من أمارات المعالم الجميلة أنها حين تزال ويفجعك نبأ زوالها ، تختلط عندك المفاجأة بعدم التصديق، بإحساس بتفاهة العالم، برغبة في الصحو من كابوس قليل الذوق … يقع لنا ذلك عندما نفقد عزيزا أو نجد خلاء بلقعا مكان بناية أليفة أو شجرة عمرها يزيد عن القرن … قد نغضب ونسبّ سلالة الهمّج الذي ارتكبوا الجرم، ولكن إذا كان القدر هو الجاني فلا تملك إلا أن تقول مع أبي الطيب: وتقتلنا المنون بلا قتال …
في البشر هناك العامّة والخاصة، هذا بديهي … ولكن تعريف مشاعرنا لهؤلاء الخاصة يختلف تماما عن تعريفات الأكاديميين ومفوّهي القنوات التلفزية … مشاعرنا الصغيرة قد لا تضع ضمن خاصتها الساسة والدكاترة ورجال الأعمال وصانعي الرأي العام … بل يحوي جرابها فقط أشرطة وجوه وأصوات لأحبّة من العائلة، وصديق أو اثنين من رفقاء مرحلة ما، وحفنة من نجوم فن ورياضة كبرت معهم ذائقتنا وقاماتنا وأيامنا وأحلامنا والتصقت بذكراهم التصاق الزهرة بعطرها، وعصفور الخطاف بلونيه الأسود والأبيض … وأيّ خدش بهذه الأشرطة ينجم عنه وجع دفين مبرح بأعماق القلب، وأي اختفاء لصورة من صورها يعادل انطفاء قنديل في طريقنا الذي نسلكه في ليالي الزمن …
نحن أيضا كنا شبابا … ومثلما أجيال اليوم لها نجوم قد تجد فيها نفسها، فقد كنا أيضا نجد أنفسنا في نجوم عصرنا البعيد … الذي من أنصار أم كلثوم، والذي مع عبد الوهاب، والذي لا يشجيه سوى فريد على عوده الباكي … أنا كنت أولا من عاشقي العندليب، وبعدها بقليل أصبحت حليميا فيروزيا، وبقيت هناك … أما في الكرة، وما المشكلة في الغرام بالكرة؟، فكنت أصغر من أن أُعجب بالملك بيليه، وأكبر عمرا من أن أهيم بمارادونا … أنا ابن شباب السبعينات، وفي تلك المرحلة طغى اسمان لا ثالث لهما: الهولندي يوهان كرويف، والألماني (الغربي وقتها) فرانز بيكنباور …
ولأسباب خاصة بنا نحن العرب، كنت من كارهي كرويف رغم انبهاري بفنّه الكبير … فقد أشيع في تلك الأيام أنه من أنصار ذلك الكيان الغاصب وأنه في صورة رفعه لكأس العالم سيحملها إلى تل أبيب إلخ … وقد تبين فيما بعد زيف هذه الإشاعات، ولكن سبق السيف العذل … إذن كان هذا الهولندي الطائر فلتة هجومية ومهارية لم أر مثلها إلى اليوم … يضاف إلى ذلك أنه يتحرك ضمن فريق فاجأ العالم بأسلوب لعب فريد (الكرة الشاملة) وقدرة افتراس لا تبقي و لا تذر، فضلا عن أنه من بلد ضئيل جدا و لا ماضي له ولا أمجاد في هذه اللعبة … أجاكس أمستردام السبعينات كان مثل الحاصدة الدارسة لا يوقفه كبير ولا صغير … لا الإنتر ولا اليوفي ولا الريال ولا برشلونة ولا مانشستر ولا أي واحد …
في مونديال 74 كان منتخب هولندا عبارة عن “انتداب” جماعي لمعظم عناصر أجاكس، بمن في ذلك المدرب العظيم “رينوس ميكلس” … ودخل الدورة يضرب فيصرع، عصف بكافة دول أمريكا اللاتينية (بمن فيها البرازيل لتي سحقتنا في الوديات وقتها برباعية وخرجنا مسرورين لأن محيي الدين سجل لهم هدفا) ومعها كل من اعترضه سواها … وبسرعة رشح الجميع “البرتقالة الميكانيكية” (المنتخب الهولندي) لترفع التاج الأغلى والأعلى … وبما أننا كما قلت كنا ـ وما زلنا ـ فلسطينيي الهوى، فقد التفتنا إلى بعضنا البعض وقلنا: من يوقف هذه الكارثة؟
وجاءت الإجابة في النهائي على أيدي ـ وأرجل ـ الألمان الغربيين، أي الوحيدين الذين لم يرعبهم الخطر القادم من الشمال … في تلك المباراة، استعرض كرويف كل قوّته من البداية وما هي إلا دقائق حتى تلاعب بكامل ألمانيا وأحرز ضربة جزاء تحوّلت إلى هدف سبق وطريق يبدو سهلا للفوز بالكأس … وهنا انتظمت الماكينة الجرمانية ووقفت سدّا أصمّ حيال الإعصار … تسعون دقيقة من صراع ملحمي أشبه بالحرب، مصداقا لنظرية “ميكلس” ومفهومه القتالي لكرة القدم، و تصويرا لروح ثأرية من هولنديين لم ينسوا ما فعله بهم عساكر أجوارهم من مجازر قبل 30 سنة ذات حرب عالمية … وفي المقابل، كانت ألمانيا المنزوعة السلاح تريد إقناع الجميع بأن لديها حججا أخرى غير الرصاص والدم … وأنها اليوم صارت قلعة سلمية للمعرفة والعمل الدؤوب والإرادة التي لا تلين…
وكان رمز هذه الكتيبة الصامدة في البداية، وكاسرة الغول الهولندي في المنتهى، رجل طويل القامة أنيق الحركة وسيم الملامح … مركز بيكنباور الرسمي هو الدفاع وقلب الدفاع، غير أنه كان أولا يدفع خطر المنافس بنجاعة وذكاء دون خشونة يتسم بها عادة أصحاب تلك الخطة … وكان ثانيا طاقة انتقال لا تكلّ و لا تملّ، فهو في الدفاع وفي الهجوم وفي التنسيق من الوسط وفي المحاصرة وفي أي متر من الملعب … وكان ثالثا منارة لزملائه وقائدهم و نائب المدرب على الميدان، فهو الذي ينظم الهجمات، وهو الذي يشير بالتراجع، وهو الذي يرفع المعنويات، وهو الذي يغلق المنافذ أمام الخصم … وعند تصفيرة الظفر الأخيرة، كانت وجوه الاثنين وعشرين لاعبا منهكة إلى أقصى الدرجات، ونظرات بعضها تقول لم يذهب تعبنا سدى، والبعض المقابل يقول من حظكم أنكم نجوتم منّا …
صورة “الكايزر” وهو يرفع الكأس تحت انتشاء الشعب الألماني ومعه مئات الملايين في العالم من محبي اللعبة … وأيضا من محبي قيم وأخلاق جسّدتها ألمانيا في تلك الدورة، عكس العنجهية والغرور اللذين لازما كرويف ومنتخبه في سنوات السطوة تلك … الصورة رسخت في الأذهان إلى الأبد … ولكن الأقرب إلى قلبي صورتان ربما أقل شهرة ولكن أكثرها دلالة … الأولى حصلت سنة 2001 بملعب المنزه عندما زار فريق “بايرن مونيخ” تونس في مباراة ودية ومعه بيكنباور مدربا … بين الشوطين وبعد تكريم النجم الكبير، صعد بيكنباور إلى مكانه بالمنصة الشرفية مارا بمنصة الصحفيين … فانقضّ عليه معظم صحفيينا طالبين منه “أوتوغراف” أو صورة معه بأنامل الراحل حبيب هميمة … ولبّى الرجل طلباتهم برحابة صدر … وقد كنت تقريبا الوحيد الذي بقيت في مكاني لا أعرف ماذا أفعل وأنا غير معتاد على تلك المواقف … وما إن أتم بيكنباور مشواره مع الزملاء وواصل طريقه حتى التفت إلينا ـ أحد الأصدقاء وأنا ـ فحيّيناه بابتسامة وانحناءة رأس كما يليق بمقام قيصر ملك مثله … فما كان منه إلا أن ردّ علينا بابتسامة أعرض وانحناءة رأس مماثلة وكأنه فهم حبّنا وتقديرنا لأسطورته، منذ صبانا الأوّل …
أما الصورة الثانية التي بقيت في نظري مقترنة ببيكنباور القائد والمثل الأعلى … فقد تم التقاطها له في ملعب مكسيكو ذات مونديال عاصف آخر ولكن ضد إيطاليا … أصيب أثناء اللعب إصابة بالغة في كتفه وكان من المفروض إخراجه وحمله إلى المستشفى … إلا أنه رفض ذلك واكتفى بـ “إيشارب” لإسناد كتفه المكسورة … واستمر يلعب ويقاتل بيد معلّقة والعالم كله منذهل لهذا العزم البطولي الذي قل نظيره … ويقيني أن صورة كهذه تجاوزت إطار الكرة والملعب، لتكون ترجمانا لألمانيا البلد الذي نهض من ركام الهزيمة والجراح … بعد الحرب العالمية الثانية …