تابعنا على

جور نار

وداعا أيها القيصر

نشرت

في

Franz Beckenbauer : suspendu par la Fifa, il annule son séjour au Mondial !  - Africa Top Sports

من أمارات المعالم الجميلة أنها حين تزال ويفجعك نبأ زوالها ، تختلط عندك المفاجأة بعدم التصديق، بإحساس بتفاهة العالم، برغبة في الصحو من كابوس قليل الذوق … يقع لنا ذلك عندما نفقد عزيزا أو نجد خلاء بلقعا مكان بناية أليفة أو شجرة عمرها يزيد عن القرن … قد نغضب ونسبّ سلالة الهمّج الذي ارتكبوا الجرم، ولكن إذا كان القدر هو الجاني فلا تملك إلا أن تقول مع أبي الطيب: وتقتلنا المنون بلا قتال …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
<strong>عبد القادر المقري<strong>

في البشر هناك العامّة والخاصة، هذا بديهي … ولكن تعريف مشاعرنا لهؤلاء الخاصة يختلف تماما عن تعريفات الأكاديميين ومفوّهي القنوات التلفزية … مشاعرنا الصغيرة قد لا تضع ضمن خاصتها الساسة والدكاترة ورجال الأعمال وصانعي الرأي العام … بل يحوي جرابها فقط أشرطة وجوه وأصوات لأحبّة من العائلة، وصديق أو اثنين من رفقاء مرحلة ما، وحفنة من نجوم فن ورياضة كبرت معهم ذائقتنا وقاماتنا وأيامنا وأحلامنا والتصقت بذكراهم التصاق الزهرة بعطرها، وعصفور الخطاف بلونيه الأسود والأبيض … وأيّ خدش بهذه الأشرطة ينجم عنه وجع دفين مبرح بأعماق القلب، وأي اختفاء لصورة من صورها يعادل انطفاء قنديل في طريقنا الذي نسلكه في ليالي الزمن … 

نحن أيضا كنا شبابا … ومثلما أجيال اليوم لها نجوم قد تجد فيها نفسها، فقد كنا أيضا نجد أنفسنا في نجوم عصرنا البعيد … الذي من أنصار أم كلثوم، والذي مع عبد الوهاب، والذي لا يشجيه سوى فريد على عوده الباكي … أنا كنت أولا من عاشقي العندليب، وبعدها بقليل أصبحت حليميا فيروزيا، وبقيت هناك … أما في الكرة، وما المشكلة في الغرام بالكرة؟، فكنت أصغر من أن أُعجب بالملك بيليه، وأكبر عمرا من أن أهيم بمارادونا … أنا ابن شباب السبعينات، وفي تلك المرحلة طغى اسمان لا ثالث لهما: الهولندي يوهان كرويف، والألماني (الغربي وقتها) فرانز بيكنباور …

ولأسباب خاصة بنا نحن العرب، كنت من كارهي كرويف رغم انبهاري بفنّه الكبير … فقد أشيع في تلك الأيام أنه من أنصار ذلك الكيان الغاصب وأنه في صورة رفعه لكأس العالم سيحملها إلى تل أبيب إلخ … وقد تبين فيما بعد زيف هذه الإشاعات، ولكن سبق السيف العذل … إذن كان هذا الهولندي الطائر فلتة هجومية ومهارية لم أر مثلها إلى اليوم … يضاف إلى ذلك أنه يتحرك ضمن فريق فاجأ العالم بأسلوب لعب فريد (الكرة الشاملة) وقدرة افتراس لا تبقي و لا تذر، فضلا عن أنه من بلد ضئيل جدا و لا ماضي له ولا أمجاد في هذه اللعبة … أجاكس أمستردام السبعينات كان مثل الحاصدة الدارسة لا يوقفه كبير ولا صغير … لا الإنتر ولا اليوفي ولا الريال ولا برشلونة ولا مانشستر ولا أي واحد …

في مونديال 74 كان منتخب هولندا عبارة عن “انتداب” جماعي لمعظم عناصر أجاكس، بمن في ذلك المدرب العظيم “رينوس ميكلس” … ودخل الدورة يضرب فيصرع، عصف بكافة دول أمريكا اللاتينية (بمن فيها البرازيل لتي سحقتنا في الوديات وقتها برباعية وخرجنا مسرورين لأن محيي الدين سجل لهم هدفا) ومعها كل من اعترضه سواها … وبسرعة رشح الجميع “البرتقالة الميكانيكية” (المنتخب الهولندي) لترفع التاج الأغلى والأعلى … وبما أننا كما قلت كنا ـ وما زلنا ـ فلسطينيي الهوى، فقد التفتنا إلى بعضنا البعض وقلنا: من يوقف هذه الكارثة؟

وجاءت الإجابة في النهائي على أيدي ـ وأرجل ـ الألمان الغربيين، أي الوحيدين الذين لم يرعبهم الخطر القادم من الشمال … في تلك المباراة، استعرض كرويف كل قوّته من البداية وما هي إلا دقائق حتى تلاعب بكامل ألمانيا وأحرز ضربة جزاء تحوّلت إلى هدف سبق وطريق يبدو سهلا للفوز بالكأس … وهنا انتظمت الماكينة الجرمانية ووقفت سدّا أصمّ حيال الإعصار … تسعون دقيقة من صراع ملحمي أشبه بالحرب، مصداقا لنظرية “ميكلس” ومفهومه القتالي لكرة القدم، و تصويرا لروح ثأرية من هولنديين لم ينسوا ما فعله بهم عساكر أجوارهم من مجازر قبل 30 سنة ذات حرب عالمية … وفي المقابل، كانت ألمانيا المنزوعة السلاح تريد إقناع الجميع بأن لديها حججا أخرى غير الرصاص والدم … وأنها اليوم صارت قلعة سلمية للمعرفة والعمل الدؤوب والإرادة التي لا تلين…

 وكان رمز هذه الكتيبة الصامدة في البداية، وكاسرة الغول الهولندي في المنتهى، رجل طويل القامة أنيق الحركة وسيم الملامح … مركز بيكنباور الرسمي هو الدفاع وقلب الدفاع، غير أنه كان أولا يدفع خطر المنافس بنجاعة وذكاء دون خشونة يتسم بها عادة أصحاب تلك الخطة … وكان ثانيا طاقة انتقال لا تكلّ و لا تملّ، فهو في الدفاع وفي الهجوم وفي التنسيق من الوسط وفي المحاصرة وفي أي متر من الملعب … وكان ثالثا منارة لزملائه وقائدهم و نائب المدرب على الميدان، فهو الذي ينظم الهجمات، وهو الذي يشير بالتراجع، وهو الذي يرفع المعنويات، وهو الذي يغلق المنافذ أمام الخصم … وعند تصفيرة الظفر الأخيرة، كانت وجوه الاثنين وعشرين لاعبا منهكة إلى أقصى الدرجات، ونظرات بعضها تقول لم يذهب تعبنا سدى، والبعض المقابل يقول من حظكم أنكم نجوتم منّا …

صورة “الكايزر” وهو يرفع الكأس تحت انتشاء الشعب الألماني ومعه مئات الملايين في العالم من محبي اللعبة … وأيضا من محبي قيم وأخلاق جسّدتها ألمانيا في تلك الدورة، عكس العنجهية والغرور اللذين لازما كرويف ومنتخبه في سنوات السطوة تلك … الصورة رسخت في الأذهان إلى الأبد … ولكن الأقرب إلى قلبي صورتان ربما أقل شهرة ولكن أكثرها دلالة … الأولى حصلت سنة 2001 بملعب المنزه عندما زار فريق “بايرن مونيخ” تونس في مباراة ودية ومعه بيكنباور مدربا … بين الشوطين وبعد تكريم النجم الكبير، صعد بيكنباور إلى مكانه بالمنصة الشرفية مارا بمنصة الصحفيين … فانقضّ عليه معظم صحفيينا طالبين منه “أوتوغراف” أو صورة معه بأنامل الراحل حبيب هميمة … ولبّى الرجل طلباتهم برحابة صدر … وقد كنت تقريبا الوحيد الذي بقيت في مكاني لا أعرف ماذا أفعل وأنا غير معتاد على تلك المواقف … وما إن أتم بيكنباور مشواره مع الزملاء وواصل طريقه حتى التفت إلينا ـ أحد الأصدقاء وأنا ـ فحيّيناه بابتسامة وانحناءة رأس كما يليق بمقام قيصر ملك مثله … فما كان منه إلا أن ردّ علينا بابتسامة أعرض وانحناءة رأس مماثلة وكأنه فهم حبّنا وتقديرنا لأسطورته، منذ صبانا الأوّل …

أما الصورة الثانية التي بقيت في نظري مقترنة ببيكنباور القائد والمثل الأعلى … فقد تم التقاطها له في ملعب مكسيكو ذات مونديال عاصف آخر ولكن ضد إيطاليا … أصيب أثناء اللعب إصابة بالغة في كتفه وكان من المفروض إخراجه وحمله إلى المستشفى … إلا أنه رفض ذلك واكتفى بـ “إيشارب”  لإسناد كتفه المكسورة … واستمر يلعب ويقاتل بيد معلّقة والعالم كله منذهل لهذا العزم البطولي الذي قل نظيره  … ويقيني أن صورة كهذه تجاوزت إطار الكرة والملعب، لتكون ترجمانا لألمانيا البلد الذي نهض من ركام الهزيمة والجراح … بعد الحرب العالمية الثانية … 

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 86

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …

عبد الكريم قطاطة

لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..

قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…

ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …

وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …

وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..

وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..

قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..

للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …

نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…

جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..

اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.

اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.

ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.

ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.

رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،

خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.

سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.

سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم

وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… التوسع… الحلول

نشرت

في

محمد الزمزاري:

التاريخ:

ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …

موقف بورقيبة من المخدرات:

خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.

ماذا عن عهد بن علي؟

عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.

بعد بن علي:

خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار