جور نار

مبادئ تربويّة جُرّبت فصحّت

نشرت

في

ليست التربية سوى ذلك السلّم الذي نجني بواسطته ثمار شجرة المعرفة وليست هي الثمرة في حدّ ذاتها… (ألبرت إينشتاين)

<strong>منصف الخميري<strong>

أعتقد أن البناء – أيّ بناء- يحتاج إلى يدٍ ماهرة وعقل مُصمّم وقدرة عالية على التخطيط والتصرف والتقييم والتعديل بعدالشروع في تنفيذ مشاريع البناء. لكنه يحتاج أيضا إلى ذوق يُحاكي المناويل القائمة ولا يستنسخها وحضور متبصّر يقرأ حسابا لتُربة الإنبات بماضيها وخصوصية تكوينها وشتى عناصر الإخصاب والإعطاب فيها. وقد يحتاج أيضا إلى حوار واسع بين كل هؤلاء المتدخّلين جميعا قبل مباشرة البناء أو إعادة البناء (في حالات تآكل ما بناه الأجداد وتداعيه للتهاوي) من أجل الاتفاق على الجوانب الوظيفية أي الإجابة بوضوح عن السؤال غير البديهي بالمرّة : لِمَ كل هذا وما هي حقيقة انتظاراتنا من ورائه وأيّ المنافع ستتحقّق بفضله ؟ وإذا سحبنا هذا المنطق العفوي على مشروع إعادة بناء مدرستنا أو لنقل نظامنا التعليمي والتكويني بصورة عامة، يجدر بنا أن نتساءل عما ينتظره مجتمعنا اليوم من مشروع وضع أسس مدرسة برؤى جديدة وبوظائف مُبتكرة  وبآفاق حاضنة أكبر تُتيحها هذه المدرسة أمام خرّيجيها.

لو اختزلنا الغايات الأكثر سُموّا لمثل هذا المشروع في هدف واحد لقُلنا إن فلسفات إعادة البناء مهما تعدّدت ومداخل الإصلاح مهما تنوّعت لا بدّ من أن تُفضي إلى تحقيق نجاحين أساسيين على الأقل : تجاوز ديمقراطية التمدرس نحو ديمقراطية النجاح والتميز اللذين أصبحا مكافأة تحتكرها أقلية قليلة من التلاميذ والطلبة والمتكوّنين، ومن ناحية ثانية مغادرة التلميذ لمقاعد المدرسة نحو المسالك التكوينية الموازية أو نحو الجامعة أو نحو مسالك الحياة عامّة بملمح يقيهِ شرّ ركوب قوارب الحياة دون مجاديف. وهما نجاحان- جناحان لا يمكن لمدرستنا التحليق في سماء التطور والتقدم من دونهما.

وفي هذا السياق، أنا موقنٌ أن الاطلاع على بعض ما به تتألق المدارس الريادية في العالم قد يهِبُ قيادات الإصلاح المرتقبْ والمبتعد كلما قلنا اقتربْ، بعض المبادئ التربوية التي جُرّبت فنجحت. ومنها :

تنمية ذاكرة الأطفال والشباب مهمة ولكنها لا تكفي لتحقيق النجاح

يقول أندرياس شلايكر منسّق مسابقة بيزا التربوية العالمية: “من بين مناطق العالم كلها، قد يكون أمام المنطقة العربية الطريق الأطول من أجل تحسين نتائج أبنائها الذين يُعبّرون عن مستوى جيد في مجال إعادة ما حفظوه، وليس في مجال المشاركة في عمليات تتطلب من التلاميذ التفكير بشكل فيه إبداع“. ويُترجم هذا الموقف عن واقع مؤلم لأجيال نُطالبها داخل الفصول وخارجها بالحفظ والتخزين و”شربان الدروس شربة ماء” دون إقدارها على تفكيك “محفوظاتها” وتمثّل معانيها وعلاقتها بالواقع المعيش. (أفتح قوسا صغيرا هنا للتأكيد على أنني لم أستوعب حقيقة معنى “ألهاكم التكاثر” إلا لمّا بلغت سن العشرين تقريبا صدفة عندما فهمت أن “شغلهُ الشيء عن كذا” معناه ألهاه وصرفه عنه. كما نكّل بي المعلّم في المرحلة الابتدائية لأنني لم أقدر أبدا على حفظ سورة “الكافرون” … وكم تمنّيتُ ساعتها أن أتأكد أن المعلّم نفسه كان يحفظها عن ظهر قلب كما يُقال.  

القطع مع المنافسة

المتتبّع لما يجري داخل الفصل يُلاحظ بيسر أن مساحات العمل المشترك ضمن مجموعات منحسرة جدا بالرغم ما لهذه الصيغة من مزايا مؤكدة لكونها تسمح للتلاميذ بمحاولة التعبير عن أفكارهم الخاصة وإيصال انطباعاتهم المشوّشة والمترددة والإصغاء إلى ما يقوله أقرانهم، بدلا من التمرين الصعب المتمثل في مواجهة جمهور عريض تحت أنظار معلّم أو أستاذ لا ينتظر سوى الإجابات الصحيحة كما صاغها هو. كأن يحاول الإيحاء بالجواب على النحو الآتي :

المعلم : “وقد خُلق الإنسان لكي يَعْ….”

التلميذ : “لكي يعمل خيرا في الدنيا سيدي”

المعلم : ” غالط يا سي الدبّير، المعنى واضح هنا : لكي يعْبُد ربّه”

التلميذ : “هام كيف كيف سيدي …تقريبا” ! 

المعلم : “ولّيت تتفلسف توّة ؟”

نظام التقييم الحالي يُغذّي التنافس الكريه بين التلاميذ، أي ذلك السّباق الذي لا يصل خلاله المتسابقون إلى نفس النقطة واحدا وراء الآخر (وليس بالضرورة دُفعة واحدة) بل تصل أثناءه كوكبة صغيرة جدا من العدّائين وتُترك البقية على قارعة المضمار… وفي ذلك ضربٌ سافر لمبدإ أساسي موكول إلى المدرسة وهو حق الجميع في الوصول إلى محطات ذات إضافة ومعنى ولو بطُرُق عدْوٍ وأنفاس مختلفة. هذا بالإضافة إلى ما يُخلّفه تساقط الخائرة قواهم والشّاحبة بُناهم أثناء الركض والصراع وتنازع المراتب، من وصْم ومُركّبات (في الاتجاهين : الغرور المُنتج للتعالي والخُفوت المُولّد للاستسلام والانكسار) ومغادرة هذه المحضنة الكاذبة التي نسميها مدرسة، برأس فارغة وروح لا شيء فيها سوى الخيبة والإحباط.

لا تقدّم لمدرسةٍ مازالت تعتمد الحشْو والإثقال

من بين الأسباب التي صنعت نجاح المنظومة التربوية الفنلنديّة وتفوّقها على كل المنظومات الأمريكية والأوروبية دخول الطفل إلى المدرسة في سنّ السابعة وتمتّعه بمساحات أكبر للراحة واللعب المُفيد وساعات دراسية أقلّ (300 ساعة سنويا أقل في الابتدائي مقارنة بالتلاميذ الأمريكيين مثلا) إضافة إلى عدم وجود برنامج خاص لما يسمّى بالنخبة ولا وجود تقريبا لمدارس خاصة أو امتحانات وطنية مُقيّسة بغاية الانتقاء، مقابل اهتمام أكثر بالتلاميذ الذين يتضح أنهم بحاجة إلى عناية خاصة، أي تعليم نموذجي لفائدة التلاميذ الأقل حظا وليس العكس.

تعليمنا النظامي لا يُسنده تعليم لا نظامي

ما يُلاحظ في بلادنا أن العائلة والمجتمع يُساهمان بشكل مَا في تسميم المناخ المدرسي للمدرسة داخل جدرانها غير العازلة، عوضا عن مُعاضدتهما لمجهودات المعلمين والمربّين في تلقين المبادئ الثقافية والمدنية والمُواطنية المنتظرة لبناء مجتمع على نحو آخر. فهناك تعلّمات أساسية أخرى لا تقلّ أهمية عن “تعلّم مبادئ الحساب والقراءة والكتابة” يتولاّها الآباء والأقرباء وبطاحي تجمّع الأنداد والأجسام الثقافية والمدنية والرياضية المختلفة، مثل الهندام الذي يليق بكل مقام، ونوعية الخطاب اليومي الذي يُستطاب والعلاقة السويّة والمتصالحة مع الجسد، والتعامل مع البيئة، وتنمية الشعور بالانتماء إلى الفضاء التعليمي بوصفه مجالا للبناء الذاتي لا حَلَبة لتجريب شفرات الحلاقة وممارسة شتى أشكال الحماقة.

تتحدّث العلوم في هذا السياق عن مهارات تتجاوز المعرفي الضيق، أي كيف يتوصّل المتعلّمون إلى توظيف تجاربهم السابقة من أجل إنجاز تخطيط أو تحقيق هدف أو تخيّر استراتيجيات أو التفكير بشأن ما تعلموه والطريقة التي تعلموا بها…على امتداد كامل مسارهم ما فوق العرفاني. وهي كفاءات ضمنية في أغلب الأحيان وغير مباشرة مثل تعلّم المشاهدة وتعلّم الانتباه وتعلّم التصرف في المشاعر وتعلّم توظيف الذاكرة وتنميتها وتعلّم التفكير الذاتي وتعلّم أن تفهم وتتعلّم، وتعلّم التعرف على ما نعلمه وما لا نعلمه وتعلم طلب المساعدة عند الضرورة وتعلّم الاستفادة من الفشل والنكسات… تبدو تعلّمات بسيطة ولكنها هي التي تصنع الفرق في النهاية بين من تكون المدرسة بالنسبة إليهم مِقفزا tremplin وبين من تشكل بالنسبة إليهم حاجزا شائكا يصعب تسلّقه أو القفز عليه.

التربية من خلال التجربة

تعجبني شخصيا مقولة بنجامين فرانكلين: ” قل لي وسأنسى، أرِني وسأتذكّر، دعني أشارك، دعني أُجرّب وسأستوعب” لأنها تلخّص مبدأ تربويا بسيطا ولكنه ناجع : ضرورة تجاوز التلقين والإنشاء والتحفيظ، نحو المشاهدة والتجريب وتمكين المتعلّم من “تلطيخ يديه بعجين العلم والمعرفة والحياة”…فالذاكرة -حسب العلوم العصبيّة- لا تحتفظ إلا بما ينحفر في جيوبها الداخلية الدقيقة من معلومات، نُزعت عنها أغلفتها المجرّدة وباتت لها معان روّضها العقل وهضمها.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version