جور نار

مِهن جديدة أقترحها على التونسيين

نشرت

في

ثمّة صفات نكتسبها بفعل الشهائد الجامعية أو التكوينية أو المهن التي نُمارسها أو كذلك الأوساط العائلية والاجتماعية والجهوية التي ننحدر منها، كأن نقول فلان تابع تكوينا صلبا في ميكاترونيك السيارات، أو فلانة تشتغل في مجال التعدين واستخراج الموارد الجوفية، أو فلان أصيل تطاوين لذلك كتب عن قراها البربرية المُعلّقة وقصورها الصحراوية…

<strong>منصف الخميري<strong>

وثمّة في المقابل صفات وملامح وطبائع تتشكّل ترسّباتها عبر سنين العمر وتجارب الحياة وطبيعة المناخات التي ننشأ فيها ونتربّى على إيقاعها، فتتحوّل إلى هويّة مميّزة تُعرّفنا وتصف جانبا بارزا في شخصيتنا لا تقوله الأسماء والألقاب. بل نكاد لا نتعرّف إلى أشخاص معيّنين إذا لم نذكر “هويّاتهم الموازية غير الرسمية” في ارتباط بمهارة أو ظُرف أو نزوع طبيعي إلى انتهاج سلوكات مُتفرّدة لا يُنازعهم فيها أحد.

وفي سياق محاولة التخفيف من وطأة الصوم عليكم والسّعي إلى استكشاف البعض ممّا يأتيه كثير من الأفراد الذين نتقاسم معهم حديث الحليب والسكّر ونشرة أخبار الثامنة، سأعمل في هذه الورقة على رصد بعض السلوكات التي تلتحم بأصحابها حتى تكاد تتحوّل إلى مهن جديدة قائمة بذاتها، خاصة أن عالم الشغل يشهد تحوّلات عميقة ومتسارعة تنطفئُ بموجبها مهنٌ وتولد أخرى.

وهذه بعض الأمثلة وليس كلّها :

فنّي مختص في تركيب المُهذِّبات adoucisseurs

وهو عبارة عن مجال يختصُّ بتصنيع أدوات إلكترونية متطورة أو شرائح رقمية ذكية توصَلُ بالحنجرة والبلعوم لتُصفّي كلام بعض البشر وتنتقيه وتُحلّيه وتُنسّبه وتُخفّفه قبل وصوله خاما إلى اللسان والشفتين. وفي عملية التّكرير هذه خدمة ثمينة نستفيد منها جميعا أمام السيول الجارفة من البذاءات والشتائم التي تملأ شوارعنا وساحات مدارسنا. وحتى بعض المثقفين لدينا، يُبهجهم كثيرا أن يستهلّوا جُملهم بعبارات من قبيل “غبيّ وأحمق من يعتقد أن…” أو ” يا من تلعقون أحذية أسيادكم…” أو “لا تستمع إلى النقد عندما يأتيك من إنسان حقير …”. وتبقى الغاية النهائية من تركيب المُهذّبات في أوساطنا التونسية تحديدا هو القطع نهائيا مع “السدّاف” حاشاكم في حلوق القائلين لفائدة الصحّة والسلامة والعافية وعذب الكلام دون سواه.

تقني سامي في النسيج والإكساء العاطفي

هو اختصاص يعتمد على فنون ما يُعرف بالصيد، بالتمويه أو بالنداء (أي إصدار أصوات مدروسة لجلب الفريسة) وكذلك على تقنية الإخفاء المُتقن لمستودعات المَكر والمُخاتلة مقابل إبراز صفات تُغري الناظرين ويطرب لها جمهور الباحثين وخاصة الباحثات عن بناء علاقات مستقرّة ومُفضية إلى مآلات ثابتة ومُطمْئنة. وهؤلاء التقنيون ينسجون خطابهم جيدا ويبنونه بإحكام بعد عمليات استطلاع دقيقة لـ “ما يطلبه المستمعون” وإجراء استقراءات عالِمة لنفسيات ضحاياهم وحاجياتهم. كما يتميّزون بكونهم موزّعين مهرة لآيات الحب والمودّة والوله على أوسع نطاق ممكن، من أجل ضمان الإيقاع بالحدّ الأدنى من أصحاب الحاجيات العاطفية الخاصة.

لوجستيكي في فنون التموقع

بعد التخرّج مباشرة والحصول على شهادة مُنظّرة ومُعترف بها من المحيط المباشر، يشرع هذا اللوجستيكي في ممارسة فنون “الكِنّ”  (من العامية التونسية “يكنّ راسو في انتظار مرور الزوبعة والتيّارات المعادية) في القيام بقراءة مستفيضة للواقع السياسي الإقليمي والوطني واستكناه “صُرفة” الماسكين بالسلطة في كل مستوياتها ونوعيّة الشاي الذي يشربونه وحتى الفانتازم الحميمي الذي يسكنُهم، ويُبدعون في انتقاء الكلمات والتعابير التي يؤثّثون بها خطابهم بشكل مُتقن حتى يتناسب تماما مع ما يعتقده صاحب السلطة وصفا موضوعيا وصادقا لصولاته وجولاته. وهم لا ينزعجون البتّة من اختراق أربعة عُهود سياسية بطمّ طميمها بتقلّباتها وتحوّلاتها، يأكلون على جميع موائدها وهم باقون في نفس المواقع يغدون ويروحون رافعين شعار “لكل عهد خطابٌ يُطمأنُّ لهُ“.

أخصّائي في تقنيات الإخبار والإشعار (اختيار option  هتك الأعراض وتخريب الدّيار)

هؤلاء ليسوا بوُشاة عاديين تستخدمهم الشرطة الوطنية في تعقّب المُروّجين وزُوّار الليل، بل هم محترفون في النميمة المنظّمة المُلتحفة بالتحاليل المُلغّمة، يُنبّهون الحاكم إلى أقلام أو أصوات “لاوطنية” تنشر الزيف والمغالطة أو يتساءلون في منابر إعلامية لها صيت عن تباطؤ الجهات المعنيّة في محاسبة فُلان أو التدقيق في ثروة علاّن أو كذلك “فلان عندو مدّة ما ثمّاش ريحتو… توحّشناه”. يُلاحظ أيضا أن هذا الاختصاص يُفضي في مستوياته التعليمية النهائية إلى اختيارات عديدة options مثل اختيار “الكابتور” أو اختيار “صياغة التقارير” أو اختيار “تمرير الرسائل المُشفّرة عبر قادة الرأي”.

مُنسّق عام في تبليد الأذهان وتعميم الركاكة التي يُطلق لها العِنان

هذه المهنة يُعهد بها عموما إلى منشّطي المنوّعات التلفزية وجهابذة الكرونيك الذين نالوا مواقعهم (باستثناء عدد ضئيل جدا منهم) بناءً على كل الاعتبارات التي يمكن تصوّرها إلا اعتبار الكفاءة والتخصص والجدارة. وهم يعلمون جيدا أن الجمهور الواسع لا يستسيغ ركاكتهم المؤذية لكنه يتحمّل لغوهم وسماجتهم لأن لا عيون أخرى ينهل منها والحال على ما هو عليه من عوْز ثقافي عام. وتتمثّل مهمّتهم الأساسية في جعل الفظاظة نمطا سائدا والمسخ مجرد وجهة نظر. 

مصمّم لاقطات لدرء الاكتئاب واستبعاد النكد

 هي رقائق إلكترونية ذكية للإشعار المبكّر بوجود خطر نكدي على بُعد معيّن أو في صفحة ما أو على شاشة معيّنة. وقد تتطور في السنوات القليلة القادمة لتُصبح علاجا وقائيا تتكفّل الصناديق بإرجاع كُلفته، لأن الأضرار الناجمة في بلادنا عن تسرّب الإشعاعات النكدية القوية أضحت مشكلة صحة عامة. فالتونسي حين تذكر أمامه على سبيل المثال أن نجاح الفتيات في الباكالوريا يفوق نجاح الذكور بحوالي 8 نقاط يُجيبك مباشرة “محسوب، ماعليها كان يجيها نهار وتاخو راجل وتشد الكوجينة”، بينما يأتيك صباحا في الحالة المقابلة “متحزّما” مُحمّلا بالأخبار الطازجة لباخرة جنحت وطائرة تأخّرت عن موعد إقلاعها وقطار حاد عن سكّته…وبلاد باتت على حافة الإفلاس.

تقني سام رئيس في علك المُبتذلات واجترار الترّهات

 أصحاب هذا الاختصاص الذي ساعدت مواقع التواصل كثيرا على نموّه وانتشاره، يُمعنون في تمديد الإقامة لساعات وأيام طويلة على صفحات هذه المواقع من أجل قصف المُتابعين بمقولات مكرورة وحِكم مجرورة تُسند غالبا إلى دستويفسكي وتولستوي وغاندي من قبيل “الجحيم هو عجزك عن الوصول إلى لذة الحب” أو “الحقيقة بسيطة وهي بهذا تتميّز عن الكذب” أو “الفقر هو أسوأ أشكال العنف” الخ… أو كذلك علك أسئلة فقهية حول مسائل راهنة يطلبون الإجابة عنها بمنطق القرن الحادي العشرين، كأن يسأل أحدهم عن شروط جواز الإقامة في بلاد الكفّار أو “حكم استعمال الهاتف الجوال في المسجد للمعتكف؟ وما ضوابط ذلك إذا كان جائزاً؟”…

مُسيّر أشغال ورشة مطالة وتلميع

مثل العاملين في ورشات “المطالة والدّهن” تماما، يتولّى هؤلاء الذين تعجّ بهم مسالكنا السياسية الوعرة طمس العاهات وطلاء الثّقوب التي تعتري أولياء أمرهم من أجل إظهارهم في أجمل حلّة وتسويقهم على أن الدهر لم يجُد بأمثالهم عبر التاريخ، ويطلقون على ورشاتهم تسميات فاخرة تتراوح بين “الكوم” و “بيوت الخبرة” و “الكوتشينغ” … رأفة بمُسيّري أشغالها من صفات التسبيح والمدح والولاء.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version