جلـ ... منار

النار في الأرض المقدسة… نبوءات هيكل

نشرت

في

قصة صورة لـ «هيكل» أثناء تغطيته أحداث حرب فلسطين
(م.ح. هيكل أثناء تغطيته لحرب فلسطين 1948)

راح يتذكر ذلك اليوم من شهر مارس عام (1948) عندما دلف إلى “أخبار اليوم”، وكل من قابله يخبره بأن الأستاذ “مصطفى أمين” يسأل من وقت لآخر عما إذا كان وصل الجريدة.
ما إن أطل عليه حتى بادره: “أين أنت.. النقراشي باشا يطلب أن يراك الآن”.

<strong>عبد الله السنّاوي<strong>

حامت تصورات وتوقعات وتساؤلات غير أن ما جرى لم يرد في تصور، أو توقع.. فقد كان رئيس الحكومة “محمود فهمى النقراشي” مشغولا بما يجري في فلسطين، وأراد أن يستقصي الحقائق من الصحفي الشاب العائد توا من مسارحها الملتهبة.
سأل
مستفهما عن المستعمرات اليهودية وما رآه من استعدادات للحرب كان قد وصفها بأنها “نُذُر شر”.
وسأل متشككا عما إذا كان صحيحا أنه شاهد بنفسه في إحدى المستعمرات “أكثر من ستين مدرعة” على ما روى في سلسلة تحقيقاته “النار في الأرض المقدسة”.

لم يكن رئيس الحكومة مقتنعا بما قرأ وسمع: “أنت يا ابنى الكلام ده جبته منين؟”.. “أنت تبالغ في ما تقول والأمور ليست بالخطورة التي تتحدث عنها”!
لم تكن مصر قررت دخول الحرب.. والرجل الذي أُرسلت قواته إلى فلسطين بعد أسابيع قليلة يتصور أن ما قرأه وسمعه مبالغات صحفي في الرابعة والعشرين من عمره يصوغ مشاهداته بتوابل إثارة تتطلبها مهنته.
هكذا وفرت له التغطية الميدانية الإلمام بحقائق الموقف والقدرة على التنبؤ بما سوف يحدث لاحقا.

منذ ذلك الوقت المبكر استقرت في كتاباته قضية فلسطين، قبل أية قضية أخرى، من “النار فى الأرض المقدسة” إلى “العروش والجيوش” عن يوميات حرب (1948) بالوثائق الرسمية على جزأين إلى “المفاوضات السرية” في ثلاثة أجزاء، وقد كانت الأكثر مبيعا في تاريخ الكتب السياسية العربية.
لمرة أخرى استعاد الأستاذ “محمد حسنين هيكل” بعض المشاعر، التي تملكته في أثناء تغطيته لحرب فلسطين، وهو يوجه رسالة عبر صحيفة “العربي” للشيخ “رائد صلاح”، الذي يطلق عليه “شيخ الأقصى”.

“إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلما خالدا بالنسبة لنا جميعا، فهو الحسنيان معا، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ، الأقصى إلى جانب ذلك كله ماثل دائما في حياتى، فالله وحده يعلم عدد المرات التي جئت فيها إلى رحابه قادما عن طريق الخان الأحمر، وهو الطريق المؤدي من أريحا إلى القدس داخلا من باب رأس العامود، ماشيا من حواري خان الزيت على الطريق الواصل إليه، مصليا فيه وماشيا منه إلى كنيسة القيامة داعيا، ثم خارجا لكى أغطى وقائع الأحداث من سنة 1947 إلى سنة 1948 ــ وكاتبا في كل ما نشرت بأنها النار في الأرض المقدسة، غير أن القضية تتعدى أي شخص وأية مؤتمرات صحفية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التي لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسي شعبي واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم ــ قبل غيرهم وفي مقدمة الصفوف ــ عبء الدفاع عن المسجد الأقصى”.

بعد أقل من ثمانية أعوام على رحيله في (17) فبراير (2016) تأكدت مجددا وبأقوى صورة رمزية الأقصى في الصراع العربي الإسرائيلي.
لم تكن مصادفة أن تحمل عملية السابع من أكتوبر اسم “طوفان الأقصى”.
تحمل الفلسطينيون وحدهم، كما توقع وتنبأ، عبء الدفاع عن المسجد الأقصى، وتكاليف إحياء القضية الفلسطينية، التي جرى الظن أنها ذهبت إلى النسيان.
الذاكرة أقوى سلاح في الدفاع عن القضايا العادلة.
وقد كان دوره جوهريا في إحياء الذاكرة وتوثيق الصراع على المنطقة، وفلسطين في قلبها.
“لا يوجد شيء في الأدبيات المتاحة عن الشرق الأوسط الحديث، يقارن بسرده المحكم المفصل عما حدث في أثناء حربي 1967 و1973 إلى ما قبل أوسلو».

“كتاب المفاوضات السرية أفضل من مئات الأطروحات المتخصصة في الشرق الأوسط، على أقل تقدير يمكنك أن تعرف من خلال ذلك الكتاب أن عملية السلام حققت 90٪ من مطالب طرف و 10٪ من مطالب طرف آخر، وأن ذلك سوف يؤدي لصدمة مستقبلية”.
هكذا كتب الدكتور “إدوارد سعيد” في صحيفة “الجارديان” البريطانية عام (1996) تحت عنوان “المراقب المستقل”.
بصورة أو بأخرى فإن “هيكل” و”سعيد” تشاركا، كلٌّ بطريقته ومن موقعه، في كشف حقيقة أوسلو وعملية السلام كلها.

لم يكن ذلك رجما بالغيب.
النبوءات السياسية تكتسب صدقيتها من ملامسة الواقع بلا تزييف وقراءة الحسابات والتوازنات والمصالح ونصوص الاتفاقيات وما خلفها دون أوهام.
[كان إدوارد سعيد أول من لمح الخلط الواقع في الصف الفلسطيني وشخصه، وشاركنا معا فى اجتماع خاص فى جنيف سنة (1988) هدفه بحث الخيارات المطروحة على القيادة الفلسطينية، مع لحظة تعرضت فيها لضغوط شديدة لكي تقدم ما يطلق عليه “تنازلات”… ثم توافقنا في ما بعد بغير اتفاق على ردة فعل إزاء موقف واحد من اتفاقية أوسلو، وشرحت موقفى لأول مرة في محاضرة في الجامعة الأمريكية، لكن إدوارد في أمريكا كان يتحدث إلى العالم، فقد رفع صوته صافيا، متصاعد الإيقاعات، معبرا بحيوية خلابة، شاهدا بالحق على دور الموقف والمثقف، وحين يختار المعلم أن تصل ذخيرته إلى العالم الأوسع بسرعة دون انتظار التأثير البطيء في المحيط الأكاديمي، فهو يريد أن يلحق الحوادث ويلامس المستقبل، وكذلك يسبق موتا يعرف أنه في انتظاره، وكان ذلك مشهدا جليلا من أي منظور تقع عليه عين أو يستشعره وجدان].

كان ذلك ما كتبه على صفحات جريدة “العربى” عند رحيل المفكر الفلسطينى الأكبر في سبتمبر (2003).
كانت قد مضت سنوات طويلة وقاسية على اليوم الذي خط فيه باسم الرئيس “جمال عبدالناصر مطلع ستينات القرن الماضي في رسالة شهيرة إلى الرئيس الأمريكي “جون كينيدي”: “من لا يملك أعطى وعدا لمن لا يستحق.. ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعي حقه في ما يملك وفي ما يستحق”.
بدت تلك إشارة بليغة لوعد “بلفور”، الذي مهد لتأسيس الدولة العبرية في فلسطين المحتلة.
ما بين وعد بلفور وتهويد ما تبقى من أراض فلسطينية محتلة بدا متأكدا أنه إذا لم يتنبه العرب والفلسطينيون إلى ما قد يتعرضون له من نكبات جديدة فإنها واقعة لا محالة.

بنظرة إلى حقائق الصراع فإن المقاومة الفلسطينية بحجم التضحيات التي بذلت أثمانها الباهظة في غزة تبدو كمحاولة بطولية لوقف حدوث نكبة ثانية.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version