عبد الكريم قطاطة:
لم تطل اقامتي بـ”روني سو بوا” بالضاحية الشرقية لباريس… احسست بالعزلة هناك اذ ان المعهد الواقع بـ “بري سير مارن” كان قريبا من مقر سكناي… وهو ما جعلني اعيش في دائرة جغرافية ضيّقة لا تمنحني فرصة الوجود في باريس الا في نهاية الاسبوع…
…وكيف لي ان اغيب عن دنيا باريس؟؟؟
بكل الوانها بكل مطاعمها في الحي اللاتيني… بكل قاعات السينما التي تقول فيما تقول انت عاجز عن رؤية الكمّ الهائل من الافلام الجيدة التي تنزل الى السوق يوميا … وانا المغرم بهذا الفن السابع والذي هو في الحقيقة نوع من الدروس التطبيقية لدراستي… كيف لي ان لا امر على فطايري “بيلفيل” لالتهم فطيرة ومعها كعبة زلابية ؟؟؟… كيف لي ان لا ازور سان دينيس ؟؟؟..بكل فاتناتها ولكن بحذر لان الاقتراب منهن قد يثير شكوك “امرائهن”… اي اصحاب الامر دون النهي عن المنكر في تصرفهن في اجسادهن المعروضة للبيع في هدوم بلاش هدوم ….كيف لي ان لا امشي الى حديقة لوكسمبورغ الشاسعة والجميلة باشجارها العالية وقازونها الطبيعي (ما تشبّهلها كان التوتة متاعنا في صفاقس كرمك الله)…
لهذه الاسباب ولغيرها من المغريات قررت ان ابحث عن مقرّ سكنى آخر لاتمكّن يوميا من عشق باريس ..ولأغنّي لها يوميا (حبك خارطتي ..ما عادت خارطة العالم تعنيني) ….ولأن اقداري تلاحقني دوما بحلوها ومرّها فقد وجدتني يوما وقرب جامعة السوربون التقي باصدقاء من ساقيتي …يااااااااااااه … اولاد المعزون… وبعد العناق وكثيرا من نوستالجيا الحكايات عن عبثنا في حومتنا، جاء السؤال عن مقارّ سكنانا وكيف يمكن لنا ان نجدّد اللقاءت معا ..تبادلنا العناوين وأصفت من جانبي انّ عنواني مؤقت لاني ابحث عن مسكن جديد حتى اخرج من عزلة روني سو بوا ..وقتها قفز الى ذهن جمال (اكبرهم) وهو طالب فلسفة بجامعة السوربون اقتراح بلّلني فرحا وسعادة ..قال لي جمال: ” تحبّشي تسكن معانا” ..؟؟ كانوا اخوين وابن عم لهما .. طالبان اثنان وعامل ..كلّهم يقطنون بمبيت جامعي بـ”كروا دي بارني” في الضاحية الجنوبية لباريس ..قلت له: “جمال انتم ثلاثة في غرفة جامعية واحدة … موش برشة عليكم ؟… ربت على كتفي وقال: “عاد اشبيه نتحشاو في بعضنا” …
كنت انتظر ردا من هذا القبيل بفارغ الشوق وما كانت ملاحظتي حول ضيق المكان الا نوعا من الكياسة في عدم ازعاج الغير ..وقفزت عيناي تعبّر عن فرحها بردّه وواصلت سياسة الكياسة معه بالقول: يا جميّل بالكشي نضيّقكم؟ .. وجاء الجواب الذي اراحني لانه كان صادقا: “يا كريّم اشبيك ركيك .. تسكن معانا واكاهو ويزّي من التزعبين متاعك” …وكان ذلك ..انتقلت الى كروا دي برني معهم في غرفة صغيرة حجما ولكن كم هي كبيرة بصفائنا … كانت لي قناعة ومازالت ان المكان لا قيمة له مع من نحب ..فخيمة في صحراء نيفادا افضل عندي من قصور كسرى انو شروان …وتعسيلة تحت ظلال شجرة زيتون او لوز، اكثر رفاهة من سرير فاخر… الم يقل ابو ماضي (احبب فيغدو الكوخ قصرا نيّرا، وابغض فيُمسي الكون سجنا مظلما) …
كانت فترة رائقة مع اصدقائي المعازنة ..سهراتنا لا تنتهي قبل الواحدة صباحا في اجواء رائعة للغاية وكانت المهمات موزّعة حسب اختصاص كل واحد فينا ..جمال كانت مهمته الطبخ وهو يجيدها … عبداللطيف يتكفل بشراء ملازم المنزل ذي الغرفة الواحدة …انا اتكفّل بغسل الصحون وما تبعها بعد كل وجبة … وهي من الاشغال التي يتافف منها العديد …وحتى النساء ايضا … وانا اندهش من الامر لاني اجد متعة في غسل كل الاواني الوسخة (ونخرّجها تلمع لمعان… وفي نفس الوقت ما تستغلّوهاش فرصة باش تهبطو فيالق عليّ وتقولولي مارس متعتك …خليونا احباب يبارك فيكم) … رضوان صغيرنا مهمّته الاستهلاك … هو درّوشنا … بعد تناول العشاء نلتقي جميعا كل يوم تبدأ رحلة التهريج والضحك الذي لا ينتهي وكنت مهرّجهم …. انا لا اطيق السكون او السكوت لذلك اعود كل ليلة الى لوحة من ذكرياتنا بالساقية والوّنها ببعض العبارات الوقحة حتى يكون ذلك فلفل اكحل السهرية …
ربّما ذلك الاسلوب الذي كنت امارسه منذ طفولتي في خلق اجواء والوان هو ما اهّلني يوما وانا اجلس امام المصدح لاستقي منه زادي حتى اخرج بالتنشيط من عالمه المُعلّب الى دنيا اخرى … والاروع فيه ومنذ طفولتي ايضا اننا كنّا بارعين في “تراكية” احدنا ويا ويلو اللي يطيح بين ايدينا … لكن الجميل انه لا يغضب الواحد منّا اذا وقعت عليه الواقعة ..كنّا نمزح بحق … نشيّط احيانا… ولكن ما بداخلنا من صفاء وحب يشفع لنا كي نمزح دون خوف او وجل ودون عقد …
انتقال السكنى الى الضاحية الجنوبية بباريس …جعلني اعيش نسقا جنونيا كامل ايام الاسبوع الدراسية … التنقّل من مقر سكناي الى المعهد يتطلب منّي ان استفيق يوميا على الساعة السادسة صباحا حتى اكون في موعد انطلاق الدروس على الساعة الثامنة…واذا اتفقنا على ان موكب النوم لا يحلّ عندي الاّ مع الساعة الواحدة صباحا على اقلّ تقدير، فذاك يعني ان معدل ساعات نومي يوميا لا تتجاوز في افضل حالاتي الخمس ساعات …نعم …وكأن مقولة خالتي فطومة رحمها الله ذات طفولة (اللطف يا ربي كيف الجنون لا تنامو ولا تخلليو شكون ينام)، كأنها “طلعت دخان للسماء” وعلى حد قول الخيام مترجمة من أحمد رامي (فما اطال النوم عمرا ولا قصّر في الاعمار طول السهر )…
اجواء الدراسة كانت ممتعة جدا بالمعهد ..اكتشفت فصيلة جديدة من المدرّسين .. في حضرتهم تشعر بذاتك كانسان لا كطالب …الاستاذ ورغم ما يحمل جرابه من شهائد عليا ومن خبرات فرنسية مُعترف بها، يحاورنا الند للند، ينزل من البرج العاجي الذي يسكن فيه جلّ اساتذتنا بكثير من العقد ..يصاحبك الى مقهى المعهد او مطعمه ويحسن الاستماع اليك في كل شواغلك …يستمع الى نقدك ويتفهّم واقعك وبكل اريحية ..جل الاساتذة في بلدنا ينطلقون اما من عُقدهم او من واقعهم المؤلم كي يُسقطوا على تلامذتهم او طلاّبهم قهرهم في ماضيهم مع عائلاتهم مع اترابهم مع مدرّسيهم او (تمرميدة) في حاضرهم مع زوجة نمرة، مع طفل عاق اومع رئيس متسلّط … ويذهب المتلقّي اي الطالب ضحية ..ليتحوّل فيما بعد الى استاذ اخر يحمل نفس العقد ونفس الاساليب ..
كنت يوما حاضرا في مجلس مراقبة نتائج امتحان آخر السنة في معهد الملتيميديا ..وفاجأني احد الزملاء من المدرّسين بقوله: “يا سي عبدالكريم لو تسمح عندي ملاحظة” ..نظرت اليه وهو المعروف بتشدّده مع الطلبة في اسناد الاعداد وقلت له تفضّل ..قال: “لاحظت انك كريم في اسنادك للاعداد لطلبتك … موش لو كان تشدّ يدك شويّة خير” …ملاحظته كانت الشرارة التي فتحت بها ابواب الجحيم عليه ..قلت له: “يا سي فلان ..لو قمت بدراسة بسيطة لمعرفة من هم طلاّب معهدنا لفهمت اكثر الموضوع ..طلبتنا يا سي فلان يمثّلون في جلّهم الفئة المتوسطة جدا في معدلات نجاحهم في الباكالوريا، اذ ان الّلامعين فيهم يًوجّهون الى دراسة الطب او المدرسة التحضيرية للمهندسين .. والفئة الثانية تًوجّه للكليات المختصة … وانت يا سي فلان توصلك كان الرشّة الثالثة… اي ان كفاءتهم في المواد العلمية التي تُدرّس بالمعهد متوسطة… وهذا ما يُفسّر اعدادهم المتواضعة ايضا ..بالنسبة لاختصاصي هو من النوع الذي يًصبغ بمسحة فنّية لذلك يجد الطلبة فيه متنفسا وبالتالي يتفاعلون معه ايجابيا ..هذا اولا ..ثم انت وكلّنا جميعا مدركون ان الطالب عموما هو ضحية نظام تربوي فاسد منذ الدراسة الابتدائية… فكيف اسمح لنفسي بذبح من هو ضحية ..؟؟” واتممت وبسخرية: “يا سي فلان الاعداد التي اسندها لطلبتي لا اُخرجها من نقود جيبي ومن يستحق 20 اسند له العشرين دون تردد لانّ ذلك حقّه الشرعي، ثم لاني لست معقّدا حين اسمع البعض من زملائي يتباهون بشحّهم ويتشدّقون بـ (اشكونو هو الطالب باش نعطيه عشرين ؟؟)”..
في المعهد السمعي البصري بباريس تعيش حياتك الطالبية بكل المعاني الجميلة ..اذ علاوة على العلاقات الممتازة جدا مع اساتذتي هنالك اكتشاف لطلبة اخرين افارقة ..في هذا الباب اكتشفت عديد الاشياء واصلحت عديد التابوهات …قبل عيشي بباريس كان في اعتقادنا ان الافريقي الاسمر هو مرادف للشخص القذر سواء في هندامه او وخاصة فيما يقال عن عرقه النتن … يا لنا من اغبياء ومرضى… صدّقوني ان العديد منهم رجالا ونساء هم اعطر منّا … ولكن وللامانة ايضا وباستثناء السينيغاليين والماليين، جلّهم لهم مسحة من الغباء … فانا كنت امازح الايفواريين مثلا وذلك باللعب على الكلمات لاقول لهم بالفرنسية ما معناه (الايفواريون لا يرون شيئا) ..ربما ميزتهم التي لا يكسبها العديد منّا انهم يضحكون للحياة ..قلّ وندر ان ترى فيهم الوجوه المكشبرة .. وبارعون جدا في الرقص ..اووووووووووووف ما اروعهم ..ولكنّ الامر المقرف حقا جلبهم للحوم القردة المجفّفة وطهيها في المبيتات (القدّيد متاعهم) يومها قد نبتعد كيلومترات (راني نعرف انو مبالغة) كي لا نستنشق ايف سان لوران القرودة …
اعود للدراسة بعد ثلاثة اشهر من بدايتها كان من ضمن ما ندرسه المونتاج… باعتبار ان السنة الاولى تخضع لجذع مشترك فيه جميع محاور العلوم السمعية البصرية من التصوير الفوتوغرافي وصولا الى المونتاج ولجميع الطلبة ثمّ ياتي بعدها الاختصاص ..كانت استاذة المونتاج مركّبة رئيسية ذات خبرة واسعة في هذا الميدان ..وبقدر ما كانت لطيفة معنا بقدر ما كانت تركّز وبكل انتباه وعمق على ما ابديه من ملاحظات … انتقلنا بعد ثلاثة اشهر الى الدروس التطبيقية في مادة المونتاج وانا ذو خبرة الخمس سنوات في هذا الاختصاص …وواصلت استاذتي الاهتمام بي اثناء الدرس التطبيقي الاول وبكل صمت وعمق ..انهيت موناتجي وجاءت لتطّلع على عملي النهائي ….لم تنبس ببنت شفة لا سلبا ولا ايجابا …انتهت الحصة الاولى التطبيقية معها .. هممت بالخروج فاذا بها تدعوني لجلسة منفردة معها في القسم (جلسة استاذة مع طالبها والله)… خرج الطلبة وبادرتني وبسرعة بالسؤال: “هل اشتغلت سابقا في المونتاج؟” ..اجبتها نعم ولخمس سنوات …انفتحت عيناها كفوهتي بركان وقالت: اذن ماذا تفعل هنا ..؟؟؟ قلت لها ادرس لتطوير معرفتي ولنيل ديبلوم في اختصاصي حتى اصبح مثلك مركّبا رئيسيا ..
لم تصدّق ما قلته لها …وطلبت منّي ان اتحوّل معها الان وفورا لمكتب مدير المعهد … سالتها: هنالك اشكال ؟؟ … لم تجب بل اكتفت بالقول ستعرف حالاّ ..دخلنا مكتب السيد فرومنتان مدير المعهد وطفقت تسرد الواقعة ..قالت: “موسيو فرومنتان هذا الطالب التونسي “كريم” منذ ثلاثة اشهر كان يساورني شك فيه .. اليوم وبعد محادثتي معه اكتشفت براعته اولا في المونتاج ولكن الاهم انه عمل خمس سنوات في بلده وحامل لديبلوم مونتيار منذ 1971.. هل هذا معقول ان يكون طالبا بالمعهد في خانة ديبلوم درجة ثانية وهو المتحصل عليه منذ خمس سنوات؟ هنالك اشكال ما ..انا لا يمكن ان اضيف له شيئا في دراسته ضمن المستوى الثاني، لأن المفروض ان يتابع دراسته ضمن طلبة المستوى الثالث” ..
هاتف المدير مدير الدراسة (موسيو جاك ديران) وطلب منه رايه في الامر فكان على نفس نغمة المركّبة الرئيسة ….خاطبني السيد فرومنتان بكثير من الحرج وقال لي: مؤسستك هي المسؤولة عما حدث لانه كان من المفروض ان لا تشارك في مناظرة درجة ثانية وانت المتحصل عليها منذ خمس سنوات … تجمّدت في مكاني ولم ادرِ ما اقول …واحساسا منه بضياعي لم يتركني لهواجسي وقال: شوف يا ولدي ساخّيرك بين امرين، امّا مواصلة دراستك في المستوى الثاني واعتبار وجودك بفرنسا رحلة سياحية او…” صمت قليلا ثم قال: “المعهد سيفتح قريبا مناظرة الدرجة الثالثة وسنمكّنك من المشاركة فيها، لكن شريطة ان تقطع علاقاتك نهائيا بالمعهد وتعود الى بلدك في انتظار صدور النتائج … اذا نجحت مرحبا بك بيننا… اذا فشلت بامكانك العودة للمناظرة بعد سنتين …فكّر طويلا في الامر ثم خذ قرارك” …
عدت الى زملائي التونسين واعلمتهم بالامر حاولوا معرفة موقفي فالححت عليهم بمعرفة موقفهم اولا …كان لديهم اجماع على ان لا ادع فرصة العمر تمرّ واهدر ما اتقاضاه مادّيا ..منحتنا انذاك بفرنسا قيمتها 130 دينارا تونسيا …ثم مرتّبي بالمؤسسة لم ينقطع ..وبالتالي بالنسبة لهم مهبول عبدالكريم لوكان يسيّب في فرصة عمرو ويترك تلك الاموال تذهب سدى ..اضافة الى ما اقوم به احيانا من مونتاج ببعض الشركات الخاصة في باريس والتي اتقاضى عليه 60 دينارا يوميا …
وتداول عليّ الجميع وهم يعيدون نفس العبارة ..اشبيك مهبول ؟؟… وعلى ذكر كلمة مهبول ارجوكم اعادة النظر فيها ..توة اشكون عايش فيها ..؟؟ موش المهبول ..؟؟ ثم احيانا موش الهبال جنون جميل .. ؟؟؟ التقيكم في هبلة اخرى من هبلات ورقاتي …
ـ يتبع ـ