تابعنا على

جلـ ... منار

واشنطن وحرب الإبادة الإسرائيلية… عظام ريغان وجثة بايدن

نشرت

في

في الـ”غارديان” البريطانية كتب مهدي حسن، الإعلامي الهندي/ البريطاني المعروف، يختصر مقدار التأثير الذي يملكه الرئيس الأمريكي جو بايدن لوقف المجازر الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ على هذا النحو، الدراماتيكي من حيث الشكل، والمسلّح بواقعة فعلية من حيث المضمون: “السيد الرئيس، قُمْ بذلك الاتصال الهاتفي. أوقف هذه المجزرة”.

صبحي حديدي
<strong>صبحي حديدي<strong>

وحسن يفترض أنّ سيد البيت الأبيض يمكن أن يقتدي بسَلَف له في الموقع إياه، الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان؛ الذي راعته مشاهد القصف الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت، فبادر بتاريخ 12 آب (أوت) 1982، اليوم الذي سوف يُسمّى “الخميس الأسود” لأنّ القاذفات الإسرائيلية نفذت غارات على مدار 11 ساعة متعاقبة، إلى الاتصال برئيس حكومة الاحتلال في حينه، مناحيم بيغين، وقال بالحرف: “مناحيم، هذا اسمه هولوكوست”. بيغين، بالطبع، ردّ هكذا: “أعتقد أنني أعرف معنى الهولوكوست” الأمر الذي لم يردع ريغان فأعاد التشديد على أنّ ما تشهده العاصمة اللبنانية هو “دمار وإراقة دماء لا حاجة لهما” ويتوجب وقف إطلاق النار؛ وهذا ما حدث بالفعل، إذْ غاب بيغين 20 دقيقة قبل أن يعاود الاتصال بالرئيس الأمريكي لإبلاغه أنه أمر أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي يومذاك، بوقف الغارات على بيروت.

حسن ليس ساذجاً بالطبع، فهو أحد أمهر العارفين بطبائع الانحياز الأمريكي الأعمى خلف سياسات دولة الاحتلال، وإلى درجة التواطؤ على جرائم الحرب وتغذية المجازر الإسرائيلية بالسلاح والمال والمساندة الإعلامية والدبلوماسية وتسخير سلاح الفيتو. وهو، إلى هذا، يدرك جيداً أنّ قرّاء مقاله هذا ليسوا بالسذّج من جانبهم، أو على الأقلّ لم يتعودوا منه أن يستغفل عقولهم أو يستخفّ بركائز المنطق الأعلى الذي يحكم العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية. لكنه، في استعادة واقعة ريغان بصدد بيروت، لم يشأ إقلاق عظام الرئيس الأمريكي الأسبق الراحل، بالمقارنة مع الرئيس الحالي الحيّ/ المرشح مجدداً لولاية رئاسية ثانية؛ ولا حتى عقد مقارنة كوارث وحروب إبادة بين بيروت 1982 وقطاع غزّة 2024 (رغم تنويهه إلى أنّ ريغان تأثر حينذاك بمرأى طفل لبناني جريح، بينما أجهز الاحتلال الإسرائيلي على 12.000 طفل فلسطيني في قطاع غزّة حتى ساعة كتابة المقال).

في صياغة أخرى، للمرء أن يفترض وعي حسن التامّ، المسلّح بوقائع شتى خلّفها التاريخ حول العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، بأنّ الركون إلى عظام ريغان يصعب أن يستنهض جثة بايدن، الهامدة أو تكاد في ممارسة أيّ تأثير ملموس لإجبار دولة الاحتلال على وقف إطلاق النار وتعليق حرب الإبادة ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة. ما يسوقه حسن، في المقابل، ولعله جوهر النبرة الإجمالية في مقالته تلك، هو دحض المزاعم الرائجة (على ألسنة صحافيين ومعلقين وأعضاء في الكونغرس) التي تقول إنّ البيت الأبيض لا يملك “رافعة ضغط” ملموسة وفعلية وفعالة لإجبار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على القبول بوقف إطلاق النار. ذلك، من جانب آخر، لأنّ تلك المزاعم ليست أقلّ من ذريعة لتبرير المزيد من الاصطفاف الأمريكي خلف دولة الاحتلال، والحثّ على إرسال دفعات أخرى أضخم من السلاح والعتاد والأموال لتغذية حرب الإبادة.

لا يَلُوح أنّ الرئيس بايدن يقرّ بإنسانية كلّ الأطراف المتأثرة بالنزاع، إذْ وصف المعاناة الإسرائيلية بتفصيل واسع، بينما ترك المعاناة الفلسطينية غامضة، إذا كان قد تطرق إليها أصلاً

الحقيقة، يساجل حسن، أنّ “القائد الأعلى لجيش الدولة الأغنى في تاريخ العالم أبعد ما يكون عن العجز” وهو على شاكلة كلّ قائد أعلى قبله “يمتلك الكثير من الروافع”؛ وليس المرء في حاجة إلى تحكيم كبار رجال الدفاع والأمن في الولايات المتحدة للتأكد من هذه الحقيقة، وتدقيق مدى فاعلية هذه الرافعة أو تلك. خذوا بروس ريدل، الذي قضى ثلاثة عقود في المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي ونصح أربعة رؤساء؛ الذي يعتبر بوضوح تامّ أنّ “الولايات المتحدة تمتلك رافعة هائلة. في كلّ يوم نزوّد إسرائيل بالصواريخ، والمسيرات، والذخيرة، وما تحتاجه لإدامة حملة عسكرية كبرى مثل هذه التي تشهدها غزّة”. الأمر، مع ذلك، ينحصر في “حياء” الرؤساء الأمريكيين “إزاء استخدام تلك الرافعة، تبعاً لأسباب سياسية داخلية”.

وجهة ثانية يسوقها حسن، على لسان كبار المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم، كما في مثال وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت الذي رضخ للمطلب الأمريكي بأن يكون إدخال المساعدات رديفاً لصفقة التبادل، وأعلن التالي في خطاب أمام الكنيست: “ألحّ الأمريكيون، ولسنا في موقع يسمح لنا برفض طلبهم. إننا نعتمد عليهم في الطائرات والمعدات العسكرية. فما المتوقع منّا؟ أن نقول لهم: لا؟”. بعد أقلّ من شهر كان العميد المتقاعد إسحق بريك قد ذهب أبعد: “جميع صواريخنا، والذخيرة، والقذائف دقيقة التوجيه، وجميع الطائرات والقنابل، كلها من الولايات المتحدة. وفي أي دقيقة تشهد إغلاقهم الصنبور، فلن نستطيع القتال. ولن تتوفر لنا القدرة. الجميع يفهمون أننا لا نستطيع خوض هذه الحرب من دون الولايات المتحدة. نقطة على السطر”.

والسؤال الذي يطرحه حسن، استطراداً، هو ما إذا كان بايدن يعبأ بالأرواح العربية أقلّ من ريغان؛ ويحيل الإجابة إلى ما نقلته مجلة “مذر جونز” في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، على لسان مسؤول سابق في إدارة بايدن: “لا يَلُوح أنّ الرئيس يقرّ بإنسانية كلّ الأطراف المتأثرة بالنزاع، إذْ وصف المعاناة الإسرائيلية بتفصيل واسع، بينما ترك المعاناة الفلسطينية غامضة، إذا كان قد تطرق إليها أصلاً”. بالطبع، ليس لأنه صاحب المقولة، الركيكة المكرورة المتكاذبة، بأنّ المرء لا يحتاج أن يكون يهودياً كي يصبح صهيونياً، فحسب؛ أو لأنه القائل، منذ بدايات انتخابه في الكونغرس، بأنّ دولة الاحتلال هي الاستثمار الأمريكي الأهمّ، ولو لم توجد لتوجّب على أمريكا أن تخلقها، فحسب أيضاً؛ بل أساساً لأنّ علائم الخرف الذي تجعله يخلط بين رئيس المكسيك ورئيس مصر هي محاذية لبواعث الانحياز الأعمى التي تجعله يصادق على المزاعم الإسرائيلية حول مستشفى المعمداني أو قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين.

بين مهاتفة ريغان مع بيغين، واضطرار بايدن إلى استخدام شتيمة حروف الـF الأربعة الشهيرة في وصف نتنياهو داخل حديث المجالس، ثمة 42 سنة من اعتناق رؤساء الولايات المتحدة معدّلات في السياسة الإسرائيلية لا تقلّ عن تسعة أعشار؛ وثمة مئات مليارات الدولارات من المساعدات الأمريكية، والأسلحة عالية التدمير والتخريب والإبادة، وعشرات الحالات في استخدام حقّ النقض لتعطيل أيّ وكلّ مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يمسّ دولة الاحتلال. ولعلّ الأصل، الذي فاتت حسن الإشارة إليه، هو أنّ بايدن كان ضمن أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذين أيدوا غزو العراق سنة 2003، ولا يبدّل من تبعات موقفه أنه أبدى الندم عليه لاحقاً. ما لا يصحّ أن يُفوّت، كذلك، هو حقيقة أنّ بايدن يظلّ رجل وول ستريت المخلص والمدافع الشرس عن مصالح والشركات الكبرى والرساميل العملاقة الأكثر شراسة ضدّ المجتمع، وسجلّه في هذا حافل ومذهل؛ يتصدره تعاونه مع عتاة الجمهوريين لإقرار قانون إساءة استخدام مبدأ الإفلاس، الذي كفل للشركات الكبرى منافذ تهرّب عديدة ومنعها عن ملايين المواطنين المشتغلين بالأعمال الصغيرة.

وهكذا، إذا كان استدعاء عظام ريغان حول بيروت، لا يساوي بالضرورة التنقيب عن مظاهر حياة في همود جثة بايدن بصدد قطاع غزّة؛ فإنّ ما ارتكبته دولة الاحتلال وتواصل ارتكابه من هولولكوستات متعاقبة لا يتغير جوهرياً، بقدر ما يتعدد ويتكرر وتتضاعف أفانينه الوحشية والهمجية.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

الشاردون

نشرت

في

أحمد خالد توفيق:

أشهر قصة تُحكى عن شرود الذهن هي قصة إديسون العالم الأمريكي العبقري الذي لم يحضر حفل زفافه. السبب هو أنه انشغل في المختبر بتجربة مهمة، وقد بحثوا عنه كثيراً فاتضح أنه كتب موعد الزفاف في مفكرته لكنه نسي!

أحمد خالد توفيق

لا أعرف ما قاله لعروسه في تلك الليلة السوداء لكن التاريخ لا يذكر أن فسخ الخطبة قد تم على كل حال.

وهناك نيوتن عالم الرياضيات الذي كان جالساً قرب المدفأة لكنه لا يشعر بالدفء. فطلب من خادمه أن ينزع المدفأة من الجدار ويقربها منه، فقال له الخادم في أدب:

ـ لماذا لا يقوم سيدي بتقريب مقعده من النار؟

هنا شهق نيوتن، وأعلن أن خادمه عبقري حاضر الذهن فعلاً!

القصة الأغرب هي (تشسترتون) الكاتب المسرحي البريطاني الشهير الذي وقف في طابور مكتب البريد ليحصل على حوالة مالية، فلما بلغ الشباك اكتشف أنه نسي اسمه!، وكان أول ما قاله للموظف المذهول:

ـ معذرة يا سيدي… لكن هل تعرف اسمي؟!!

يمكننا بسهولة أن نتصور ما قاله الموظف وما فعله.

شرود ذهن العباقرة أمر معروف للجميع، وإن كان يسبب الدهشة أولاً.

وكثيراً ما يدفع الناس إلى اعتبار العبقري على شيء من ”الخبال” أو الجنون… لكنهم بعد ذلك يقبلونه باحترام.

لكني أعترف أن شرود الذهن لا يدل على العبقرية في كل الظروف، بل قد يدل على عقل خاو تماماً. وباعتباري من الذين اشتهروا بشرود الذهن، فإنني أقر وأعترف أن أغلب الأوقات التي شوهدت فيها شارداً لم يكن في رأسي أي شيء مفيد، لكن الناس تنظر لي في احترام، وتتصور أني أنظم قصيدة عصماء أو قصة عبقرية.

أشهر من عرف بشرود الذهن في عالم الأدب هو الأديب المصري (توفيق الحكيم)، لكن المخرج (محمد كريم) جلس معه طويلاً أثناء كتابة سيناريو فيلم (رصاصة في القلب) ولاحظ أن جزءاً من هذا الشرود إرادي تماماً. مثلاً، لاحظ أن توفيق الحكيم يجلس شارد الذهن وذقنه مستندة على مقبض عصاه، فيقول له محمد كريم: هناك فتاة حسناء سألت عنك أمس.

عندها يفيق الفيلسوف الشارد على الفور، ويستفسر عن كل التفاصيل. هذا إذن شرود إرادي يفيق منه متى أراد.

الموسيقار عبد الوهاب اشتهر بالشرود الحقيقي، ويقول كل من اقتربوا منه إنه كان يزوم كالقطط طيلة الوقت لأن الألحان لا تكف عن زيارة عقله.

أحمد شوقي الشاعر كان شارد الذهن كذلك، وكان يخرج علبة السجائر كل بضع دقائق ليدون على هامشها بضعة أبيات قبل أن تضيع.

على كل حال، يمكنك أن تنجو بشرودك فلا يسخر منك أحد إذا أقنعت الناس أنك فنان. وهو حل لا بد أن تلجأ إليه إذا أردت أن تنجو من مواقف محرجة جداً.

مثلاً، ذات مرة كنت شارد الذهن وقابلت امرأة ذات وجه مألوف على سلم بيتي فهززت رأسي وقلت في وقار متحفظ: مساء الخير.

وواصلت النزول، فقط بعد ربع ساعة تذكرت أن التي قابلتها هي أختي! والله العظيم حدث هذا وليس من تأليفي.

في مرة أخرى كانت زميلة عمل مملة تكلمني بصوت رتيب عن أشياء كثيرة، فلجأت إلى الحل الأمثل وهو صوت (ام م م!) كل ثلاثين ثانية بما يوحي بأنني أتابعها.

وفجأة فطنت إلى أنها تنظر لي في لوم وقد كفت عن الكلام الرتيب، ولما نظرت إليها قالت:

ـ أنا أسألك!!، وكالعادة لا إجابة عندك إلا (ام م م).

هذه مواقف محرجة جداً لهذا عليك أن تقنع الناس على سبيل الاعتذار أنك عبقري وأنك تفكر في عظائم الأمور. عليك أن تعتذر ثم تخرج ورقة مطوية وتدون فيها بعض الكلمات بلهفة ويد ترتجف، ثم تتنهد في ارتياح كمن فرغ من آخر بيتين في ملحمة الإلياذة.

غرابة أطوار؟ ربما… لكنها ليست أغرب من أن تقابل أختك فلا تعرفها، أو تكتشف زميلتك انك لا تسمع حرفًا مما تقول.

وكمــــا هي العــــــادة، شرود الذهن سوف يجعلني أفرغ من كتابة هذا المقال ثم أرسله لزوج خالتي كما أفعـل في كل مرة، بدلاً من إرساله لهذه الجريدة الغراء، وسأزعم أنني كنت أفكر في المقال التالي!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

نتنياهو وأوشفتز… ورقة الشفقة ومذكرة الاعتقال

نشرت

في

صبحي حديدي:

ذكرت تقارير صحفية إسرائيلية، تضافرت مع أخرى بولندية، أنّ رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يعتزم السفر إلى بولندا للمشاركة في إحياء الذكرى الـ80 لتحرير معسكر أوشفتز النازي، جنوب بولندا، والذي اقتحمه الجيش الأحمر السوفياتي في 27 كانون الثاني (جانفي) 1945.

صبحي حديدي

قرار نتنياهو نجم عن خشية جدية حيال احتمال مبادرة قاضٍ بولندي ما إلى طلب توقيفه، تنفيذاً لمذكرة الاعتقال التي أصدرتها بحقه المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة؛ خاصة أنّ نائب وزير الخارجية البولندي صرّح بأنّ بلاده موقّعة على النظام الأساسي للمحكمة، وتلتزم به. رئيس دولة الاحتلال سوف يغيب أيضاً عن الذكرى، وسيكون وزير التربية هو ممثل الكيان الوحيد، في محفل دولي يُنتظر أن يتقاطر إليه عشرات من زعماء الغرب والعالم.

هذه الواقعة ليست سوى نزر يسير من أثمان مستحقة جراء حرب الإبادة الإسرائيلية، المتواصلة ضدّ قطاع غزّة منذ 443 يوماً متعاقبة؛ أفلتت دولة الاحتلال من العقاب في تسعة أعشارها، بسبب تواطؤ الدول ذاتها التي ترفع راية شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي، ولا ترى في جرائم الحرب الإسرائيلية سوى حالة “دفاع عن النفس”. لكنه ثمن ليس بالرخيص على الاحتلال ومجموعات الضغط الصهيونية في طول العالم وعرضه، بالنظر إلى المكانة الرفيعة التي حظيت، وتحظى، بها ملفات الهولوكوست واحتكار موقع الضحية عموماً؛ وهذا المعسكر تحديداً، دون سواه أو بصفة امتيازية، في استدرار عطف الشعوب والرأي العام، والضغط على الحكومات والهيئات والمؤسسات استطراداً.

كانت أوشفيتز وصمة عار، وجريمة نكراء بحقّ الإنسانية جمعاء، وصفحة دامية سجلت محطات انحطاط سوداء في قلب الفكر السياسي الأوروبي وفصوله التنويرية الزائفة والعنصرية؛ لكنّ إعفاء الصهاينة من التوطئة لها، والتواطؤ فيها وعليها مع النازيين، لا يضيف الإهانة إلى جراح الضحايا اليهود أنفسهم فقط؛ بل يواصل إنتاج وإعادة إنتاج السيرورة الشنيعة لانقلاب الضحية الإسرائيلية إلى جلاد ضدّ الضحية الفلسطينية.

في سنة 1993 أحيت الإنسانية الذكرى الخمسين لانتفاضة غيتو وارسو، بحضور إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، الذي حرص قبيل سفره على تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى “غيتو فلسطيني” قسري. وأمّا مارك إيدلمان، اليهودي الوحيد الذي نجا من ذلك الغيتو، فقد أعلن أنه سئم المقابلات الصحفية والتصريحات الجوفاء: “ما جدوى غربلة الماضي إذا كنّا قد فشلنا في تعلّم دروسه؟ الغرب ما يزال يضع الخطط الستراتيجية في المرتبة الأولى، ويفضّلها على الأرواح البشرية. ما يجري في يوغوسلافيا اليوم هو انتصار لهتلر وهو في قبره، والغرب يكرّر أخطاء الماضي مثل تكراره بلاغته الكاذبة ونفاقه الفاضح!”.

فكيف لو أنّ إيدلمان عاش إلى أيامنا هذه، وأبصر جرائم الحرب الإسرائيلية والتجويع والتطهير العرقي وقصف المشافي والملاجئ والمساجد والكنائس، بأيدي أحفاد ضحايا غيتو وارسو ومعسكرات أوشفتز وتريبلنكا وبوخينفالد وداخاو…؟ أو إذا شاء فتح فضائح اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب الـ “ماباي”، حزب بن غوريون)؛ الذي تعاون مع النازيين خلال سنتَي 1944 و1945، لشحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، مقابل تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين؟

وقد يجد نتنياهو بعض العزاء في السفر إلى بلد مثل الولايات المتحدة لا يعترف بالمحكمة الجنائية إلا إذا طالت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو إلى بلد مثل هنغاريا يعترف بالمحكمة ولكنه يلقي بمذكراتها إلى سلّة المهملات، أو حتى إلى فرنسا بلد حقوق الإنسان التي صادقت على المحكمة ولكنها أفتت بأنّ نتنياهو يمتلك حصانة ضدّ قراراتها…

يبقى الأصل، مع ذلك، أنّ مذكرة الاعتقال أسقطت الكثير من امتيازات ورقة أوشفتز واحتكار موقع الضحية.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

دمشق وما بعدها… “سايكس ـ بيكو” الجديدة؟

نشرت

في

عبد الله السنّاوي

إثر سقوط دمشق في قبضة “هيئة تحرير الشام”، التى تدمغ دوليا بالإرهاب، تبدت مخاوف وتساؤلات عما إذا كانت المنطقة العربية كلها، لا سوريا وحدها، على وشك إعادة رسم خرائطها من جديد.

عبد الله السنّاوي

أشباح التفكيك تخيم على الشرق العربي كله، العراق ولبنان والأردن في عين الإعصار، والقضية الفلسطينية على المحك، أن تكون أو لا تكون، ومصر غير مستبعدة إذا ما جرى تهجير قسري من غزة إلى سيناء.

عادت مجددا إلى واجهة الأحداث اتفاقية “سايكس- بيكو” (1916)، التي استهدفت عند ذروة الحرب العالمية الأولى تقاسم النفوذ في المشرق العربي بين الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية عندما بدا أن الإمبراطورية العثمانية توشك أن تنزوي للأبد.

فى عام (1920) سلخ ما سمى بـ”لبنان الكبير” من الأراضى السورية بذريعة حماية الأقلية المارونية، ثم نزع “لواء الإسكندرون” في مقايضة فرنسية تركية قبيل الحرب العالمية الثانية مباشرة.

بإرث التاريخ: استهداف سوريا وجودا ودورا لا يتوقف.

بحقائق اللحظة: سلخ حلب غير مستبعد إذا ما توافرت الظروف المشجعة.

دخلت إسرائيل على خط توزيع المغانم.

بتصريح واضح وصريح أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنه بصدد بناء “شرق أوسط جديد”، خرق اتفاقية (1974) لفض الاشتباك مع سوريا، التى وقعت إثر حرب أكتوبر (1973). استولى على المنطقة العازلة، وجبل الشيخ بالغ الأهمية الاستراتيجية. جرد سوريا من قوتها العسكرية، طائراتها وأسطولها البحري ومخازن سلاحها ومراكز أبحاثها بمئات الغارات دون أدنى إدانة من حكامها الجدد. توغلت قواته إلى (25) كليومترا جنوبي دمشق ليعلن أنه طرف مباشر في لعبة تقاسم النفوذ، التي بدأت باتصالات ومشاورات وضغوطات دولية وإقليمية تتصاعد وتيرتها.

لم تكن هذه المرة الأولى، التي تطرح فيها مخاوف التقسيم على نطاق واسع ومنذر بتداعياته وعواقبه على مستقبل الوطن العربي ومصيره.

عند سقوط بغداد عام (2003) طرحت نفس المخاوف، لكنها الآن أخطر وأفدح. يقال عادة: “ويل للمهزوم”. وقد تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب في جنباته، لكن الهزيمة شملت بالوقت نفسه الوطن العربي كله.

كان احتلال بغداد نقطة تحول مفصلية استدعت مشروعات الشرق الأوسط الجديد وسيناريوهات التقسيم لصالح إعادة تمركز إسرائيل في قلب تفاعلاته.

الآن: خرج الدور الإسرائيلي من ظلال الكواليس إلى مقدمة المشهد. لم يكن غامضا الهدف الحقيقي من احتلال العراق. كان تحطيمه على رأس الأولويات بالنيل من وزنه الجغرافي الاستراتيجي في مشرق الوطن العربي والاستيلاء على موارده النفطية، حتى لا تكون هناك في المنطقة قوة عسكرية واقتصادية قادرة على منازعة إسرائيل.

تتجاوز الأدوار التركية والإسرائيلية تصفية الحسابات مع النظام السوري، ومنع تهريب السلاح عبر الحدود للمقاومة اللبنانية، إلى إعادة رسم معادلات النفوذ.

لم يكن ممكنا الادعاء بأن صدام حسين هو الديكتاتور الوحيد، ولا نهايته شابهت السيناريو السوري، حيث كان السقوط مدويا بلا طلقة رصاص واحدة! عند سقوط بغداد طرح سؤال: مَن التالي؟ انطوى ذلك السؤال على اعتقاد بأن النظم العربية جميعها استهلكت أدوارها ووجوهها، وأصبح وجودها عبئا استراتيجيا مخيفا على حقوق المواطنين العرب في العدل والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، فأمن الحاكم فوق أمن المواطن، وبقاء العروش فوق حقوق المواطنين.

السؤال نفسه يطرح مجددا فى ظروف مختلفة: أين الضربة المقبلة؟ عند احتلال العراق طرحت سيناريوهات “الشرق الأوسط الجديد”، التى بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية “كوندوليزا رايس”، المجال العام في الدول العربية، خشية إعادة رسم خرائطها بإثارة النزعات الطائفية أو العرقية، أو الغزو المباشر إذا اقتضى الأمر.

بثمن باهظ دفعه العراق، لم يأخذ سيناريو التقسيم مداه، فشل إعلان دولة كردية بالانفصال، ولم تنشأ دولتان على جثته، إحداهما سنية والأخرى شيعية، لكنه ما زال يعاني حتى الآن من مغبة ما حدث.

في الحالة السورية الحسابات تختلف. لم تسقط دمشق بغزو أجنبي، لكن الدور الخارجي واضح ومؤكد. بدا ملفتا ما صرح به زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولانى أنها لم تحصل على تمويل، أو سلاح من أية دولة، وأن القوات التي وصلت إلى دمشق “سورية خالصة”.

كان ذلك تدليسا على الحقيقة ومحاولة يائسة لإخفاء القوى، التي أعدت المشهد وهندسته لأهداف سياسية تدخل في صميم مصالحها، تركيا وإسرائيل تحديدا.

لم يكن بشار الأسد هو موضوع الصراع، كما كتبت طويلا وكثيرا. إنها سوريا دورا ووجودا قبل أي اعتبار آخر. استحق “الأسد” السقوط حين رهن بقاءه على قوة الآخرين لا على قدرات شعبه وإرادة الحياة والمقاومة فيه.

في الأزمة السورية وصلت المفارقات الأمريكية إلى ذرى غير معتادة في السياسات الدولية.

دعا الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” إلى محاسبة أركان نظام “الأسد” على ما ارتكبوه من جرائم بشعة بحق معارضيهم.

هذا كلام له منطق متماسك يسوغه، لكنه يفتقد أدنى احترام لأية قيمة إنسانية وقانونية إذا ما وضع في سياق واحد مع رفضه القاطع لمذكرتي إيقاف “نتنياهو” ووزير دفاعه السابق “يوآف جالانت” بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة والتلويح بعقاب المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرتهما. كانت تلك مفارقة كبرى فى النظر إلى العدالة الدولية.

المفارقة الثانية، الاستعداد المبكر لرفع اسم “هيئة تحرير الشام” من قائمة الإرهاب الأمريكية دون أدنى استبيان لحقيقة مواقفها ومدى التزامها بقواعد الدول الحديثة.

إنها المصالح الاستراتيجية، التي تأخذ ما تريده إسرائيل في كل حساب، ولا تأبه بما يحقق أية مصلحة عربية.

إذا لم يستفق العرب في الوقت بدل الضائع فإن أشباح “سايكس- بيكو” الجديدة سوف تأخذ مداها تقسيما فوق الخرائط.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار