جور نار
ورقات يتيم … الورقة 48
نشرت
قبل 5 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
لم تطل اقامتي بـ”روني سو بوا” بالضاحية الشرقية لباريس… احسست بالعزلة هناك اذ ان المعهد الواقع بـ “بري سير مارن” كان قريبا من مقر سكناي… وهو ما جعلني اعيش في دائرة جغرافية ضيّقة لا تمنحني فرصة الوجود في باريس الا في نهاية الاسبوع…
…وكيف لي ان اغيب عن دنيا باريس؟؟؟
بكل الوانها بكل مطاعمها في الحي اللاتيني… بكل قاعات السينما التي تقول فيما تقول انت عاجز عن رؤية الكمّ الهائل من الافلام الجيدة التي تنزل الى السوق يوميا … وانا المغرم بهذا الفن السابع والذي هو في الحقيقة نوع من الدروس التطبيقية لدراستي… كيف لي ان لا امر على فطايري “بيلفيل” لالتهم فطيرة ومعها كعبة زلابية ؟؟؟… كيف لي ان لا ازور سان دينيس ؟؟؟..بكل فاتناتها ولكن بحذر لان الاقتراب منهن قد يثير شكوك “امرائهن”… اي اصحاب الامر دون النهي عن المنكر في تصرفهن في اجسادهن المعروضة للبيع في هدوم بلاش هدوم ….كيف لي ان لا امشي الى حديقة لوكسمبورغ الشاسعة والجميلة باشجارها العالية وقازونها الطبيعي (ما تشبّهلها كان التوتة متاعنا في صفاقس كرمك الله)…
لهذه الاسباب ولغيرها من المغريات قررت ان ابحث عن مقرّ سكنى آخر لاتمكّن يوميا من عشق باريس ..ولأغنّي لها يوميا (حبك خارطتي ..ما عادت خارطة العالم تعنيني) ….ولأن اقداري تلاحقني دوما بحلوها ومرّها فقد وجدتني يوما وقرب جامعة السوربون التقي باصدقاء من ساقيتي …يااااااااااااه … اولاد المعزون… وبعد العناق وكثيرا من نوستالجيا الحكايات عن عبثنا في حومتنا، جاء السؤال عن مقارّ سكنانا وكيف يمكن لنا ان نجدّد اللقاءت معا ..تبادلنا العناوين وأصفت من جانبي انّ عنواني مؤقت لاني ابحث عن مسكن جديد حتى اخرج من عزلة روني سو بوا ..وقتها قفز الى ذهن جمال (اكبرهم) وهو طالب فلسفة بجامعة السوربون اقتراح بلّلني فرحا وسعادة ..قال لي جمال: ” تحبّشي تسكن معانا” ..؟؟ كانوا اخوين وابن عم لهما .. طالبان اثنان وعامل ..كلّهم يقطنون بمبيت جامعي بـ”كروا دي بارني” في الضاحية الجنوبية لباريس ..قلت له: “جمال انتم ثلاثة في غرفة جامعية واحدة … موش برشة عليكم ؟… ربت على كتفي وقال: “عاد اشبيه نتحشاو في بعضنا” …
كنت انتظر ردا من هذا القبيل بفارغ الشوق وما كانت ملاحظتي حول ضيق المكان الا نوعا من الكياسة في عدم ازعاج الغير ..وقفزت عيناي تعبّر عن فرحها بردّه وواصلت سياسة الكياسة معه بالقول: يا جميّل بالكشي نضيّقكم؟ .. وجاء الجواب الذي اراحني لانه كان صادقا: “يا كريّم اشبيك ركيك .. تسكن معانا واكاهو ويزّي من التزعبين متاعك” …وكان ذلك ..انتقلت الى كروا دي برني معهم في غرفة صغيرة حجما ولكن كم هي كبيرة بصفائنا … كانت لي قناعة ومازالت ان المكان لا قيمة له مع من نحب ..فخيمة في صحراء نيفادا افضل عندي من قصور كسرى انو شروان …وتعسيلة تحت ظلال شجرة زيتون او لوز، اكثر رفاهة من سرير فاخر… الم يقل ابو ماضي (احبب فيغدو الكوخ قصرا نيّرا، وابغض فيُمسي الكون سجنا مظلما) …
كانت فترة رائقة مع اصدقائي المعازنة ..سهراتنا لا تنتهي قبل الواحدة صباحا في اجواء رائعة للغاية وكانت المهمات موزّعة حسب اختصاص كل واحد فينا ..جمال كانت مهمته الطبخ وهو يجيدها … عبداللطيف يتكفل بشراء ملازم المنزل ذي الغرفة الواحدة …انا اتكفّل بغسل الصحون وما تبعها بعد كل وجبة … وهي من الاشغال التي يتافف منها العديد …وحتى النساء ايضا … وانا اندهش من الامر لاني اجد متعة في غسل كل الاواني الوسخة (ونخرّجها تلمع لمعان… وفي نفس الوقت ما تستغلّوهاش فرصة باش تهبطو فيالق عليّ وتقولولي مارس متعتك …خليونا احباب يبارك فيكم) … رضوان صغيرنا مهمّته الاستهلاك … هو درّوشنا … بعد تناول العشاء نلتقي جميعا كل يوم تبدأ رحلة التهريج والضحك الذي لا ينتهي وكنت مهرّجهم …. انا لا اطيق السكون او السكوت لذلك اعود كل ليلة الى لوحة من ذكرياتنا بالساقية والوّنها ببعض العبارات الوقحة حتى يكون ذلك فلفل اكحل السهرية …
ربّما ذلك الاسلوب الذي كنت امارسه منذ طفولتي في خلق اجواء والوان هو ما اهّلني يوما وانا اجلس امام المصدح لاستقي منه زادي حتى اخرج بالتنشيط من عالمه المُعلّب الى دنيا اخرى … والاروع فيه ومنذ طفولتي ايضا اننا كنّا بارعين في “تراكية” احدنا ويا ويلو اللي يطيح بين ايدينا … لكن الجميل انه لا يغضب الواحد منّا اذا وقعت عليه الواقعة ..كنّا نمزح بحق … نشيّط احيانا… ولكن ما بداخلنا من صفاء وحب يشفع لنا كي نمزح دون خوف او وجل ودون عقد …
انتقال السكنى الى الضاحية الجنوبية بباريس …جعلني اعيش نسقا جنونيا كامل ايام الاسبوع الدراسية … التنقّل من مقر سكناي الى المعهد يتطلب منّي ان استفيق يوميا على الساعة السادسة صباحا حتى اكون في موعد انطلاق الدروس على الساعة الثامنة…واذا اتفقنا على ان موكب النوم لا يحلّ عندي الاّ مع الساعة الواحدة صباحا على اقلّ تقدير، فذاك يعني ان معدل ساعات نومي يوميا لا تتجاوز في افضل حالاتي الخمس ساعات …نعم …وكأن مقولة خالتي فطومة رحمها الله ذات طفولة (اللطف يا ربي كيف الجنون لا تنامو ولا تخلليو شكون ينام)، كأنها “طلعت دخان للسماء” وعلى حد قول الخيام مترجمة من أحمد رامي (فما اطال النوم عمرا ولا قصّر في الاعمار طول السهر )…
اجواء الدراسة كانت ممتعة جدا بالمعهد ..اكتشفت فصيلة جديدة من المدرّسين .. في حضرتهم تشعر بذاتك كانسان لا كطالب …الاستاذ ورغم ما يحمل جرابه من شهائد عليا ومن خبرات فرنسية مُعترف بها، يحاورنا الند للند، ينزل من البرج العاجي الذي يسكن فيه جلّ اساتذتنا بكثير من العقد ..يصاحبك الى مقهى المعهد او مطعمه ويحسن الاستماع اليك في كل شواغلك …يستمع الى نقدك ويتفهّم واقعك وبكل اريحية ..جل الاساتذة في بلدنا ينطلقون اما من عُقدهم او من واقعهم المؤلم كي يُسقطوا على تلامذتهم او طلاّبهم قهرهم في ماضيهم مع عائلاتهم مع اترابهم مع مدرّسيهم او (تمرميدة) في حاضرهم مع زوجة نمرة، مع طفل عاق اومع رئيس متسلّط … ويذهب المتلقّي اي الطالب ضحية ..ليتحوّل فيما بعد الى استاذ اخر يحمل نفس العقد ونفس الاساليب ..
كنت يوما حاضرا في مجلس مراقبة نتائج امتحان آخر السنة في معهد الملتيميديا ..وفاجأني احد الزملاء من المدرّسين بقوله: “يا سي عبدالكريم لو تسمح عندي ملاحظة” ..نظرت اليه وهو المعروف بتشدّده مع الطلبة في اسناد الاعداد وقلت له تفضّل ..قال: “لاحظت انك كريم في اسنادك للاعداد لطلبتك … موش لو كان تشدّ يدك شويّة خير” …ملاحظته كانت الشرارة التي فتحت بها ابواب الجحيم عليه ..قلت له: “يا سي فلان ..لو قمت بدراسة بسيطة لمعرفة من هم طلاّب معهدنا لفهمت اكثر الموضوع ..طلبتنا يا سي فلان يمثّلون في جلّهم الفئة المتوسطة جدا في معدلات نجاحهم في الباكالوريا، اذ ان الّلامعين فيهم يًوجّهون الى دراسة الطب او المدرسة التحضيرية للمهندسين .. والفئة الثانية تًوجّه للكليات المختصة … وانت يا سي فلان توصلك كان الرشّة الثالثة… اي ان كفاءتهم في المواد العلمية التي تُدرّس بالمعهد متوسطة… وهذا ما يُفسّر اعدادهم المتواضعة ايضا ..بالنسبة لاختصاصي هو من النوع الذي يًصبغ بمسحة فنّية لذلك يجد الطلبة فيه متنفسا وبالتالي يتفاعلون معه ايجابيا ..هذا اولا ..ثم انت وكلّنا جميعا مدركون ان الطالب عموما هو ضحية نظام تربوي فاسد منذ الدراسة الابتدائية… فكيف اسمح لنفسي بذبح من هو ضحية ..؟؟” واتممت وبسخرية: “يا سي فلان الاعداد التي اسندها لطلبتي لا اُخرجها من نقود جيبي ومن يستحق 20 اسند له العشرين دون تردد لانّ ذلك حقّه الشرعي، ثم لاني لست معقّدا حين اسمع البعض من زملائي يتباهون بشحّهم ويتشدّقون بـ (اشكونو هو الطالب باش نعطيه عشرين ؟؟)”..
في المعهد السمعي البصري بباريس تعيش حياتك الطالبية بكل المعاني الجميلة ..اذ علاوة على العلاقات الممتازة جدا مع اساتذتي هنالك اكتشاف لطلبة اخرين افارقة ..في هذا الباب اكتشفت عديد الاشياء واصلحت عديد التابوهات …قبل عيشي بباريس كان في اعتقادنا ان الافريقي الاسمر هو مرادف للشخص القذر سواء في هندامه او وخاصة فيما يقال عن عرقه النتن … يا لنا من اغبياء ومرضى… صدّقوني ان العديد منهم رجالا ونساء هم اعطر منّا … ولكن وللامانة ايضا وباستثناء السينيغاليين والماليين، جلّهم لهم مسحة من الغباء … فانا كنت امازح الايفواريين مثلا وذلك باللعب على الكلمات لاقول لهم بالفرنسية ما معناه (الايفواريون لا يرون شيئا) ..ربما ميزتهم التي لا يكسبها العديد منّا انهم يضحكون للحياة ..قلّ وندر ان ترى فيهم الوجوه المكشبرة .. وبارعون جدا في الرقص ..اووووووووووووف ما اروعهم ..ولكنّ الامر المقرف حقا جلبهم للحوم القردة المجفّفة وطهيها في المبيتات (القدّيد متاعهم) يومها قد نبتعد كيلومترات (راني نعرف انو مبالغة) كي لا نستنشق ايف سان لوران القرودة …
اعود للدراسة بعد ثلاثة اشهر من بدايتها كان من ضمن ما ندرسه المونتاج… باعتبار ان السنة الاولى تخضع لجذع مشترك فيه جميع محاور العلوم السمعية البصرية من التصوير الفوتوغرافي وصولا الى المونتاج ولجميع الطلبة ثمّ ياتي بعدها الاختصاص ..كانت استاذة المونتاج مركّبة رئيسية ذات خبرة واسعة في هذا الميدان ..وبقدر ما كانت لطيفة معنا بقدر ما كانت تركّز وبكل انتباه وعمق على ما ابديه من ملاحظات … انتقلنا بعد ثلاثة اشهر الى الدروس التطبيقية في مادة المونتاج وانا ذو خبرة الخمس سنوات في هذا الاختصاص …وواصلت استاذتي الاهتمام بي اثناء الدرس التطبيقي الاول وبكل صمت وعمق ..انهيت موناتجي وجاءت لتطّلع على عملي النهائي ….لم تنبس ببنت شفة لا سلبا ولا ايجابا …انتهت الحصة الاولى التطبيقية معها .. هممت بالخروج فاذا بها تدعوني لجلسة منفردة معها في القسم (جلسة استاذة مع طالبها والله)… خرج الطلبة وبادرتني وبسرعة بالسؤال: “هل اشتغلت سابقا في المونتاج؟” ..اجبتها نعم ولخمس سنوات …انفتحت عيناها كفوهتي بركان وقالت: اذن ماذا تفعل هنا ..؟؟؟ قلت لها ادرس لتطوير معرفتي ولنيل ديبلوم في اختصاصي حتى اصبح مثلك مركّبا رئيسيا ..
لم تصدّق ما قلته لها …وطلبت منّي ان اتحوّل معها الان وفورا لمكتب مدير المعهد … سالتها: هنالك اشكال ؟؟ … لم تجب بل اكتفت بالقول ستعرف حالاّ ..دخلنا مكتب السيد فرومنتان مدير المعهد وطفقت تسرد الواقعة ..قالت: “موسيو فرومنتان هذا الطالب التونسي “كريم” منذ ثلاثة اشهر كان يساورني شك فيه .. اليوم وبعد محادثتي معه اكتشفت براعته اولا في المونتاج ولكن الاهم انه عمل خمس سنوات في بلده وحامل لديبلوم مونتيار منذ 1971.. هل هذا معقول ان يكون طالبا بالمعهد في خانة ديبلوم درجة ثانية وهو المتحصل عليه منذ خمس سنوات؟ هنالك اشكال ما ..انا لا يمكن ان اضيف له شيئا في دراسته ضمن المستوى الثاني، لأن المفروض ان يتابع دراسته ضمن طلبة المستوى الثالث” ..
هاتف المدير مدير الدراسة (موسيو جاك ديران) وطلب منه رايه في الامر فكان على نفس نغمة المركّبة الرئيسة ….خاطبني السيد فرومنتان بكثير من الحرج وقال لي: مؤسستك هي المسؤولة عما حدث لانه كان من المفروض ان لا تشارك في مناظرة درجة ثانية وانت المتحصل عليها منذ خمس سنوات … تجمّدت في مكاني ولم ادرِ ما اقول …واحساسا منه بضياعي لم يتركني لهواجسي وقال: شوف يا ولدي ساخّيرك بين امرين، امّا مواصلة دراستك في المستوى الثاني واعتبار وجودك بفرنسا رحلة سياحية او…” صمت قليلا ثم قال: “المعهد سيفتح قريبا مناظرة الدرجة الثالثة وسنمكّنك من المشاركة فيها، لكن شريطة ان تقطع علاقاتك نهائيا بالمعهد وتعود الى بلدك في انتظار صدور النتائج … اذا نجحت مرحبا بك بيننا… اذا فشلت بامكانك العودة للمناظرة بعد سنتين …فكّر طويلا في الامر ثم خذ قرارك” …
عدت الى زملائي التونسين واعلمتهم بالامر حاولوا معرفة موقفي فالححت عليهم بمعرفة موقفهم اولا …كان لديهم اجماع على ان لا ادع فرصة العمر تمرّ واهدر ما اتقاضاه مادّيا ..منحتنا انذاك بفرنسا قيمتها 130 دينارا تونسيا …ثم مرتّبي بالمؤسسة لم ينقطع ..وبالتالي بالنسبة لهم مهبول عبدالكريم لوكان يسيّب في فرصة عمرو ويترك تلك الاموال تذهب سدى ..اضافة الى ما اقوم به احيانا من مونتاج ببعض الشركات الخاصة في باريس والتي اتقاضى عليه 60 دينارا يوميا …
وتداول عليّ الجميع وهم يعيدون نفس العبارة ..اشبيك مهبول ؟؟… وعلى ذكر كلمة مهبول ارجوكم اعادة النظر فيها ..توة اشكون عايش فيها ..؟؟ موش المهبول ..؟؟ ثم احيانا موش الهبال جنون جميل .. ؟؟؟ التقيكم في هبلة اخرى من هبلات ورقاتي …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 13 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 13 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 23 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يوم واحد
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟