جور نار
ورقات يتيم … الورقة رقم 12
نشرت
قبل 9 أشهرفي
اذا كان لي ان اصف السنة الاولى من تعليمي الثانوي بمعهد الحي فيمكن ان اضعها في توصيفة: سنة العبث الطفولي …دعوني اولا اصف لكم حالتي وانا الذي عاش تحت جلباب امه كل سنواته في الابتدائي، لان الوالد كان كثير الغياب عن العائلة بسبب اشتغاله بالبناء في ارجاء عديدة من البلد …
كنت ببساطة لا اعرف من الحياة عموما سوى الدراسة في المدرسة بساقية الزيت وبواد القراوة او اللعب في الحوش وضواحيه القريبة … واد القراوة الذي كم احببته وفي كل مرة ازوره او يزورني، أزداد عشقا له عشق المجنون بأجمل ايام عمري في ذلك الواد …هو لا شيء بالنسبة لكل الذين يعرفونه …ولكنه واد عميق عندي باشيائه البسيطة بحلوى “_لركوز” وهذا اسم بائع الحلوى الذي يمر بوميا بالوادي ليهبّلنا بحلواه البسيطة والتي لا يعرف سر صنعتها الا هو …رغم انه في الاخير لا تتجاوز بعض مكونات الحلوى عموما “طرف فارينة وطرف سكر” … ولكن بنكهة غريبة في متعتها… وصادف ان شاهدته والدتي مرة فكان ان استغربت من تعلقنا به وبزمارته التي يعلن بها عن قدومه وقالت: عجب تنجمو تاكلو الحلوى من عند هذا لركوز اللي يقزز ؟؟؟ وهي كانت صدقا محقة في وصفه لانه لم يكن يعتني مطلفا لا بهندامه ولا بنظافة وجهه ويديه شبه السوداوتين وسخا … ولكن اليست للقلب اقداره حتى في الحلوى وفي بائعها والقطعة منها انذاك كانت بمليم واحد …
امي والعديد منا على الاقل في ذلك الزمن لم نفهم بعض اسرار الحياة ومن ضمنها الاقدار … وهنا اسأل هل يستشير البرعم احدا قبل ان يبرز من غصنه للوجود ؟؟؟ او وعلى طريقة نزار الكبير …هل يستشير النهد الغلالة قبل ان يتكور ..؟؟؟ .زايد اقدار …الواد ايضا كان كوشة بوقطاية بضحكة صاحبها الدائمة رحمه الله، وبرفقة كل تلميذات مدرسة البنات واللاتي اختلطن بنا نحن عافلي القوم كتلاميذ منتخبين من “مكتب السوري” (الحبيب بورقيبة حاليا) … وكان الواد أيضا ذلك المعتوه فرج الذي يطوف يوميا بالوادي الف مرة بلباسه الافغاني البريء لا ذلك اليوم اصبح عنوانا للتفجير والتدمير والترهيب …وهو يعيد جملة لم ولن نفهمها لا لانه مات رحمه الله بل لانه هو ايضا لم يفهمها يوما …كان يتكلم بلغة اشبه بالصينية … يتمتم بعض الكلمات ويختمها بـ “في هذه الليلة” … اية ليلة ؟؟ .. هل له ليلته وليلاه ..؟؟؟ انه مجنون القرية وما اجمل مجانين القرى واتعس مجانين المدن بكل اطيافهم السياسية و والغبية …
مجنون القرية هو شخصية هامة في المؤلفات وهو الذي اصبح في السينما شخصية بارزة في عديد الافلام ليمثل دور الحكيم ويؤكد اننا نحن هم المجانين وهم فقط العقلاء … وكمثال على تلك الاعمال الفنية التي تنطلق من المجنون الى العقلاء _يوسف شاهين في باب الحديد كممثل لدور المجنون علاوة على انه مخرج الفيلم °(قناوي العاشق المجنون لهنونة) و الذي ابدع فيه ايما ابداع فنال عشرات الجوائز العالمية على اتقانه لذلك الدور … سيتقدم بكم العمر وربما تتيقنون مثلي ان المجانين هم اسعد السعداء … في عالم اصبح فيه العاقل منا اتعس التعساء … لولا ايمانه بالاقدار … تصوروا فقط هذا الكائن البشري الذي سموه “عبدالكريم” يغادر الابتدائي الى المدينة و اضواء المدينة (على عنوان رائعة الفلتة السينمائية شارلي شابلن) واذا اردتم لمن تستهويه الاغنية الشعبية “ضايع في الطريق” نعم تمام الضياع …
مدينة صفاقس داخل اسوارها وخارجها لم اكن اعرف عنها شيئا بتاتا ومن عيوبي وكم هي كثيرة كما ستكتشفون … اني لا اكتفي في كل مجالات حياتي بالمعرفة العابرة… انا كنت ومازلت وسابقى اهتم بتفاصيل التفاصيل ..لانه ترسبت وترسخت لديّ قناعة مفادها انه حتى تلك التفاصيل البسيطة والبسيطة جدا هي التي تصنع الفارق في المعرفة وفي المتعة بالمعرفة وبالتالي المتعة بالحياة .. كنت ادرس يوميا بمعدل يتراوح بين ست وثماني ساعات مع راحة يومية من منتصف النهار الى الثانية بعد الظهر . .للغداء… وما ان تدق ساعة منتصف النهار من خلال منبهها بالمعهد في صرخة مدوية هي اشبه بانذار عسكري لحدث ما (كانت تفجع صدقا)..كنت وبعض اترابي نهرول من الحي طريق العين مرورا بقنطرته العالية .. وتحتها اناس لم نعرف عنهم وعن افعالهم شيئا الا في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي (كبرنا شوية وصرنا نعرف حاجات يعني) عرفنا انهم شلة المزة (الخمر)وشلة اللواط، وشلة النوفي والقمار …
كنا نهرول في اتجاه باب الجبلي وبالتحديد للمطعم الخيري انذاك (والذي اصبح الان عمارات وبناءات امام صفاقس الجديدة)، لنتناول غداءنا مجانا تماما كركوبي في حافلة النقل باعتبار شهادة الفقر الذي يمدنا بها الشيخ خليفة غربال رحمه الله …و كلمة شيخ تعني العمدة في ذلك الزمان .. كفقراء يتمتعون بالغداء و بركوب الحاافلة مجانا مرتين في اليوم … الحافلة كانت تابعة لتعاضدية النقل انذاك والخاصة بطريقي المهدية وسيدي منصور، حمراء وبيضاء اللون بينما تتكفل شركة النقل بصفاقس (الجهوية للنقل الان) ببقية الطرقات صفراء وخضراء اللون … وككل المطاعم المدرسية انذاك كنا نتفنن في الاعراب عن غضبنا من نوعية المأكل بضرب السكاكين على الطاولة … وباصوات مزعجة جدا ولكن العبث احيانا لا يزعجه حتى الازعاج … و الغريب في احتجاجنا ان المليح فينا “عمرو ما كلا لوبية باللحم” …هكذا كنا نسميها لا مرقة لوبيا او مرقة جلبانة …او مرقة بطاطة … هذه تسميات عرفناها من بعض تونسيي العاصمة الذين اغرونا بها فتعلق بها البعض موضة وافتخارا بانتمائه الى تسميات العاصمة، بينما العديد وانا اولهم لم اطلب يوما من امي او زوجتي مرقة بطاطا …
انا اعشق شكشوكة باللحم او لوبية باللحم وخبز شعير ومرقة وحتى الموبيلات الزرقة …ولست ادري كيف لأولئك الذين تفرنسوا او تتونسوا ان يتخلوا عن جلدتهم، خاصة ان كلمة مرقة تعني لدينا في صفاقس كل اكلة اساسها “الحوت” (السمك) … واجمل الاغاني التي تتغني بها صفاقس ثلاث: سيدي منصور ومريقة صفاقسية واضيفت اخيرا مياموري… اذن تصوروا مرقة اي حوت بالجلبانة (مرقة جلبانة) … هم تماما مثلهم كذلك الغراب الذي اراد ان يتزين بريش اخر ففقد شكله وشكل الاخر … وهنا علينا جميعا ان نعتذر للغراب الذي الصقت به عديد التهم الغبية كهذه وكتلك التي يروونها عنه في “الغراب والثعلب”، والحال ان كل الدراسات العلمية تؤكد انه من اذكى الطيور وحتى الرحمان اختاره كوسيط ليرشد قابيل إلى دفن هابيل … فهل يختار الرحيم طائرا غبيا ليري قابيل كيف يواري هابيل التراب ؟؟؟
غداؤنا في المطعم لا تتجاوز مدته الخمس دقائق نلتهم فيها ما يقدّم الينا سواء اعجبنا او تظاهرنا بالاحتجاج …وكأن الاحتجاج من جينات التونسي منذ ان خلق …بعد ان نكون قد قضينا ربع ساعة اخرى في الطابور في انتظار ان ياتي دورنا … بعدها نغادر ..الى اين …؟؟؟ بعضنا لحافلات النقل العمومي المنتصبة بباب الجبلي لاستراحة قليلة يتلهى فيها بقرطاس “ڨليبات” في انتظار العودة الى الحي، والبعض الاخر يتسكع في المدينة وانا اولهم …اولا كنت لا املك دانقا واحدا في جيبي لا للقلوب ولا لغيرها (وربما ذلك سر تعلق قلبي بالقلوب عندما ترعرعت قليلا، القلوب الادمية اعني) … ثم كنت اريد اكتشاف مدينتي نهج نهج دار دار زنڨة زنڨة … وكان لي ذلك بكثير من الدهشة …الازقة كانت ضيقة جدا ولعل اشهرها زنقة عنڨني …نعم زنقة عنڨني، لان عملية المرور فيها لشخصين جنبا الى جنب تكاد تكون مستحيلة واذا حدث ووقع ذلك فالشخصان هما اشبه بحبيبين متعانقين …وهي موجودة لحد الان والراغبون في معرفتها ساعطيهم العنوان شريطة ان يعبروا بصدق عن رغبتهم في المعرفة: اهو الاكتشاف ام عنڨني؟ … طبعا دعوني امزح معكم فقط…
لكن ما يميز المدينة داخل اسوارها (المدينة العتيقة) الحركية الدائبة بشكل مثير للاعجاب، حركية البشر والعربات المجرورة بالحيوانات او باجساد البشر -البرويطة) … فسوق الخضرة له اربابه وسوق الحوت له عشاقه ورياحين حوته، وبوشويشة السوق الشعبي لبيع الخضر والغلال ورغم انه على بعد امتار من سوق الخضرة، فلا عرك ولا معروك والتنافس مشروع وكل واحد وقسمو … والربع سوق الملابس التقليدية بهبية مبيعاته وهيبة بائعيه واليوم لا حكومة استطاعت ان تفرض هيبتها بعد الغورة و كذبة 14 جانفي … وكان على كل رؤساء حكوماتها من ابن الغنوشي الى ابن الشاهد ان يقوموا بتربص في مثل هذه الاسواق حتى يتعلموا معنى الهيبة والوقار والاجلال والاحترام .. سوق الجزارين بدواويره المعلقة والاشهى الف مرة من كل الملاويات …ورحبة الرماد ونهج الباي وحومة القصر وسوق البلاغجية (الحذائين) ورائحة الكولة تعترق .. و سوق الحدادين بقلب المدينة العتيقة تتصاعد منه نيران يقوّض بها الحديد وتليّنه سواعد لا تكلّ … وسوق الغرابلية وفيها من الغرابل ما تلذ له اعين النساء وتشتهيه اياديهم من غربال الشعير حتى المالطي وهو اجملها …
المدينة مقسمة برشاقة …لكأنها جمهوريات لكل واحدة خصوصيتها …في المدينة العتيقة عندما تريد الفطاير والزلابية والمخارق في رمضان لا احد يعوض السيالة … عندما تريد صحين تونسي عليك بالغمقي في نهج الباي او بكسكروت الرمانة وما ادراك بسوق الجمعة .. وسطحة الجامع الكبير وهي تستضيف كل الكتب الصفراء بما فيها الروض العاطر في نزهة الخاطر او الايضاح في علم النكاح ….ساعود لتفاصيل وتاريخ اصدار هذا الكتاب في ورقة قادمة لكن كنا كلما حاول الواحد منا وعن غير قصد ان يمد يده ليطلع على هذا الكتاب الذي يحمل اسما مثيرا (النكاح) والذي مازال مثيرا لحد يوم الناس هذا، رغم ان النكاح في اللغة العربية وفي القرآن خاصة تعني الزواج … كنا كلما حاول الواحد منا التلصص على محتواه، هرول البائع مزمجرا وصائحا: “ما تحشموس تتعلمو في كلوبية السوق من الصغرة؟” … حتى البائع الذي هو تاجر بالاساس كان يحرص على قيم اخلاقية قبل الربح …
سوق الجمعة الان رغم قربه من الجامع الكبير اصبح مرتعا للباندية والمتسكعين، والرمانة جفت وجف كسكروتها وجلّ الحوانيت تحولت الى تجار الكترونيك …تصوروا مدينة عتيقة بنكهتها العتيقة بانهجها العتيقة باناسها الطيبين تتحول الى تجارة الكترونيك، الى منتزهات للصوص والسكارى والعابثين بها شكلا ومضمونا … تصوروا المدينة العتيقة بنكهة وسخها قديما رغم انه وسخ، تصبح اليوم اشنع وافظع واقذع من الوسخ ما في الوسخ … تصوروا المدينة العتيقة اصبحت ليلا لا امن ولا امان فيها وهي التي كانت تؤوي كبار القوم في صفاقس الذين يسكنونها شتاء ويهرعون الى الغابة صيفا… لان الغابة تعني الاجواء الفسيحة ومشموم الياسمين على اذن يعلوها كبوس “معنڨر” … و الغابة هي ايضا كعيبة سلطان الغلة (الهندي) ونغمة بوصرصار اي الصرصار وهو حسب تعبير امهاتنا “يطيّب في الهندي وفي الزللوز” اي اللوز …
تلك اللوحات واشياء اخرى عديدة في المدينة العتيقة كانت تاخذ من وقتي ساعتبن على الافل يوميا … في ذلك العمر كل شيء كان مباحا لنا الاطفال في المدينة العتيقة من باب جبليها الى باب غربيها الى باب ديوانها …ولكن ما ان نفقد البوصلة وتتجه بنا أقدامنا الى الانهج الضيقة المؤدية الى الباب الشرقي حيث نهج الجم، جتى تبدأ حواس واعين الرجال الكبار تحملق بكل شراسة وتبدأ اسئلتهم المزمجرة: “وين قاصدين ربي ؟؟..اش ضاعلكم غادي ….؟؟..بديتو تتعلموا في التزوفير والقباحة …ايا تطيروا من هوني والا نوريوكم “…كنا لا نفهم شيئا مما يقولون خاصة وهم يواصلون: “انتوما متاع كارطي ؟؟؟ يقصف قدّكم “…
ولم نفهم لا سبب غضبهم ولا معنى تلك الكلمة الا بعد عمليات استقصائية هي اخبث من السي اي آي والموساد مجتمعين ….الباب الشرقي يعني … ستعرفون ذلك واكثر في الورقة رقم 13 ….
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
محمد الزمزاري:
ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.
ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.
لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…
هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..
أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
السيد معتمد سليمان… ما هكذا تساق الجرارات!!
حدث في رزق البيليك… المرجان الأحمر ينزف دما
سليانة: غدا… أدب الطفل في ملتقى عبد القادر الهاني
اختتام الدورة الثامنة لمنتدى المؤسسات Enicarthage
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
استطلاع
صن نار
- فُرن نارقبل 3 ساعات
السيد معتمد سليمان… ما هكذا تساق الجرارات!!
- منبـ ... نارقبل يوم واحد
حدث في رزق البيليك… المرجان الأحمر ينزف دما
- ثقافياقبل يوم واحد
سليانة: غدا… أدب الطفل في ملتقى عبد القادر الهاني
- اقتصادياقبل يومين
اختتام الدورة الثامنة لمنتدى المؤسسات Enicarthage
- اقتصادياقبل يومين
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
- صن نارقبل يومين
بعد 61 عاما… هل يكشف ترامب عن معطيات جديدة حول مقتل “جون كينيدي”؟
- داخلياقبل يومين
النفيضة: وقفة احتجاجية لأهالي “دار بالواعر”… على خلفية سقوط تلميذ من حافلة
- صن نارقبل يومين
حرب أوكرانيا… رسالة روسية في شكل صاروخ قادر على الدمار الشامل