تابعنا على

جور نار

هرِمْنا … ولم تهرمْ خارطة المسالك والشُعَب المدرسية في تونس !

نشرت

في

يغيب عنّا أحيانا بل دائما أن تلاميذنا يقتاتون من مائدة قديمة ومتهالكة للمعروضات الدراسية تجاوز عمرها أكثر من ثلاثين سنة، ولكن يبدو أن دولتنا ليست في عجلة من أمرها حتى تبادر هياكلها ووزاراتها وحُكّامها بإتيان شيء ما يسمح بتنويع الأطباق المقترحة وإضافة شيء من البهارات والتوابل حتى يستساغ تناولها وهضم محشوّاتها. وإن ما يؤلم في الأمر أن أجيالا كاملة دُمّرت آمالها بالكامل خلال العقود الماضية نتيجة الإخلالات البيّنة في المنظومة الحالية المتآكلة والاعوجاجات الثابتة التي أعطت ميدانيا بؤرا ضئيلة يرتادها المتميّزون والمُنشَّطون اصطناعيا مقابل جُزر تزداد اتّساعا سنة بعد أخرى يُعمّرها التائهون وعابرو السبيل المدرسي وفاقدو السّند.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

أُلخّص شخصيا أهم الإشكاليات في المآزق التالية التي لا يُكلّف الخروج منها سوى حسم التساؤلات التي ترافقها في اتجاه تطويق المضاعفات السلبية المسجّلة، والمضيّ بأوسع شريحة ممكنة من التلاميذ نحو آفاق “غير تقليدية” تُمكّن إجمالا الأجيال القادمة من عبور مرحلة الخمس سنوات قبل العشرين، بأكثر ما يمكن من اقتدارات تأهيلية صلبة (وهي مرحلة كل الزوابع والمخاطر والانزلاقات والتّيه وانقطاع حبل النجاة الذي تمثله مؤسسات التعليم والتكوين بصورة عامة). واعتقادي أيضا أن حسم هذه التساؤلات لا يُكلّف خزينة الدولة المنكمشة عبئا كبيرا أو اقتراضا من جهات تودّ ذلك، لكونه بوّابة مواتية لإملاء خياراتها التربوية والمحافظة على مكتسباتها اللغوية والثقافية عموما.

أهم المآزق التي أودت إليها المنظومة الحالية

______أولا : لم نحسم السؤال التاريخي المحيّر والمتمثل في : هل نؤسس لتخصّصات دقيقة قائمة الذات منذ المراحل الأولى للتعليم الثانوي (أو لبدايات تخصص ضيّق) ويواصل التلميذ تطوير إمكانياته في نفس تلك الاختصاصات تقريبا في التعليم العالي، أم نمضي في بعث مسالك مشتركة للتكوين العام (التي يمكن أن نسميها كذلك حقولا عامة للتكوين مثل الإنسانيات والعلوم والفنون والتكنولوجيا…) ترافقها مراجعة هيكلية جذرية لمنظومة التعلمات الاختيارية، أو ما أسميه شخصيا بالتلوينات المختلفة والمتنوعة في علاقة بتسهيل الاندماج المتدرّج والمرن في عروض بعينها في التعليم العالي، أو تطوير ملمح أو شغف أو مهارة مّا يريدها التلميذ حتى وإن كان لا ينوي اختيار توجيه جامعي مرتبط بها عضويا ؟

_______ثانيا  : التصنيف الحالي للمسالك والشعب – في ذهن الناشئة كما في ذهن المجتمع- يُعتبر أقرب إلى الكاريكاتور والاختزال ويخنق المشهد التكويني في ثرائه وتنوّعه وانفجاره على نطاق كوني (كأن نقول ان الرياضيات تقود إلى الهندسة، والعلوم التجريبية تُفضي إلى الطب والاختصاصات شبه الطبية، والإعلامية إلى الرقميات وشعبة التقنية تُحيل على الميكانيك والكهرباء… أما الاقتصاد والآداب فلهاتين الشعبتين وضع خاص لأن جمهورهما كاتم لسرّه ومغلوب على أمره)… وهو تصنيف في قطيعة كليّة مع الواقع وحقيقة ارتباط هذه العروض بالمآلات التي يتصوّرها العامة من ناحية، وغير منسجم بالمرّة مع الطموح المجتمعي نحو التأسيس لمدرسة مُنصفة وغير نخبوية وذات قدرة عالية على تمكين الأغلبية الساحقة من التلاميذ من “زاوية خاصة بكل فرد فيهم لتحقيق الذات” من ناحية أخرى.

_______ثالثا : حوار الطّرشان بين التربية والتعليم العالي. بعد كل دورة من دورات الباكالوريا على مر كل السنوات الثلاثين الأخيرة تُحيل وزارة التربية عشرات آلاف ناجحيها الجدد في الباكالوريا إلى التعليم العالي، وتطالبه بتوزيعهم عشوائيا واعتباطيا حسب مقاييس وفلسفة وضوابط وإكراهات لا يتدخل أهل التربية فيها البتّة، وكأن التكوين الذي تمّ تأمينه على امتداد 13 سنة لا يعطي التربية أية أهلية لإبداء النظر في ضبط التوزيعيات وتحديد التوازنات. ويُذكر في هذا السياق أن مسؤولي التوزيع غير مطّلعين البتّة على برامج الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، بل لديهم مجرد فكرة نسبية على محتوى اختبارات الباكالوريا وعناوين المواد المدرّسة في المستوى النهائي من التعليم الثانوي. أما التعليم العالي فله اشتراطاته ويمارس تقييما أحاديا لملمح كل نوع من أنواع الباكالوريا، فيُرفّع من نسب معيّنة إلى أقصاها في شعب معيّنة ويقلص من نسب أخرى إلى أدناها وفق تقييمات مرتجلة وتقديرات مبتذلة. 

_______رابعا : غياب كامل لأية خطة وطنية في مجال التوجيه. لم أستمع شخصيا إلى أي مسؤول على المستوى الوطني يتحدّث في إشكاليات التوجيه وحتمية إيجاد خطة وطنية تعالج الاختلالات المسجّلة وترسم سياسة وطنية للنهوض ببعض المسالك وتعديل أخرى أو التخلي عن البعض منها … في سياق استحقاقات التنمية والتحولات العميقة الجارية في العالم على مستوى المهن والمؤهلات المطلوبة ومقتضيات التشغيلية. وللأسف فإن منطق تهرّب الدولة من واجبها التعديلي والإصلاحي هذا ينسحب على كل المرافق الاستراتيجية الحيوية الأخرى مثل زراعة الحبوب والتصرف في المياه واستخراج الفوسفات وإنتاج الطاقة والتصدي لظاهرة الهجرة الجماعية لأبقارنا نحو الجزائر الشقيقة.

_______خامسا : ضعف نسب التوجيه نحو الشعب العلمية والتقنية مقابل ارتفاع نسبة التوجيه نحو الاداب والاقتصاد والتصرف بما خلق اختلالا فظيعا أضر بالتربية وأربك التعليم العالي وهدّد الآفاق المفتوحة أمام أصحاب الشهائد العليا. فعلى سبيل المثال تصل نسبة التوجيه نحو الاقتصاد إلى 40 بالمائة في بعض الجهات مقابل نسب توجيه تحاذي الصفر نحو شعبة الرياضيات !

_______سادسا : غياب المعابر والتنافذ بين مختلف أضلع المنظومة التكوينية الوطنية (فالحاصل على الباكالوريا باستطاعته الالتحاق بعروض التكوين في منظومة التكوين المهني في مستوى مؤهل تقني سام لكن المتحصل على مؤهل التقني مهني – ما يعادل الباكالوريا-  لا يستطيع الالتحاق بالتعليم العالي في اختصاصات تمثل امتدادا طبيعيا لما درسه المتكوّن،  كما بإمكان طالب التعليم العالي تعديل مساره واختيار التكوين المهني بعد إجازة أو ماجستير أو كذلك أثناء دراسته الجامعية، لكن العكس غير وارد… لأسباب لا علاقة لها بمضامين التكوين والمؤهلات المكتسبة هنا وهناك بقدر ما ترتبط بأدمغة حاكمة غير مُهوّاة بشكل جيد.

______سابعا : أهمية العمل بآليّة الملف المهاري للتلميذ أو اعتماد جذاذات خاصة بكل تلميذ ترافق دفتره المدرسي طيلة مساره الدراسي (ترصد الميولات والقدرات وتسجّل المشاركات المتميزة…) ويُستفاد منها في التوجيه نحو بعض المسالك الخصوصية بالتعليم العالي كما هو معمول به بشكل محتشم اليوم في سياق ما يسمّى بتوجيه أصحاب المواهب. وفي ذلك إقرار بوجاهة المقاربات الجديدة التي تعتبر أن التوجيه هو مسار وسيرورة مدى الحياة أكثر منه عملية إجرائية يتيمة تجدّ مرة واحدة في مستوى دراسي معيّن .

أُنهي أخيرا بما قاله عالم الانتروبولوجيا والاجتماع الألماني أرنولد غيهلن بأن “الفكرة ليس لها من وقع أو أثر  في التاريخ إلا إذا تجسّدت في شكل مؤسّسات” …وعليه، أقول انه محمول على دولة تعي كل هذه الإشكاليات والرهانات أن تبعث المؤسسات الضرورية لتجسيد ما تتبيّن صحّته وراهنيّته الملحّة في هذه الأفكار… من قبيل بعث لجنة التنسيق العليا بين الوزارات المعنية بالتكوين والمركز الوطني للإعلام والتوجيه العابر للوزارات والقطاعات، ووضع استراتيجية وطنية متوسطة وبعيدة المدى تبني خارطة جديدة للتعلّمات تواكب العصر وتقلّص من حجم جمهور غير القادرين على امتطاء المصاعد الكهربائية والرقمية المعقّدة بعد تعطل المصعد الاجتماعي التقليدي.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار