلة بيضون من لبنان لرواية l’attentat ) وهو الكتاب الذي مكّنني من الوصول الى ملايين القُرّاء اليوم.
ليس ثمة وصفة قاطعة ومقنعة. هناك 80 بالمائة من الموهبة و20 بالمائة من الحظ. أما بخصوص سؤال هل هناك ملاك يُمليني ما أكتب؟ يتعيّن عليك أن تسأله هو إن كان قد كتب روايات في السابق. ربّما الله، لأن كل ما نملكه هو مصدر له. أما عن إمكانية وجود شخص ما خلف هذه المعجزة، فلا أرى من هو جدير بذلك أكثر منّي أنا بالذّات. لأنني أنا من يتكبّد أرق الليالي ومَوْجات الصُّداع جرّاء التفكير وذُعر الأيام اللاحقة.
- رسالة ياسمينة خضرا إلى أمّه في أفريل 2020 (النص الكامل على موقع فرانس أنتير، زاوية الثقافة)
عزيزتي أمّي الحبيبة،
أحاول منذ أيام، بحكم الحجر المفروض عليّ بسبب فيروس الكورونا، إنهاء الرواية الوحيدة التي كم تمنّيت أن تقرئيها، أنت التي لم يتيسّر لك أبدا لا القراءة و لا الكتابة، هي رواية تشبهُك ولا ترويك، لكنّها تحمل في طياتها القدر الذي كان قدرك. أدرك كم كنت تتشبّثين بمنطقة “الحْمادة” حيث كنتِ تتعقّبين اليرابيع وتتنمّرين على شجيرات السّدر من أجل بعض غلال العنّاب البائسة.
حاولتُ طيّ هذا الكتاب استدعاء الأماكن التي لها رمزية خاصة بالنسبة إليك، الكثبان الرملية هلالية الشكل وأثر أبطال حكاياتك. فأنت التي وهبتِني الشجاعة كي أواجه في النهاية هذه الملحمة التي تطاردني منذ سنوات.
قولي لي كيف هي أحوالك الآن هناك ؟ لا تودّين الرد عليّ ؟ بالتأكيد، لأنك تُفضّلين أن تبتسمي إزاء هذه الكتابة على حاسوبي التي لا تعرفين معاني لرموزها.
أعرف كم تحبّين الحكايات. كنتِ كل ليلة تسرُدين عليّ قصصا وحكايا، بينما كنت أنا أغالب نُعاسي رغبة في إطالة أمد التلذّذ بعذوبة صوتك. وكم كنت أتمنّى أن لا يتوقّف هديل صوتك أبدا عن مداعبة أنسجة روحي. كان يبدو لي أننا نشكل أنا وأنت العالم بأسره… أنت التي علّمتني كيف نصنع من الكلام سحرا ومن الكلمة ساحرا وكيف نُحوّل الجملة الى معزوفة وكيف يستحيل مجرد فصل من حكاية إلى ملحمة.
من أجلك أيضا أنا أكتب. من أجل أن يظل صوتك يسكن أحشائي. أنت التي تتصنّعين السّكينة عندما تصعدين فوق كثبان الرّمل وتمدّين يداك نحو الصحراء من أجل قطف كل أنواع السراب، أنت التي لا تُميّزين بين حصان يركض بعيدا في الخلاء وبين وحي ربّاني.
ستسعدين بوجودك في كتابي هذا وستُحوّلين علامات التعجّب فيه الى علامات خاصة بك.
عندما يحدث أن أعود إلى وهران، غالبا ما أجلس في مكاننا المعتاد واستدعي أحاديثنا وحواراتنا التي تسترسل حتى تنامي كطفلة. كان زمنا جميلا بالرغم من أنه لم يمرّ عليه سوى سنتين : سنتين لا تنتهيان كأنهما الأبد. كنّا نحتسي بعض الأشياء الطازجة في الشّرفة، أنت مستلقية على المقعد المُبطّن وأنا على إحدى درجات مدخل بيتنا ألتقم سيجارتي… وكنّا نتحاكى ونتبادل الطرائف والنوادر ضاحكين من براءتنا.
إلهي ! ما السبيل لاسترجاع لحظات النّعمة هذه؟ أيّ صلوات قادرة على إعادتها إليّ؟ بالرغم من اعتقادنا أحيانا أن الوقت مِلكٌ لنا، فيتضح أنه متعهّد بمهمة مُروّعة متمثلة في الفصل النهائي بين كائنين يتبادلان عشقا لا ينتهي. ولا تبقى إلا الذّكرى وفسح المجال لتداعبك الأوهام.
أمي الحبيبة، مذ رحلتِ، أراك في كل الجدّات، الشقراوات منهنّ والسمراوات والسوداوات، ثمة شيء ما منك في كل واحدة منهن. إذا لم تكن عيناك، يكون فمك، وإذا لم يكن صوتك تكون مشيتك، واذا لم يكن شيء من كل هذا، تكون جموع الانفعالات الشعورية التي تحدثينها فيّ دائما. أنت نيزك في سماء تكفهرُّ فجأة وأحيانا أخرى جزيرة وسط محيط من الحنان.
أنت أعجوبتي أنا.
إذا كان عليّ أن ألحق بك يوما يا أمي، أودّ أن يظلّ من بعدنا جزء منا نحن الاثنين لأن الحب وحده يقدر أن يحكينا إلى الذين يعرفون الإصغاء إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(كلا النصّين مترجم من الصفحة الرسمية الخاصة بالكاتب ياسمينة خضرا)
http://www.facebook.com/yasminakhadhraofficielle
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …
لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..
قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…
ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …
وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …
وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..
وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..
قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..
للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …
نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
… من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…
وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…
جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..
اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.
اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.
ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.
ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.
رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،
خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.
سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.
سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم
وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.
محمد الزمزاري:
التاريخ:
ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.
وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …
موقف بورقيبة من المخدرات:
خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.
ماذا عن عهد بن علي؟
عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.
بعد بن علي:
خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…
ـ يتبع ـ
استطلاع
صن نار
- ثقافياقبل 4 ساعات
صاحب دور “يوزرسيف” في تونس
- جور نارقبل 18 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 86
- ثقافياقبل يوم واحد
الإبداع الأدبي والفكري التونسي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر
- صن نارقبل يوم واحد
الحوثيون يستهدفون قاعدة للاحتلال قرب حيفا
- ثقافياقبل يومين
كسرى: الدورة الثالثة لملتقى “سينما الذاكرة”
- جور نارقبل يومين
آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)
- رياضياقبل يومين
معين الشعباني يواصل تصدر البطولة المغربية
- صن نارقبل يومين
اختتام المؤتمر الدولي للطب وعلوم الرياضة