جور نار
ورقات يتيم… الورقة رقم 16
نشرت
قبل 8 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
…العطلة الصيفية في بداية الستينات هي موسم لاشياء عديدة … جنى اللوز وتقشيره … جني الهندي وبيعه (السطل بـ5 مليمات) … تكسير اللوز واستخراج لبّه (الشكارة بمائة مليم) ولكن ايضا “العولة” وهذا يعني في مدينتنا احضار مؤونة كل ما يلزم لفصل الشتاء والخريف خاصة من كسكسي ومحمص وتشيش وبرغل ودويدة، وفي رواية اخرى الحلالم …
ياااااااااااااااااه ويني الدويدة؟… ويني اللكلوكة (خليط من زبيب مرحي ولوز مقلي وجلجلان) ..ويني عصيدة الطماطم ..وينو بازين بالمرقة ..وينو افيّم ملثوث بالخضرة .. وينو افيم حلالم ..وينو عبود الزميط والروينة.. وينهي الجردقة بالدهان.. ويني المرقة الزورية دون سمك .. ويني الدوارة الهجالة (بالخضر فقط) …مأكولات عديدة عوضتها السندويتشات والملاوي والبيتزا والسلامي والكفتة والاسكالوب والستاك والهم الازرق الكل … وهنا لا اتحدث عن الاذواق بل اتحدث عن المواد الاولية لصنع هذه الماكولات التي تعاصرنا الان والتي لا ندري مأتاها، رغم ان بعض “عثرات” المتفقدين تدلي ياشياء رهيبة عن كل الجرائم المرتكبة في حقنا وخاصة في حق ابنائنا صحيا ..ولان المتفقدين يسهل جدا القضاء على ضمائرهم في بلد اصبح بامتياز بلد الرشاوي، فاننا جميعا “نبلع السكينة بدمها” لاننا لا نعرف لا الجاني ولا حارسه الذي من المفروض ان يكون حارسنا نحن … لك الله يا تونس بعد نكبة 14 جانفي خصوصا …
من جهة اخرى وللامانة بعض الاطعمة الكلاسيكية التي ذكرتها وكادت تنقرض مازلت استمتع بها ..الم يقولوا ان البنية تعمّم (اي تشبه عمتها)؟ ولان امي هي عمة زوجتي فانها حفظت عنها اشياء حتى وراثيا ومازالت تتحفني ببعض تلك الماكولات … شكرا منية …اعود الى العولة ..مثل هذه العمليات لا تتم الا صيفا لضمان الشمس التي تقوم بالتجفيف … والمرأة الحاذقة والحكيمة في العائلات المعوزة خاصة هي التي “تفتل” اي تصنع تلك العولة كل سنة ..وذلك لاسباب عريقة وتاريخية في صفاقس … صفاقس منذ القدم ولحد يوم الناس هذا لها مناخ خاص بها فهي ليست صحراوية وليس لها مناخ الشمال الممطر ولا هي بالساحلية ايضا ..فرغم وجودها على الساحل المعروف بامطاره خريفا فان صفاقس امطارها نزوية (حتى امطارنا بالكيف) … وعندما لا تنزل الامطار خريفا يقول المتساكنون بان تلك السنة “عام الزمّة” … فهمت بعد سنوات ان الزمّة تعني الازمة …
والازمة تاريخيا ايضا كانت مرتبطة بالحروب في تونس عموما وهي التي كان الغازي في جلها ياتي بحرا ويطوّق خناقه على متساكني المدن ومنها صفاقس وبالتحديد حول سورها …حتى الاستسلام … وللتاريخ ايضا صفاقس في عهد الاستعمار الفرنسي كانت آخر مدينة استسلمت للمستعمر وبخيانة جماعة من ضواحيها… لهذين السببين فان متساكني صفاقس يحتاطون لهذه المفاجآت المناخية وللغزاة فتعوّدوا ان يقوموا كل صيف باعداد العولة، الى ان اصبحت من التقاليد ….ووالدتي عيادة رحمها الله بعد ان تنهي عولتنا (المتواضعة ولكن خير من بلاش والحمد لله) يدعوها الاقارب الميسورين حتى تكون المشرفة على عولاتهم نظرا إلى خبرتها … وتنصب الجفان والغرابل … كانوا يقولون عنها علنا “اشكون يشبه عيادة في الفتلان والزلڨان؟؟؟
من جهتي ورغم اني اصبحت تلميذا في الثانوي (قد الدني) الا ان والدتي كانت وكما تقول هي “لا تهنّي ولا تعزّي” الا وعبدالكريم معها ..حتى في عولة الاهل او الجيران .هي تخاف عليّ خوفا مرضيا ولا تثق باختي الكبيرة في غيابها حتى تعتني بي كما يجب . اشكون يعرف توكلوشي وقت يجوع ؟؟ تغطيهشي وقت يتعرّى ؟؟؟ … .ولعلّ من الاشياء التي اتذكّرها وكانها حدثت البارحة انها ذات يوم حملتني معها لقضاء امسية في دار عمتي… وعندما حان وقت العودة الى حوشنا الحّت عمتي وبناتها على ان ابقى ضيفا عندهم تلك الليلة ..وقبلت امّي على مضض ..في الغد وعندما عدت اليها صباحا … وجدتها في قمة الرعب …سالتني: “انت لاباس عليك ما جرالك شيء البارح؟” نظرت اليها واجبت: “يخخي ما تشوفش فيّا لاباس؟” … ضمّتني الى صدرها وكانني طفل صغير غضّ …
يااااااااااااااااااااااااااااااه كم هي ممتعة ….مريحة ..سمحة …الضمة عموما …وتلك الضمّة الامومية خاصّة …سالتها: “اشبيك يا عيادة والله لاباس عليّا اصحّ مالجنّ”… نظرت اليّ مليّا وكانها غير مصدقة لما سمعت ورأت وقالت: “يا وليدي البارح مازلت كيف خذاتني عيني وقمت مفجوعة عليك ..نحس قلبي اتشك شكة وحدة ووليت ندعي لربّي يا ربّي احميلي وليدي ..ولوكان موش جا عليّا عار راني جيتك في هاكة الوقت (نصف الليل تقريبا)” …هدّأت من روعها ثم قلت لها: “تعرف يا عيادة البارح شويّ لا لسعتني عقرب!” … وهو ما حدث فعلا وانا في ضيافة عمتي ..كنا نسهر ونسمر وفجأة جاءت ابنة عمتي ورجتني بصوت هامس الا اتحرك من مكاني .. انصعت لها ثم هوت بـ”شلاكة” فوق راسي بقليل حيث كانت تتجول “هوشة” (وفي رواية اخرى هيليكوبتر )… اي عقرب … ووصفها بالهيليكوبتر هو وصف رائع …
سنة 74 كانت اول سفرة في حياتي الى المغرب … لست عاشق زطلة ولكن كنت في مهمة مهنية ساعود اليها في ورقات قادمة … كنا في سماء الرباط و كان قائد الطائرة يستعد للنزول… كنت اراقب الرباط الجميلة من نافذة الطائرة وفجأة انخلعت من االمقعد الذي اجلس عليه وبرعب شديد .. هيليكوبتر مرت بجانب طائرتنا …مرورها كان سريعا بومضة البرق وكانت تشبه جدا جدا العقرب ..اعود لهيليكوبتر دار عمتي … ولأن قلب الام خبيرها …في ذات اللحظة وبحاستها السادسة والستين فوق البليون ..ارتعدت فرائصها وزلزلت اوصالها ..وعاشت معي الحدث بقرون استشعار قلّ ان يملكها احد غير الام …
في العطلة الصيفية تلك بدأت اهتماماتي الغنائية تتنوع وترتقي ..فبعد ان كنت من عشاق اش علينا (نعمة) وصفية شامية في(لا لا ما نحبكشي) والهادي القلال و (نرجعلك لازم نرجعلك) بتلك الترهويجة الموسيقية لكمنجة رضا القلعي ..بين المقطع والاخر ..اصبحت اذني تلتقط وتهتم بنوع من حب الاستطلاع لمنظومات موسيقية جديدة ..كانت تقتوقات عبدالحليم اولها (بتلوموني ليه .. باحلم بيك ..في يوم في شهر في سنة …) وكنت احاول ترديد بتلوموني ليه مع اختي الصغرى فكرية اطال الله عمرها … كنت اكبرها باربع سنوات وكنت آمرها بان تردد معي تلك الجملة الموسيقية القصيرة التي تاتي مباشرة بعد عبارة بتلوموني ليه ..ولانها كانت في صغرها ‘لا تدبش لا تنبش’ منتهى العقالة لحد السذاجة، كانت تتوفق احيانا في مواكبة نسق الجملة الموسيقية واحيانا يضيع نسق فكرية المسكينة ..اقول مسكينة لانني لا اتوانى لحظة واحدة عن عقابها ضربا بالارجل متى لم تكن متناغمة مع طربي وانشادي … شفتوني قداش خايب منذ طفولتي ..؟؟؟
كما كانت تشدني بعض اغاني فايزة احمد العائلية (بيت العز وحبيبي يا خويا) او صباح اونجاة الصغيرة ايضا …لكن ابدا ان جلبتني ام كلثوم او عبدالوهاب او فريد او اسمهان …حتى حدث ذات يوم ان زارت امرأة عمي لطيفة رحمها الله ابنة اخيها وصديقتها السمراء والحلوة جدا (وفقط) ما اخيب نيتكم ….ودندنتا باغنية الكبير عبدالوهاب (النهر الخالد) يومها تجمدت وانا استمع لهما تنشدان بطرب “سمعت في شطك الجميل ما قالت الريح للنخيل” …لم افهم شيئا يومها لم افهم شيئا ….لا عن النخيل … ولا عن الشاطئ ..ولا على الريح …فقط عندما كبرت عرفت ان الشاطئ والنخيل والريح العازفة لوحة لا يعرفها الا من يحس بجمال الله اولا وبجمال ما خلقه وبجمال الجمال … وفهمت ايضا وعن وعي ان الفنان عموما والكبير عبدالوهاب خاصة، يستطيع ان يشد سمع الانسان بعمق ابداعه وبحسه الفني الرهيب وساعود يوما الى هذه الفلتة الموسيقية في ورقات قادمة …
في تلك العطلة المدرسية تعلمت ايضا السرقة والكذب …. نعم كانت امي كلما دعتني لقضاء بعض حوائجنا من حانوت صالحة (هكذا كان يسمّى) وعرفت بعد سنوات ان صاحبه العبوس دائما والصعب المراس مع كل حرفائه والذين يتأففون من هذا التاجر الذي لا يستحق لقب تاجر فالتجارة فن … التجارة منذ القدم “لسيّن يغزل الحرير” او لا تكون … وهذه عشتها في سوريا سنة 96 عندما كنت في بعثة دراسية تابعة للاتحاد العربي للاذاعة والتلفزيون .السوري حماه الله وفرّج كربه من المتآمرين عليه في الداخل والخارج لضمان امن اسرائيل لا غير، ولتفتيت سوريا حتى لا تعود الى عزتها ومجدها الا بعد عشرات السنين من اعادة البناء …وما يقال عكس ذلك هو اما مشي في قطيع السياسيين او غباء، او خبث سياسي انتهازي بامتياز ..عودوا الى مقال كتبته بعد غزو العراق مباشرة ونشرته في جريدة الشروق، وقلت في خاتمته ان سوريا هي الهدف المقبل ..لا ادعي لا النبوّة ولا العبقرية في استقراء المستقبل، ولكن هو منطق الاشياء فقط والذي لا يستحق ذكاء خارقا لقراءة واقع سوريا وكل البلدان المجاورة لاسرائيل…
ويكفي في هذا الباب ان نتساءل سؤالين فقط… اولهما: من المستفيد مما يحدث في سوريا؟ ..ولا اجابة باستثناء اسرائيل وبلاش بطيخ وخاصة بصل وخروع …وبلاش تفسيرات اخرى… ومن يتحدثون عن دكتاتورية بشار عليهم اولا ان يعتنوا بـ”خمجهم” وعفنهم اذ كيف لقطر والسعودية ان تتحدثا عن ديموقراطية سورية، وهما اللتان لا احزاب في بلديهما… وتاريخهما يعج بالاغتيالات وبتسميم الاخ لاخيه والابن لابيه ….ثم السؤال الثاني، لو كان رأس بشار هو المطلوب اما كان بامكان امريكا وحلفائها الإقدام على خلعه في ساعة من الزمن ..؟؟ تركيا وقطر والسعودية والنصرة والمعارضة المعتدلة وغير المعتدلة والاكراد وما يسمى بالدولة الداعشية وروسيا وامريكا واوروبا وايران وحزب الله… الجميع دون استثناء وجدوا في سوريا ملعبا لهم ولاهدافهم، كل يغنّي “باحلم بيك” …وهناك قاعدة تاريخية تقول ان الاحلام الخبيثة لا تخلّف الا الكوابيس وارجو من الله ان نعيش يوما نرى فيه كوابيس مدمرة لاعداء سوريا …سوريا الجذور سوريا المجد سوريا التاريخ ..ومن تاريخ سوريا ان دمشق كانت ثاني اقدم عاصمة تجارية عبر التاريخ بعد “اريحا” وهكذا التجار او لا يكونون ..
في تلك الزيارة لدمشق عام 1996 بلاد الجمال والامن والامان (سماح برجالهم بنساهم والله) كنا ندخل لاي حانوت لاية مغازة نقلبها راسا على عقب وقد لا نشتري شيئا منها احيانا … وببشاشة الدنيا يجيب صاحبها “ولك شو يا حبيبي ما عجبك شيء” ؟؟؟ … كنا نظن خاصة وانهم يصيحون عندما يتكلمون تماما كما ترونهم في مسلسل “باب الحارة” كنا نظن انهم غاضبون منّا ومن بعثرتنا لحوانيتهم ..ولكن سرعان ما يضيفون: “ولا يهمك زينة ان شاء الله” … يقتلونك بببشاشتهم مرة اخرى رجالا ونساء ..تصوروا اننا كنا نحن مجموعة المشاركين العرب في تلك الدورة التكوينية، نراهن بعضنا البعض على رؤية امرأة سورية غير جميلة في شوارع دمشق …ويخسر من لا يراهن على الجمال ..
وفي المقابل عندما زرت القاهرة سنة 1988 في كاس افريقيا للكرة الطائرة التي شارك فيها “السي اس اس” (على فكرة على حساب جريدة الاعلان التي كنت اعمل بها) ..لاني لم اخرج اية مرة على حساب النادي رغم العروض المقدمة من قبل مسؤوليه والذين كنت اقول لهم دوما شكرا على الحركة، ولكن ساتركها لمن يترصد مثل هذه الرحلات من ثقب الابرة وما يشبعش هل من مزيد وما اكثرهم …عند زيارتي المهنية للقاهرة كنا نتراهن على وجود امرأة جميلة في الشارع المصري وكانت نتيجة رهاننا بعد ثلاثة اسابيع من البحث الدقيق ان النساء الجميلات في القاهرة موجودات فقط في المسلسلات والافلام المصرية (اربع كعبات وهز ايدك من المرق لا تتحرق)…
اعود الى صاحب حانوت صالحة تاجر حومتنا الاقرب إلى منزلنا (قرابة الكيلومتر) العبوس الصلف، لاكتشف بعد سنوات ان زوجته تدعى صالحة وانه كان لا يساوي شيئا امام جبروتها… وان ما يقوم به مع الحرفاء هو تعويض له كرجل “طلطول في منزله” ..قضاء ما نستحقه اما من ملح او سكر او بنّ للقهوة كنت انا الذي اتكفل بشرائه وامي لا تمانع في ذلك باعتبار خفة وزنه ….واغتنمت تسلم مقاليد وزارة التجارة (علاه الوزراء اللي شدوها بعد نكبة 14 جانفي خير منّي ؟؟؟)، اغتنمت تسلم مقاليد تلك الوزراة كي اكذب واسرق …(علاه يخخي جل الوزراء بعد نكبة 14 جانفي وفي جل القطاعات ماهمش سراق ؟؟ ان لم يكن بالمعنى المادي فبالمعنى السياسي) ….
ولكن حتى السرقة لها فنونها وجنونها .. ياااااااااااااااااااااااااااه ماذا تساوي حياتنا عموما دون فنون او جنون …؟؟؟ ع …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 20 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 20 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يوم واحد
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يومين
الصوت المضيء
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 4 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 4 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟