تابعنا على

جور نار

أغنياء الحرب … النسخة التونسية

نشرت

في

تتوالى الوجوه كالطلقات، كالصعقات، كأيام السجن للمساجين … كل مرة يعرضون عليك سحنة لا تدري من أين جاءت وما موجب الإتيان بها … ومرة بعد مرة، تألف العيون تلك الأشكال الفضائية، وتحوّلها إلى إنس من خيار الجنس، بل من نجوم وأقمار تُحفظ ملامحها وأصواتها ويُستشهد بأقوالها … ولو كان بالسخرية منها على مواقع التواصل الاجتماعي.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
<strong>عبد القادر المقري<strong>

إلى زمن غير بعيد، كانت الشهرة شأن النبغاء دون غيرهم … مهما كان مجالهم … الذي في الفن والذي في الأدب والذي في الكرة والذي في قراءة الأخبار … نعم … في الستينات والسبعينات كان قاسم المسدّي نجم النجوم واوّل من زاحم المطربين وفتيان السينما في حصد المعجبات، فقط بعرض النشاط الرئاسي وأنباء الشرق الأوسط … كان للحقيقة وسيما أنيق الهندام عذب الصوت ثابت الجملة … وزير دون وزارة، في زمن كان فيه الوزراء لا يظهرون طويلا ولا كثيرا … فالزعيم يغار جدا من معاونين يضيئون أكثر من اللزوم … بينما المذيع لا يمكن منعه ولا تقصير وقت ظهوره أو تكرار تصدره أمام الكاميرا كل ليلة …

لست واثقا تماما من الملف العلمي لمذيعي تلك الفترة وعامة محترفي الشاشة أو الميكروفون … ولكن عندما كبرنا قليلا واشتغلنا مهنة الفضول الصحفي، أنعم علينا الحظ بالاقتراب من بعض من لحقنا بهم أحياء من نجوم صبانا وشبابنا … صالح جغام، أحمد العموري، محمد حفظي، محمد بن علي، بوراوي بن عبد العزيز، عبد الحفيظ بوراوي، بشير رجب، محمد بوغنيم، عادل يوسف، عز الدين الملوّح وغيرهم … لست واثقا كما قلت من الشهادة الأكاديمية لكل من هؤلاء، ولكن القاسم مشترك … الثقافة الواسعة، أناقة الكلمة والمظهر، مسار مهني طويل يسبق شهرة كل واحد وخمود عريض في ظل كبار آخرين عاصروهم ولم نعاصرهم … كانوا أساتذة عربية إذا جادلتهم لغة، ونحاة فرنسية إذا جنحت معهم إلى حيث فولتير، وعفاريت تقنية إذا خطر ببالك استعراض شيء مما تلقيته في المعهد، ومحللي سياسة من الطراز الأوّل إذا عنّ لك استذكار نقاشات المركّب الجامعي، وكنوزا من المعلومات لو تساءلت أمامهم فقط عن عضو حكومة مضى أو بصدد التعيين …

و العجيب العجيب أنهم بتلك الأسماء الكبيرة والنجومية المطلقة والقامات التي كان يرتعش لها وزراء ومدراء ورجال أعمال … بكل هذا، اكتشفنا أن مرتباتهم كانت متوسطة إن لم نقل أقل، ومعظمهم يعيش في شقة إيجار أو منزل متواضع ولا يملك سيارة … لذلك فسكنى سوادهم إما في حي “لافاييت” قرب الإذاعة توفيرا لثمن الركوب، او في ضاحية جنوبية يمرّ بها قطار حمام الأنف … وقد كاد الراحل صالح جغام يُجنّ ذات مرة حين علم أن ناقدا في جريدة من الجرائد، كان يتقاضى أجرا أعلى من أجره هو … “يشتمني يوميا ويقبض على شتائمه لي أكثر مما أقبضه على عملي وتعبي” … هكذا صرخ العزيز صالح !

ما جرّني لكل هذا ليس تجوالا بقنديل الذكريات … لا … بل تبدّل الأحوال في هذه الضفّة وتلك، ضفّة نجوم إعلام اليوم،و ضفّة الوضع الذي يعيشونه مقارنة بما كان عليه الأسلاف … دكتور مصطفى الزغل، أستاذ الاقتصاد العظيم برّد الله ثراه، ألقى علينا محاضرة ذات مرة عن العُملة وقيمتها عبر العصور، ختمها بقاعدة ذائعة هي: (العُملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) … ودليله على ذلك أن الإنسانية انتقلت في مبادلاتها من معدن الذهب، إلى نقود من الفضة، إلى نقود النحاس، إلى النيكل (مثل الدورو) إلى الورق … ولو بقي سيدي مصطفى إلى اليوم من أهل الدنيا، لرأى أن النقود صارت مجرد نقرة على ملمس تلفون، أو مضاربة على عُملة إلكترونية لا تعرف عنها إن كانت موجودة أم غير موجودة، ومع ذلك تبيع وتشتري ولها أسعارها وبورصاتها، مثل “البيت كوين” …

في الإعلام أيضا هبط علينا قانون الاقتصاد ولكن بأيّة طريقة ! مع التقاعد والموت والإبعاد خاصة بعد هوجة 14، اختفت القامات العريقة المتأصلة، وحلت محلها جيوش كأن أغلبها مستورد من غلمان أبي نواس وقيان زرياب … مع فارق جوهري… فحسب كتاب (الأغاني) الشهير، كانت جواري الأمس مدرّبات في الشعر والنثر وضرب العود، فضلا عن رخامة الصوت … أما ندماء اليوم، فيؤتى بهم وبهنّ من لا أدري أين، أناس كنبات الفُطر بلا ورق ولا جذور … يكون الواحد منهم عابر سبيل من العابرين، وفي ظرف 24 ساعة يصبح حديث المجالس ومربي الأجيال وصانع رأي عام … إفتاء في السياسة وإفتاء في الثقافة وفي الرياضة وفي الاقتصاد وفي الدين وفي الأخلاق في نفس الوقت … أنت لست أمام “إعلاميين” وهي الصفة التي يتبادلونها كسروال العسكري … بل أنت حيال الموسوعة البريطانية الشاملة … الشاملة لكل ما حفل به مجتمعك المريض من سقط الأمتعة …

وزاد على النافسة تكاثر القنوات وانتشارها ثم اختفاؤها بضربة سحر … فتراهم يهاجرون جماعيا من عمارة إلى عمارة، أو من ضاحية لضاحية، أو من هنشير يؤوي هذه القناة إلى هنشير آخر لباعث قناة أخرى … وقصة أصحاب التلفزات الخاصة والمزارع الجديدة معبوكة أخرى قد يأتي أوانها … وأصبح هناك حديث جاد عن “ميركاتو” لهؤلاء الإعلاميين الذين جادت بهم السماء كضفادع يوم ماطر … وهم خليط مذهل من المانكانات وبائعات الهوى والمزاودية والبلطجية والوشاة والمخبرين وأعوان اللوبيات ومرتزقة الأحزاب وفاشلي المسرح وساقطي الكرة وهواة التسكّع وما إليه … يجلبهم إلى البلاتوه مرة منشط من طينتهم، ومرة صاحب العقار، ومرة عشيقة صاحب العقار، ومرة صديق في الريجي، ومرة قوة خارجية … وكل ذلك لا يحتكم بالضرورة إلى مهنة أو خبرة أو جدارة علمية أو عراقة في ممارسة الصحافة أو أدنى وشيجة بمهنة المتاعب …

وبما أن الحديث حديث ميركاتو، فلا غرابة أن تكون هناك صفقات وأصداء حركة يتم تداولها بشكل واسع لتكريس نجومية احتلّت بعد مكانها وصارت أساطير … ولا غرابة أيضا أن تتناسب الأجور مع حجم النجم وحرارة اللهفة التي تسحق في طريقها أي معترض … فصرنا نسمع عن كاشيات بالحصة لم يكن يتقاضاها مدير الإذاعة والتلفزة في شهر، وصارت هناك أنصبة في دخل الإعلانات، وريع آخر يأتي من حساب لذلك النجم (ة) على إنستغرام وغير ذلك وغير ذلك وغير ذلك …

وحدها الحروب كانت تفرز هذا الصنف من الكائنات الطفيلية التي تعتاش على الجثث والأنقاض والسوق السوداء وتزويد ثكنات الاحتلال … ويبدو أننا اليوم نعيش بين هذه الخرائب وتحتها، وويلك ويلك إن دخلت معهم في منافسة أو طالبت بحقوق أو اقتربت مجرد الاقتراب …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التقصي عن أمراض السكري وضغط الدم… وليس عن أعوان التلفزة!

نشرت

في

محمد الزمزاري:

انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.

الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.

طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.

وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.

أكمل القراءة

صن نار