تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 22

نشرت

في

Premium Vector | Sketch of the vintage radio receiver. vektor illustration

هل لي ان اذكّر بان انتقالي من المرحلة الاولى للتعليم الثانوي الى الرابعة آداب كانت سنة تحوّلات كبيرة ..؟؟

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

لابدأ بمحيطي العائلي …عبدالكريم في نظر كل سكان الحوش اصبح مهابا ..حتى الملاحظات والنهي التي كانت تلاحقني خفّ ازيزها ..حتى عيّادة الغالية اصبحت ترى في ولدها بذرة امل لمستقبلها علّه ينوّر حياتها بعد تعب السنين، فتراها تلجأ الى الملاحظات الناعمة شكلا ولكنّها المحذرة دوما من الاخطاء والمنزلقات ..اتذكّر جيّدا انّها شاهدتني مرّة مع “ولد برّبة” وهو في مثل سنّي لكنّه مصاب بمرض الرمد الذي قضى على ثلثي عينيه ثم جانب النظافة فيه يكاد يكون منعدما … كان جميع اتراب الحومة يتحاشونه ..وكان ذلك المهجور من قبل الجميع …

شاهدتني عيادة مرّة معه وانا اعانقه بكل حنّية …وبكل ودّ وربما بكثير من الشفقة …همست بعتاب جميل: “يا وليدي توّة ما لقيت تعنّق كان احمد ولد بربّة ؟؟؟ ما شفتش حالتو كيفانهيّة والذبّان اللي يدور عليه ؟؟؟ اجبتها بكل الم: علاه يا عيادة ما خلقوش ربي ..؟؟؟ ولعلّها فهمت المي فردّت باقتضاب ..لا حبّيت نقلّك وبرّة …انا نحبّ نشوفك في مراتب عليا والمهم تعرف اشكون تصاحب وتبعد على اولاد الحرام اللي لا يناموا ولا يخلليو شكون ينام …واتذكّر جيّدا اني ذات مرّة وانا اردّ على مثل هذه الملاحظات الزجريّة لخّصتُ لها ما تنتظره منّي بالقول: شوف يا عيادة حاجة من الاثنين انا راني كي نكبر يا نذّن يا نقيّم فيها الاذان …

دائما في محيطي العائلي كانت تلك السنة سنة تحوّل كم هو مهم ومؤثر جدا في حياتي …في تلك السنة (كدت اقول في بيتنا رجل لعبدالقدوس) ..في تلك السنة في بيتنا راديو…لست ادري كيفاش طلعت عند الوالد سي محمد، كي يقتني مذياعا ..كان من النوع الذي يشتغل بالبطارية يحملها على ظهره ويقع كبسها بشريط بلاستيكي… تماما كما تحمل المرأة الريفية رضيعها فوق ظهرها وتشدّه بمليتها ..ومن جملة عبثنا انذاك اننا كنّا نتساءل عن كيفيّة ارضاعها لذلك الرضيع اثناء شغلها حتى لا تضيع الوقت ..كنّا نقول عنها ستخرج ثديها من تحت ثيابها وترمي به في حركة الى الوراء تماما كما نرمي”الكشكول” على عنقنا لنحميه من البرد شتاء .. حتى يصل ثديها الى فم رضيعها دون عناء …تصوروا ثديا في طوله كالكشكول ..؟؟.شفتو ما اخيبنا ..؟؟

كان المذياع بالنسبة لي الحدث السعيد وايضا بالنسبة لسكّان الحوش الذين كانوا يتحلّقون حوله كل صباح بداية من العاشرة لتكسير اللوز الجاف وللاستماع الى اكثر برنامج جماهيري انذاك: “اغنية لكل مستمع” في الاذاعة الوطنية . وهو برنامج خاص باهداءات الاغاني … اكهو …وكانوا في حوشنا يتقاسمون الاغاني الاولى لفلانة الثانية لفلتانة وهكذا …وبعضهم يتفاءل بما وفّر له حظه الذي قد ينبئه بعريس وهو يستمع الى جواب حب ..”وختما لك الف سلام من قلب لا بيهدا ولا ينام قلب حبيبك” …بينما الاخر يصفرّ وجهه وهو يستمع الى راح راح راح خاصة والاخرون والاصحّ الاخريات تتغامزن على حظّها التعيس ….والمذياع في رمضان هو كنز من كنوز سليمان ..فتحيّة الغروب لعادل يوسف عندليب الاصوات، وحكايات او سمر عبدالعزيز العروي وشاناب والحاج كلوف واختبر ذكاءك…

يوم الثلاثاء كان جميع سكان الحوش يتحلقون حول ذلك المذياع للاستماع والاستمتاع … خاصّة في فصل الصيف حيث تتنوّر وسطية الحوش بـ “كربيلة” من جهة وفنار من جهة اخرى لاضاءة بعض اركانه… و انذاك الستاغ والصوناد كانتا خارج دائرة الوجود… ولتحلّق العائلات الثلاث في اللمّة متعة حميمة جدا رغم كل التجاذبات بين السلايف… لمّة يبدو انّها اضمحلّت تماما في حياتنا الان، لأن التحلّق اصبح ثنائيا بين كلّ فرد وهاتفه (وتسمع كان تك تك…كل “يشاتي” على هواه … ما ابشعنا في عصر الانترنيت عصر رغم كل ايجابيّاته قضى على اجمل ما في الجمال…اللمة العائلية …اليس كذلك يا عالم ..؟؟؟

المذياع بالنسبة لي كان مجالا لاكتشاف محطّات اذاعية اخرى ….مشرقيّة بالاساس ..في تلك السنة اكتشفت الاذاعات المصرية (صوت العرب من القاهرة واذاعة الشرق الاوسط من القاهرة )… هاتان الاذاعتان قهرتا امّي رحمها الله وكانت كلّما راتني متيّما بالمذياع في لياليّ الاّ وعلّقت ..مع هاكي القاهرة هواشي؟ …يرّاها مقهورة ..هي لم تكن لها رغبة في الاستماع الى المذياع عموما ولكنّها كانت تلاحظ ان الاذاعة عامة والاذاعة القاهرية خاصّة اخذت تأخذ من وقتي الكثير على حساب دراستي ..وهي للامانة كانت محقّة نسبيا في ذلك ..فانا وكما تعرفون لم اكن يوما محراث خدمة في الدراسة ولكن سهراتي مع الاذاعتين المصريتين وخاصّة اذاعة الشرق الاوسط، اصبحت يومية بل الى حدّ الادمان ..انذاك وجدت في في هذه المحطة انماطا جديدة من الاساليب الاذاعية…

دعوني اقل لكم اننا نحن التونسيّين كنّا منبهرين باللهجة المصرية من خلال ما نستمع اليه من اغانيهم او من خلال الكم القليل من الافلام التي شاهدناها … كنّا نحسّ بعمق الغرام ونحن نستمع الى احمد مظهر او رشدي اباظة او عبدالحليم او ايّ مصري كان وهو يقول متغزّلا بحبيبته °وحياة عينيك مشتاق اليك” خاصّة بصوت ذلك البلبل الحزين فريد الاطرش لليليا في فلمه …يسري ذلك الغزل في عروقنا خاصة نحن المراهقين سريان المخدّر في “جواجينا”… ثم في تلك الاذاعة اكتشفت انذاك عالم الاشهار الذي كان مفقودا تماما في اذاعتي تونس وصفاقس . اقول لمن هم من نفس تلك الحقبة هل تتذكرون (كانت كانت سيجارة حبيبي) و(الفروج الدنماركي) و(دخّن سالم وانت سالم)؟؟ ثمّ وهو ما شدّني لتلك الاذاعة اسلوبها التنشيطي ..الخفيف الديناميكي ..

الاذاعة انذاك في تونس اذاعة معلّبة جامدة الى درجة الثقل الزئبقي ..اذا انّها كانت تعتمد في جلّها على البرامج المسجّلة وباللغة العربية …تصوّروا فقط انّه لا وجود لبرامج مباشرة باستثناء النشرات الاخبارية والمواجيز ..او نقل المباريات الرياضية او بعض السهرات الغنائية .فقط ؟؟؟ لذلك كانت حركية وخفة التنشيط في اذاعة الشرق الاوسط اكتشافا بالنسبة لي… لذلك كنت استحوذ وبشكل متعسّف على الاخرين ليكون المذياع ملكي بداية من التاسعة ليلا حتى منتصف الليل ..ومانيش ديمقراطي ويلعن جد والدين بو الديموقراطية اللي وصّلتنا بعد 14 جانفي لهذا الوضع الكارثي ..وطزززززززززززززززززززززز في الديموقراطية اللي ماشية بتونس للكارثة من جرّاء الانتهازيين الكوارث اللي على كل لون يا كريمة …يمّة عليك يا تونس يا غالية قدّاش طيّحولك قدرك وعبثو بيك ها الكوارث…

في تلك الاذاعة ايضا وككل الاذاعات المصرية هنالك موعد مع السحر شهريا ..اخر خميس من كل شهر حفلة العظمة على عظمة ..الست ام كلثوم وفي سهرة شهرية تقدّم اغنيتين واحدة جديدة واخرى قديمة ..يااااااااااااااااااااااااااااه اشي عوّدت عيني على رؤياك ..اشي يا ظالمني ..اشي بعيد عنّك اشي امل حياتي واشي واشي واشي ….اريد ان اطرح سؤالا كم يؤلمني طرحه: بالله اش يحسّو ارواحهم الناس اللي من جيلي وجيل القمم الفنية وهوما يشوفو صغارهم واحفادهم يتغناو بـ “اشترق تق”..؟؟؟ كثيرا ما اسمع من البعض اجابة من نوع (كل وقت ووقتو() و(كل جيل عندو فنّو)… لهؤلاء اقول انتم فعلا على حق لان الاجيال مختلفة جدا والعصور ايضا مختلفة جدّا… فقط تذكّروا انه من جملة العصور هنالك عصور يجمع عليها المؤرخون بانها عصور الانحطاط …واترك لكم تصنيف اي عصر هو جدير بصفة الانحطاط ..شكرا اذاعة الشرق الاوسط التي كم متّعتني وكم كان لها تاثير عميق عليّ…وتاثير سكناها في لاشعوري لاجد رواسبها الجميلة تخرج الى السطح ذات سنة وللحديث تفاصيل في قادم الورقات ..

في تلك السنة من عمري توطّدت علاقتي بساقية الداير هذه المنطقة والتي تبعد عن مركز المدينة 6 كم طريق المهدية… اخذتني منذ السنة الاولى من تعليمي الثانوي من ساقية الزيت 7 كم عن وسط المدينة طريق تونس… ظروف التنقل الى وسط المدينة كانت ايسر عن طريق المهدية، لكن علاقتي لم تتوطّد بشكل عميق الا ابتداء من السنة الرابعة ..عامل العمر لعب دورا هاما ..كانت علاقاتي في السنوات الاولى منحصرة مع عائلة “المدّب التريكي” رحمه الله لان ابنه رضا (صديق كلّ عمري) ربطتني به علاقة حميمة جدا منذ صغرنا ..كنّا ومنذ الطفولة وحتى سنوات متقدمة جدا لا نقترق بتاتا …كنت اكبره عمرا بسنة وكنّا متلازمين بشكل يعرفه الجميع ويحسده البعض واستمر الى مرحلة متقدمة من العمر ثمّ ..آه …. آه من الايام آه لم تعط من يهوى مناه ….ساعود الى التفاصيل ..

اذن كانت علاقتي مع اصدقاء الساقية محدودة في البداية ..الا ان تلك السنة كانت سنة تطوّر نوعي وكمّي مع العديد ..الحرّية التي اصبحت افرضها على عائلتي حرّية الوقت ..حرّية الصّداقة ..حرّية لعب الكرة ..كلّها مكنتني من مخالطة عديد الانماط …سنتها اكتشفت لعبة البولاط في حانوت خويا احمد الفقي متّعه الله بالصحّة و اطال عمره …دكاكين الحلاقة انذاك لا تتجاوز في الساقية الاربعة حيث كل حلاّق له نوعية معيّنة من الحرفاء عمريا ومهنيا ..وحانوت “بو احمص” كما كنا نسمّيه جلّه شباب فيه التلمذي وفيه الصّايع …وكم كان اولئك الصيّع على غاية من الجمال والضّمار والطيبة ..الا ان التوصيفات في ذلك الزمن لمعنى _الصّايع _ هو الذي لم ينجح في دراسته ويدخّن او يشرب الخمر ..رغم ان اولياءهم ومن ماثل اولياءهم سنا هم اقرب الى ابي نواس في تعاطي الخمر من الصيّع … علاوة على فتل “شنباتهم” رمز الرجولة والذكورة معا كلّما حضروا حفل زفاف فيه “مرا” علّهم “يباتوا بيها” حسب تعبيرهم ..

انذاك لم اكن ادخّن بالمعنى الحقيقي للتدخين ..قمت بتجربة سجائر القراطيس صنعا لكن لم ترق لي النكهة … بل اكثر من ذلك كنت اتأفف من رائحة دخان السجائر واندهش من قوم اسمّيهم “اخّ بفّ” تعبيرا عن الزفير والشهيق وهم يدخّنون … في الساقية كان ملتقانا اليومي باستثناء الاثنين (عطلة الحلاقين والتجارين بساقيتنا) بحانوت حلاقنا وكان مجاورا لمدرسة الامانة للفتيات من جهة ولحانوت الفواكهة الجافة (حمّاص) لواحد من افضل من عرفته الساقية اخلاقا وسلوكا … سي المبروك الله يرحمو… هو جنوبي كسائر الحمّاصة من اصيلي مدنين ويقدر ما كان اخوه صلفا جدّا معنا بقدر ما كان سي مبروك لطيفا وديعا باسما ..تصوّروا ان كلّ الصيّع انتذاك يقتنون منه سجائرهم “بالكريدي” دون ان يدوّن اسم اي واحد منهم …وكلّه ايمان بأنهم سيرجعون يوما ما عليهم من دين .. وايمانه في محلّه دون شك واشكون يغيّر سي مبروك ؟؟؟

هذه بسيطة .لكن دعوني اقل لكم ما حدث لي معه يوم ان اصبحت من قبيلة الصيّع وادخّن مثلهم ..اوّلا سي مبروك هذا كان يحبّني بشكل مختلف عن الجميع كان يسمّيني “كريّم” بضم الكاف ..هكّة رشقتلو اشكون يسالو … ثمّ كان كلّما يهم بمغادرة حانوته للتسوّق من وسط المدينة يكلّفني انا او لا احد بتعويضه كحمّاص في حانوته . نعم اشتغلت صانع حمّاص عند سي المبروك … .وكنت اقبل بكل حفاوة وطيب خاطر لأجل ذلك الرجل الطيب الجميل ولكنها كانت مني حفاوة انتهازية …. نعم انتهازية ….ذلك لان حانوته وكما اسلفت كان يبعد بضعة امتار عن مدرسة الفتيات الابتدائية والتي فيها انذاك “هسكّة” اي تلميذات مكتملات التكوين جسديا ..وتلك فرصة لي حتى اغازل احداهن ..والمغازلة انذاك وحتى في تلك السن لا تتجاوز ابتسامة ماكرة اعرف مسبقا انّها تؤدّي رسالتها .. ثمّ ماذا بعد ذلك ….؟؟؟؟صدّقوني لا شيء …. لا شيء …

باستثناء واحدة منهن تجرّات ولست ادري كيف بعد ان تفاعلت مع ملاحقتي لها بابتساماتي الماكرة تجرأت على ان ترسل لي عن طريق اخيها الطفل (5 سنوات) رسالة فيها بالضبط حرفيا بحباك …ولست ادري ما دخل الالف الزائدة بعد الباء ؟؟ وفيها ….صورتها .نعم صورتها لم اقل عنها المرحومة ..ليس لاني اعرف شيئا عنها الان بل لانه لو °شلّق ° بها احد اخوتها الذكور وخاصّة والدها الصارم جدّا والذي لم اره يوما مبتسما لكانت في عداد المرحومات وربّما لحقني شويّة الطشّ …..ويوم فاقت بيها عيادة قالت لي بالحرف الواحد، اشنية هالمرعوبة (قطعة الفحم الرديئة) مانيش راضية عليك لو كان تفكّر تاخذها ..ما اعزك وما اهونك تاخذ حطبة كيف هذي …

عيّادة وغيرها ولحدّ يوم الناس هذا لم يعرفوا ان اقدارنا هي التي تسيّر حياتنا وان الجمال له مقاييس اعمق من مرعوبة وبيضاء وشقراء ..ومربوعة قدّ وطويلة وقصيرة وفمها واسع وخشمها طويل وحجرة فمها عالية وعودة على دودة وان افضل ما قيل في العلاقات في العشق في الجمال في اي عمر ..في اي زمان .في اي مكان .. خوذو عيني شوفو بيها … وحتى اكون صادقا معكم، مانيش ماشي نعطيكم عيني تشوفو بيها … ده كلام ؟؟؟

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 55

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

هنالك لدى الغرب عموما قناعة جماعية تذكّرنا بـ {اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا} ودون الدخول في جدل عن حقيقة الحديث موضوعا كان ام صحيحا وما المقصود منه في ابعاده العميقة، فالمؤكّد ان الغربي يعمل على الاقلّ بما جاء فيه في منظومة حياته ..هو يقدّس عمله ويتفانى فيه وهو ايضا قلّ ان يترك فرص التمتّع بالحياة …

عبد الكريم قطاطة

اتذكّر جيّدا وانا في روما سنة 1988 عند قيامي صحبة العديد من الزملاء في مؤسسة التلفزة التونسية بتربّص تكويني في واحدة من اهم تلفزات العالم (الراي)… اتذكّر ذلك العامل البلدي الذي يرتدي يوميا بدلته الصفراء وهو يجتهد في تجميع القمامات من الحي الذي نقطن فيه في قلب روما… كان يعمل بكلّ فخر ومثابرة …. تقولشي مهندس في النازا … ذات ويك اند ونحن نتجوّل قرب الفاتيكان، تُطلّ علينا سيارة حمراء سبور لتتوقّف امام احدى المغازات وينزل منها شاب هو الوسامة والجمال والاناقة … حتما هو واحد من اشهر ممثلي هوليوود … ونُمعن النّظر فيه باعجاب شديد لنتكتشف أنّه العامل البلدي ذاته …

هكذا هم في نهاية الاسبوع …الويكاند عندهم للتفرهيد والخروج من روتين عمل الاسبوع… لذلك وفي جلّ عواصم اوروبا تُنظم رحلات اخر الاسبوع داخليا وخارجيا …

ذات مرّة قررنا شلّة من الاصدقاء ان نسافر آخر الاسبوع في رحلة منظّمة الى امستردام بهولندا حيث الزهور والطواحين ومدينة الدراجات الهوائية… (وهي التي تحتل المرتبة الثانية عالميا بعد شنغاي الصينية وتاتي صفاقس في تلك السنوات مباشرة بعدهما) … كنّا مدركين جيّدا ان الهولنديين من اكثر الاوروبيين عنصريّة تجاهنا نحن العرب… كنّا نسمع كذلك ما يشاع من ان اسطورة كرة القدم الهولندية جوهان كرويف صرّح ذات مرّة انّه لو علم انّ العرب يتفرّجون عليه لما لعب بتاتا …لكنّ ذلك لم يمنع عزمنا على المشاركة في الرحلة لسببين… اوّلهما ان تجربتنا في فرنسا اكّدت بما لا يدع ايّ مجال للشك انّ الانسان عموما اذا احترم لابدّ ان يُحترم … (النفس نفسك وانت طبيبها وين تحط نفسك تصيبها)… فانا وجُلّ من اعرفهم، لم يحدُث ان استوقفنا عون امن ليطلب منّا اوراقنا ..اطلاقا ..اما ان يُعربد الواحد في مدينة الانوار ويشرب حتى يرى الديك اسدا ويصول ويجول بكل عنتريّة (يحساب روحو في حومة السمران او في الملاسين) فطبيعي جدا ان يقع ايقافه كعربي وسخ (ساال آراب) وربّما يقع ترحيله …

ثانيهما… الرحلة الى امستردام بالنسبة لي كان هاجسي الوحيد فيها ان اعيش تجربة الزطلة … نعم كانت لي رغبة جامحة في تجربة فعل الحشيش فيّ ..ولكم ان تسألوا عن الاسباب ولماذا امستردام بالذات … اوّلا وللتذكير انا في عشقي لا اكتفي بالشاطئ بل اريد سبر الاغوار في كل تجاويفها… واذا كانت الخمور بانواعها متوفّرة في كل مكان من المعمورة فانّي كنت اخاف تجريبها والغوص فيها عشقا دون حدود… بينما الامر في تلك الحقبة (نهاية السبعينات) بالنسبة للزطلة مختلف جدا لعديد البلدان العربية…باستثناء المغرب الذي رأيت فيه بائعي الحشيش سنة 74 كبائعي التبغ عندنا وباستثناء ايضا المقصورات المغلقة لدى الاثرياء في جُلّ البلدان العربية عموما والخليجية خاصّة…

وهنا تعود ذاكرتي الى رمضان 2008 عندما كنت في عمرة وتجاذبت اطراف الحديث مع سائق سيارة اجرة في مكّة … وهو شاب عرف اننا تونسيون وبالذات صفاقسيّون فطفق يرحّب بنا ترحابا خاصّا ويُعدّد لنا مآثرنا وعشقه للسي اس اس خاصّة …لم يكن يفعل ذلك طمعا او خبثا بل كان شابا ظريفا لطيفا عفويا …وكان لابدّ ان اردّ على تحيته ومديحه باحسن من ذلك، فرحت اُكيل اعجابي بالسعودي عموما وخاصّة بسكّان المدينة المنوّرة الذين يفيضون بِشْرا وابتسامة دائمة وطيبة… ففهم الشاب وهو ابن مكّة قصدي وابتسم في لطف وقال: عندك الف حق… سكان المدينة افضل بكثير منّا في كل شيء حتى في التزامهم بدينهم …ثمّ همس لي ونحن في الاسبوع الثاني من رمضان وتحسّبا من ان يصل صوته الى البقية في سيارة الاجرة: “تحبشي توة نهزّك لبقايع تحت الارض فيها كل شيء …خمر… نساء …حشيش ؟؟؟”…هو لم يقل ذلك بمعنى هل تريد وسيطا ؟، بل ليؤكد كلامي من انّ اهل المدينة المنورة افضل بكثير من متساكني مكّة… العهدة على من روى نعم …ولكن وعذرا يا رب ان كنت ميّالا لتصديق ذلك الشاب …

اذن امستردام هي مدينة الحشيش… لذلك اخترتها… وما ان وصلنا وحتى قبل دخولنا الى النزل المتواضع جدا (وهو اختيار منّا نظرا إلى عوزنا المادي كطلبة) … حتى لفت انتباهنا بعض المنشورات السياحية والتي تذكُر فيما تذكُر انّ استهلاك الحشيش ممنوع قانونيا ولكن نفس تلك المنشورات تُضيف: “ننصحكم بعدم التزوّد به من باعة الشوارع لأنّ نوعيته رديئة” … فهمتو حاجة ؟؟؟… ولأن امثالي الراغبين في عيش التجربة يهمهم جدا عجُز المنشور فان القرار اتُّخذ بعد… ساتعاطاه لاكتشف كُنهه كتجربة لا ادري وقتها توصيفها … الاولى والاخيرة ؟؟؟ الاولى وما تلاها ؟؟؟… المهم عندي ان امارس حقّي في التجربة …ما ان دلفنا إلى باب النزل حتى تيقّنت ان الميدان خصب جدا …جل رواد المكان مسطولون …رجالا ونساء ..وبانماط وسلوكات مختلفة …

اوّل من لفت انتباهي سيدة شقراء في غاية الجمال … كانت تجلس متسمّرة على حافة الكونتوار تحتسي خمرا وتدخّن حشيشا ..كانت في منتهى الهدوء والرصانة … تقولشي تمثال جامد لا حراك به …وكانت نظراتها اكثر جمودا ..عيناها وعلى عكس الاخرين مثبتتان الى سقف قاعة الاستقبال في بهو النزل لا تهتم باحد ولا تنظر الى احد ..كان النادل يقدّم لها كوبها حذو يدها كلّما انتهت من افراغ سالفه في جوفها ..هل هي عمياء؟؟ … عرفت فيما بعد انها عمياء نعم … وعرفت وهو الافظع انّها لم تولد كذلك الاّ انّها كانت منذ بدأت تستهلك الحشيش تمارس هوايتها المجنونة: النظر الى الشمس … الى ان فقدت بصرها …انه عالم المخدرات الرهيب …

اخذت مكاني ببهو النزل …طلبت قهوتي (كابوسان) وطلبت سيجارة …. .فهمني النادل واحضرها …دخنتها دون خوف او تردد …ولم يحدث لي شيء …هل غشني النادل؟؟؟… طلبت ثانية واشعلتها …لم اكن ادري ان تأثير الحشيش يتطلّب ربع ساعة على الاقل ليبدأ اشغاله داخل مُخيّخي وكياني … وما كدت اكمل الثانية (وهي “اوفر دوز” بالنسبة لغير المتعوّدين امثالي على استهلاك الحشيش)…حتى شعرت بالدوران يبدأ في فعل فعله …ولتفادي اي سلوك منّي وسط بهو النزل طلبت من اصدقائي التونسيين ان يصعدوا بي الى غرفتي وان لا يتركوني وحيدا وان يقوموا بتسجيل كل ما اقول وما افعل …في البداية لم استطع الوصول الى الغرفة التي كانت في الطابق الثالث الا بعد معاناة كبيرة ..كنت اتعثّر في كل درج اريد ان اتخطّاه ..والسبب انني اصبحت احس بخفّة غير عادية في جسدي وحركاتي… فكنت كلّما رفعت رجلي لاتخطّى الدرج الذي انا فيه اشعر بان ساقي ترتفع امتارا الى اعلى وهي في الحقيقة لم ترتفع الا بعض السنتمترات غير الكافية للوصول الى الدرج الموالي… لذلك اسقط واعيد الامر نفسه مع كل درج … حاصيلو ما وصلت لبيتي كان ما كل غديرة شربت ماها … لا علينا …كانت تجربة مهولة ومهبولة ورائعة …اكتشفت كلّ ذلك بعد ان استفقت وسمعت التسجيلات ..وهاكم الفيلم …

كنت ممددا على سريري في شبه غيبوبة ممتعة … وكنت ارى في سقف البيت المخربش بالاوساخ اشياء عديدة ..مخزوني المعرفي خرج ليفسرها ..كنت اقول لاصدقائي انظروا الى عنترة كيف استجابت له القبيلة ليدافع عن حماها وليرفع رأس حبيبته عبلة بشهامته وشجاعته …في ركن آخر كنت ارى طرفة بن العبد المنبوذ من عشيرته التي اُفردته افراد البعير المعبّد … انا ابن آداب لذلك جاءت تهويماتي تلك اللحظة من خلال ما اختزنته ذاكرتي من دراستي في الشعر والرواية ..الا انّ ذلك لم يمنعني من العودة الى واقعي (مزطول وحاذق!)… كنت ارجو من اصدقائي ان يُحضروا لي صديقتي الجزائرية التي صاحبتني في رحلتي تلك ..بل كنت ابكي واصرخ في وجهوهم: “يا حيوانات افهموا انها ليست الحاجة الجنسية التي تحكُمني فقط اريد ان اعرف كيف سيكون سلوكي معها في حالتي تلك” …

لكنّ اغرب ما وقع في تلك الزطلة، لوحة عبّاس بن فرناس في اوّل محاولة تاريخية للطيران … غمرتني الفكرة لحدّ الامتلاء وقمت من سريري متجها الى النافذة قائلا لاصدقائي: “عبّاس بن فرناس على حقّ” ..عندما يصل الواحد منّا الى هذه الدرجة من الخفّة سيتحدّى الجاذبية الارضية وسيبرهن على قدرته على الطيران .. وكان في نيّتي وبكل عمق وارادة وايمان ان اخرج من النافذة في الطابق الثالث طيرانا …نعم هكذا هي الزطلة وهكذا هو الحشيش …ولولا اصدقائي لطرت دون رجعة ودون ورقات يتيم… المهم في التجربة على روعتها انّها عمّقت لديّ فكرة استحالة تجربة المسكرات بكافة صنوفها والى الابد… وهذا ما حصل… كان الطلاق بالثلاث مع الخمور و مع الحشيش طبعا …كانت الاولى والاخيرة …وادركت بفعل السن و بعض الحكمة انّ الخمر الحقيقية والزطلة الحقيقية هما ما تصنعه انت بنظرتك العميقة للجمال… للاخر… للحياة …لا بمفعول مؤثّر خارجي لا حول لك فيه ولا قوة …

انا اسكر جدّا وانا استمع الى اغنية راقية ..وانا اقرأ قصيدة راقية …وانا اشاهد فيلما راقيا او مسرحية راقية …وحتى وانا انظر بمتعة الى قرنفلة وردية اللون… الى مشموم ياسمين… الى صغير يُلاغيني بموسيقى الكون … الى العقربي يقسّم برجليه تقاسيم موزارية … الى عبدالوهاب وهو يخرج الروائع الواحدة تلو الاخرى ليختمها بـ”من غير ليه”… الى العندليب ذلك الذي لم يستطع احد خلافته كارقى فنان ذي احساس مرهف … الى الست وهي تتاوه في (وصفولي الصبر)… ياااااااااااااااااااااااااه يا تومة عظمة على عظمة …

لذلك انا كنت وسابقى طيلة حياتي سكّيرا بكل ما هو جميل وراق …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 54

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

كلّ من يعرفني عن قرب يعرف انّ باريس غيّرت فيّ اشياء هامّة جدا ونحتت شخصيّتي ايّما نحت وقلبت عديد القناعات رأسا على عقب .. لعلّ ابرزها والتي طبعت بقيّة حياتي، مراهقتي السياسيّة قبل دراستي بفرنسا …

عبد الكريم قطاطة

في باريس عاشرت عديد التيارات من اقصى يمينها الى اقصى يسارها …كنت اُجيد الاستماع الى خطبهم والى تنظيراتهم السياسية … وفهمت انهم جميعا يشتركون في خاصّية مشتركة: الجعجعة السياسوية على مستوى القيادات وسلوك القطيع على مستوى القواعد … والنتيجة ان تتمتّع القيادات في جلّها بالكراسي وبالعيش الكريم من قصور وجواري وانهار خمر وان تواصل القواعد “نضالها الغبي” ومسيراتها واعتصاماتها وجوعها وعطشها والدمّار لا فقط الازرق بل بكل الالوان القاتمة… من اجل سادتها ومن اجل قصور اخرى وجواري اخريات وانهار من العسل المُصفّى الشيفازي الكنية (نسبة الى ارقى انواع الويسكي شيفاز) ..

لهذا السبب آليت على نفسي ان اقاطع نهائيا فكرة الانتماء الى ايّ فصيل سياسي طيلة حياتي و لا انضمّ إلا الى حزب الانسان المدافع عن الانسان ..احسست بأن الانسان الكوني هو الاجمل والارقى والاعمق بعيدا عن ايّة رغبة انتهازية …ترسخت لديّ قناعة بأن الدفاع عن الانسان كونيا هو الاقرب لمنطق الحياة بعيدا عن السياسة والسياسويين ..لأن الانسان اينما كان وبقطع النظر عن جنسه ولونه هو رغم انفي وانف الجميع اخي ..نعم السنا جميعا احفاد آدم وحوّاء ؟؟؟ … اختلف قطعا مع العديد من البشر في سلوكاتهم الحياتية وارى ذلك امرا طبيعيا تماما كما اختلف قابيل وهابيل …ولكن تعلمت ان لا اكره اي بشر على وجه الارض …قد لا اتوافق مع تصرفاته …قد اقف منددا بجانب الشرّ فيه مسلما كان او مسيحيا او يهوديا او بوذيا .. ولكن لنا جميعا رب هو الكفيل بمحاسبتنا … اذ كيف لي ان اخلع الله من كرسيّ عرشه واجلس مكانه لأكفّر زيدا او احكم على عمرو بالجنة وزيد بالنار ؟؟؟ ذلك عندي ليس فقط خطأ بل هو شرك خفيّ .. مثل هؤلاء الذين يُكفّرون ويعطون صكوك الجنّة ولم يدركوا انّهم بافعالهم تلك تقمّصوا جُبة الربوبية وجلسوا على العرش ليصدروا احكامهم ويعيثون في الارض فسادا …هم لم يقرؤوا يوما (لايُزكّي الا الله)…

في فرنسا ايضا تعلمت ان الانسان لا معنى له ان لم يُفصح عن قناعاته دون وجل او تردّد …لانه ان اصاب فيها سيواصل التشبّث بها وان لم يُصب جاء الرأي الاخر ليُصلح له خطّ مساره … في هذا الباب ساسرد عليكم حادثة هامة عشتها مع مدير الدورة في دراستي الاستاذ كلود اوتزن بيرجيه .. في نهاية الدراسة النظرية وبعد مجموعة من الاشرطة الوثائقية القصيرة التي انجزتها كدروس تطبيقية لما تعلمناه (لعلّ ابرزها شريط وثائقي حول مهرجان المسرح بأفينيون)، جاء موعد الاستعداد لديبلوم ختم الدروس …اخترت انا كموضوع لهذا المشروع انتاج شريط وثائقي حول صفاقس _ واسميته صفاقس حبّي Sfax mon amour ..

كان الهدف بالنسبة لي ان اقوم بانتاج واخراج فيلم وثائقي طويل حول الاوضاع في تونس بكل مفاصلها الساسية والاجتماعية والثقافية… واخترت صفاقس كمثال لمدينة من مدن تونس… لماذا صفاقس دون غيرها ؟؟؟ _ لأنو ما تخرج الصّدقة كان ما يشبعو امّاليها … حظي المشروع المقترح بالقبول من لدن مدير الدورة و ايضا من لدن مؤسستي (الاذاعة والتلفزة التونسية) والتي ساهمت بالجانب التقني من معدات تصوير صورة وصوتا، مرفوقة بمدير تصوير (الزميل عبدالله رتيمي) وبمصوّر (كاميرامان) هو الزميل الهادي ملاّك… دون نسيان مصاريف تنقلهم واقامتهم بصفاقس … وكان لي ذلك …

التصوير امتدّ على ثلاثة ايام رجعت بعدها الى معهدي بباريس لأقوم بنفسي بعملية المونتاج …تمّ انجاز الشريط والذي يمتدّ على 50 دق وجاء يوم مناقشة المشروع أمام لجنة الامتحان والتي يرأسها السيد اوتزن بيرجيه … كانت القاعة تغصّ بالطلبة وكان من بينهم تونسيون وجزائريون (طلاّب درجة ثانية) …الشريط كان ملتزما بالدفاع عن حقوق الغلابة والمساكين، عن الفئات الضعيفة والمسحوقة… واخترت له كنهاية شبّان النادي الصفاقسي في الكرة الطائرة انذاك صنف اواسط… القائمة كانت تضمّ افضل جيل عرفه النادي الصفاقسي والفريق الوطني عموما: غازي المهيري، عبدالعزيز بن عبدالله، صرصار، كسكاس، الحشيشة الخ .. اخترت هذه المجموعة وهم يسددون ضربات ساحقة (زماتشات) وبعد كل ضربة تنفجر الصورة ليخرج منها حرف باللغة الفرنسية “ف” كالفقر وياتي التعليق: (هؤلاء الشبان سيقضون يوما على “ف” كالفقر، “ظ” كالظلم، “ا” كاستغلال … وكانت كل ضربة زماتش مرفوقة بدويّ يتلاءم وانفجار الصّورة وآخر حرف وانا المعارض انذاك لسياسة بورقيبة، كان حرف “ب” وبزرت صورة الرئيس بورقيبة وهي تنفجر وبدوّي هائل لينتهي الشريط …

عذرا ايّها الزعيم والف عذر لأن من اتوا بعدك ورغم كل خطاياك لا يساوون ظفرا منك …هكذا ختمت الشريط وصفّقت ايادي التونسين والجزائرين وحتى الطلبة الافارقة بكل حماسة ونشوة … الموضة انذاك ان تكون معارضا حتى ولو كنت غبيّا في معارضتك… اثنت لجنة التحكيم والتي كانت في جلّها يسارية ايضا على قيمة المنتوج تصوّرا وتنفيذا … وجاء دور رئيس لجنة التحكيم ليعلن عن النتيجة رسميّا وعن العدد المرصود ..وقبل الاعلان ابدى رغبته في ملاحظة صغيرة على حد تعبيره… قال السيد كلود: “كريم انت واحد من الطلبة المجتهدين وكلّ اساتذتك فخورون بك وبالعمل الذي قدمته في رسالة ختم دروسك الا انّ هناك امرا حيّرني ولم استسغه منك انت بالذات كطالب له خبرة كبيرة في المونتاج .. عند عرضك لمقارنة بين الاحياء الفقيرة والاحياء الثريّة ورد خطأ منهجي في المونتاج لست ادري كيف لم تتفطّن اليه …القاعدة تقول انه في المونتاج المقارن علينا ان نختار مشاهد بنفس الحجم تصويرا بينما مشاهدك لم تكن كذلك اذ انّك اخترت مشاهد قريبة جدا في الاحياء الفقيرة ومشاهد بعيدة جدا في الاحياء الثريّة …اليس هذا خرقا لقاعدة علمية في المونتاج ؟ هل من تفسير لهذا الخطأ الفادح؟؟” …

وسكت الجميع لم ينزل على رأسهم الطير بل اسراب طيور ..كيف لعبدالكريم (الباع وذراع) في المونتاج ان يسهو على هذا الامر…؟؟؟ ابتسمت ابتسامة فيها (صدقا) شيء من المكر …وبكل هدوء اجبت: سيد كلود بقدر احترامي وتقديري وتثميني لمزاياكم العلمية علينا جميعا، بقدر استغرابي من انّكم احيانا وبشكل لا اشكّ لحظة في انّه لاشعوري تعودون لارتداء جلباب المستعمر في رؤيتكم للاشياء وتحليلكم لها …سيد كلود علّمتمونا فيما علّمتمونا ان الكاميرا هي عين المخرج وبالتالي عين البيئة التي يعيش فيها وان لا قيمة لعمل ينفصل عن واقعه وبيئته …سيد كلود .. انتم في فرنسا مسموح لكم ان تخترقوا عديد الابواب لتصوير ما تشاؤون بفضل حرية التعبير .. التصويرالتلفزي ..سيد كلود في مجتمعاتنا لم يصل لهذه المرتبة بعد …لذلك كان من السهل عليّ ان انزل بالكاميرا الى ممرات وازقة الاحياء الفقيرة لاصوّر ما اشاء .. ولكن في الضفة الاخرى لم يكن ممكنا بالنسبة لي… القصور عندنا محاطة بالكلاب الشرسة …فكيف لكاميرا ان تقتحمها …لذلك جاءت صور الاحياء الفقيرة من عمق اعماقها وجاءت صور الاحياء الراقية تكاد تكون ضبابية … نظرا إلى بعدها عن اعيننا ..ورغم ذلك ولتدارك الاختلال عدّلت الامر باستعمال مقطوعتين موسيقيتين تتزاوج كل واحدة منهما مع الفصيل الذي يناسبها” …

عجّت القاعة الكبرى بالتصفيق الحاد (مرسي الزناتي لم ينهزم يا رجّالة!)… سكت الجميع وانتظرت ردّ رئيس لجنة التحكيم السيد كلود وانا الذي وصفته بالاستعماري في ما ابداه من رأي …نظر اليّ الاستاذ الكبير وقال: “استسمحكم جميعا ايها الاساتذة في ان اقدّم اعتذاري لطالبي العزيز كريم …نحن جميعا ومهما كبرنا في ميداننا نتعلّم … وانني اعتبر ردّ طالبي كريم درسا لنا جميعا حتّى لا نخطئ في حق طلبتنا… نعم من حقهم بل من واجبهم ان يثعبّروا عن افكارهم ومنطلقهم في ذلك البيئة ولا شيء غيرها” …وخرج من مكانه واقبل عليّ قائلا: “نحن ليس من عاداتنا ان يُقبّل الرجل رجلا آخر ولكن تعلّمت منكم انتم انكم تُقبّلون بعضكم بعضا ..هل تسمح لي كريم بتقبيلك؟” …طبعا وبكل فخر وسعادة واعتزاز بك سيدي كلود ..وعجّت القاعة ثانية بالتصفيق وقُوبل مشروعي بملاحظة ممتاز جدا وبتهنئة خاصة من لجنة التحكيم …

في فرنسا تعلمت ايضا وبكل عمق ان المرأة كائن بشري كسائر الاخرين … في مجتمعاتنا العربية عموما هي للمخدع …متى اراد سي السيّد وعلى طريقة سي السيد وكيفما شاء سي السيّد … انذاك ايقنت سرّ تخلّفنا بل سرّ جهلنا لابسط قواعد الحياة معها ..نحن لا نعرف في جلنا المراة الا كأم اذا عرفناها هي ايضا… فلا الاخت لها مكانتها ولا الزوجة لها مكانتها ولا الصديقة ولا الزميلة وهذه الاخيرة يقول عنها البعض (لو كان عطاها ربّي شدّت دارها واتلهات بصغارها) … لهؤلاء اقول: (لو كان عطاكم ربّي راكم قريتو شوية وتنوّرتو وعرفتو ماذا فعلت المرأة في حياة الرسول الاكرم)…

في فرنسا ايقنت انّي كنت قبل لا اختلف كثيرا عن الحيوان في تعاملي مع المرأة .. في فرنسا …نعم في فرنسا …وانا ابن القرآن الذي تعلّم انّ آدم خلق له الله حواء لتكون سكنا له لا لتكون مخلوقة ذليلة درجة رابعة … محرومة من جل حقوقها ككائن بشري ليس فيها من البشر الا الاسم واحيانا يجرؤ البعض على تسميتها باسم الحيوان… وهذا موجود في بعض جهاتنا بتونس نعم والله موجود ..الم يقل محمد عبده ذهبت للغرب فوجدت اسلاما ولم اجد مسلمين ولمّا عدت للشرق وجدت مسلمين ولكن لم اجد اسلاما …؟؟؟

في فرنسا كذلك ايقنت اني على صواب عندما قررت ومنذ بداية وعيي بالاشياء ان لا اشرب ابدا الخمر …انا لم اذق الخمر يوما … ولكن وبباريس كنت وفي غياب الواعز الديني تماما انذاك اقوم اسبوعيا باعداد طاولة ابي نواس لكافة اصدقائي لسهرة نهاية الاسبوع… اعرف متطلبّات كل واحد منهم من مشروبات مُسكرة ومن _ (عدوها) اي ما يرافقها من مأكولات …كنت اعشق جدا تلك الاجواء وكان بداخلي رغبة جامحة لسبر اغوار السكارى لا لمعرفة اسرارهم ابدا بل لمعرفة حقيقة شخصياتهم… اذ انهم انذاك يتعرّون تماما ويصبحون في منتهى العفوية والبساطة …دون قناع ..يخرجون من كهوف الزيف الى صدق المشاعر والمواقف ..اتذكّر يوما كنّا اقمنا حفلا على شرف قدوم مجموعة من الطالبات الجزائريّات اللاّتي اتين لتدريب خاطف بالمعهد لمدة شهر ..ذلك الحفل حضرت فيه دون شك ولائم ابي نواس وانتحى كل واحد منّا مع صديقة جزائرية لم تمر على صحبتها بضعة ايام ليشكوا لبعض نوستالجيا البلدين… ولكن باسلوب عمر ابن ربيعة لا مكان للحب العذري فيه ..حيث يجد الطرفان تحقيق مآرب قد لا ترى النور ابدا في وهران او عنابة (حتى هي باريس يا سي)…

انتهى الحفل وذهب كل فارس الى فراشه بعد انتهاء الغزوة وما كدتُ امد جسدي في سريري حتى سمعتُ طرقا على الباب …نهضت وفتحت… فاذا به العربي ..”العربي” هذا طالب جزائري درجة ثانية بالمعهد تجمعني به صداقة حميمة جدا ..نظرت في وجهه فاذا به ليس العربي …وجه مكفهرّ تعلوه مسحة غضب رهيبة ..صامت … جامد كجلمود صخر …نظرت اليه وسألت: “لاباس عليك خويا العربي اشبيك ؟؟؟”… لم يُعر لسؤالي ايّة اهمية وواصل صمته ..اعدت النظر اليه وقلت: ” ادخل اشنوة ماشي تقعد واقف كي المسمار قُدّام الباب؟ ..البيت بيتك” … انذاك ارتمي في احضاني وهو المزطول خمرا وطفق في بكاء كالاطفال ..ادخلته واجلسته على سريري وقلت له خوذ راحتك ..ووقت ما تحب تحكي نسمعك …ابتعدت عنه قليلا لالمح سكّينا سقط منه بجانب السرير ..حملته بكل دهشة ..تاملته ..واشرتُ للعربي …هذا متاعك ؟؟؟ لم يجب وزاد بكاؤه …لم افهم البتة الامر …وانتظرته يُنهي مواويل البكاء …مسح عينيه ومسح انفه ونظر اليّ مليّا ثم انزل وجهه الى الارض وبكل خجل قال: “تعرف يلخو احنا الجزائريين دمّنا يفوّر فوران …اليوم شفتك وانت معنكش في بنت بلادي ما حملتش ..الله غالب احنا شعراويين وجيت توة باش ندغرك بهاكي الموس ..ما نجمتش وقت غزرت لعينيك .السكرة تعمل يا كريم …يرحم والديك سامحني راك موش صاحبي انت …انت خويا راك” …وعاد لبكائه الشديد …طبطبت على كتفه وقلت:”ولا يهمّك ياالعربي …هاكة الشراب موش انت ولا يهمّك ..انت خويا آمس واليوم وغدوة ..انا عندي اثنين منّك ؟؟” …

هذه الحادثة علّمتني ان الخمرة قد تصل بي الى مثل تلك المواقف خاصّة وانا من الذين ان هُم عشقوا يعشقون بعمق ..انا لست من الذين يسيرون على شواطئ العشق انا اعشق الغرق في بحوره …ما العشق ان لم يكن جنونا لا يعترف بالنمطية … هكذا عشت حياتي مع العشق ..عشق الفن.. عشق المصدح ..عشق السي اس اس… عشق الجمال …عشق الانسان …لذلك كنت اخاف من الخطوة الاولى في دروب الخمر ولعلّ اهمّ تجربة عشتها في حياتي اكّدت اني كنت على حق عندما لم اقم بمعاشرة ابنة العنب حفظكم الله هي تلك التي عشتها ذات يوم بامستردام بهولاندا …

اوووووووووووووووووووووووف تجربة رهيبة جدا …ولأني اخاف عليكم من الرهبة سارويها لكم في الورقة القادمة ان كُتب لي ذلك… خاتمة بليدة تقولون؟؟؟ … فرصة لكم كي تكتشفوا عيبا آخر من عيوبي ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

نحن زرعنا الشوك (8)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

وبعد، ودون الإكثار من تفاصيل المرحلة البالغة السوء التي تحدثنا عنها والتي هددت جدّيا كيان الدولة والمجتمع، هل نحن أمام جرم بلا مسؤولية أو مسؤولين؟

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

جميع التحاليل التي صدرت سواء عن الفاعلين في تلك المرحلة أو مناوئيهم، كانت تقول بجلاء إن هؤلاء لم يأتونا من كوكب آخر… صحيح هم جاؤونا بوجوه وسياسات لا تشبهنا أو لم نتعود عليها، ولكنهم في معظمهم وُلدوا بيننا، وتلقوا تعليمهم في مدارسنا، ووجدوا في أرضنا حقولا خصبة لإنبات زرعهم المتوحش … لذلك كان خطرهم أفدح بكثير من خطر الاستعمار كجسم خارجي لم يفلح في اختراق وجداننا ورمي جذوره في تربتنا ولو كان في تلك الجذور بضع بذور لحضارة عصر … لقد لفظ أجدادنا الدخيل الفرنسي بقضّه وقضيضه، ولم يأخذوا منه حتى ما أخذه منه العالم من فنون الذوق واللياقة والأدب الرفيع وأولوية الجمال… لكنهم مع غزاة 2011، وجدوا أنفسهم كالسمكة في بحرها، أو على الأصح كالبحر الذي استعاد أسماكه… فأيّ بحر ينجب ويؤوي ويغذّي مثل هذه الكائنات؟

بيئتنا شرّيرة متجمّدة في شرّها وإن تحركت يوما ففي اتجاه الوراء، وما أكثر خطوط سيرنا إلى الوراء… بدءا من الأسرة التي لم تتطور المفاهيم فيها… رغم القشرة الخارجية التي يشهرها النظام السياسي على الدوام تحت عنوان مجلة الأحوال الشخصية… نص قانوني يقال إنه الأكثر تقدمية في جنوب المتوسط وعلى ضفافه الشرقية وصولا إلى المحيط الهندي وبحر الصين … أي في كافة الربوع التي تحتوي مآذن ترفع الشهادتين خمس مرات في اليوم … طيب … ولكن ما لفت الانتباه أنه ذات تسعينات وفي خضمّ تكوين نظام نوفمبر لمفردات خاصة به، وقعت إضافات “تحديثية” لتلك المجلة التي كنا نخال أنها لا تحتاج إلى تحديث… وهذا يعني اعترافا ضمنيا بأننا قبل ذلك ولعقود كنا نعيش مع فصول متخلفة لمجلة كانت تزعم التقدمية … فضلا عما كشفته عدة بحوث نقدية قامت بها جمعية النساء الديمقراطيات، أو صدرت عن بعض الوجوه النسوية، أو ذهب بها حمة الهمامي أبعد من ذلك في كتابه عن المرأة التونسية … كما أن “بطل” مجلة الأحوال الشخصية ذاته (أي بورقيبة) لم يعط القدوة في احترام تلك المجلة حين تعلق الأمر بنفسه وزواجه وطلاقه وحقوق المرأة في بيته…

طبعا ستثور آلاف الرؤوس وتحمى وتزمجر وتطلق عليك أقذع السباب لو ذاع عليها مثل هذا الكلام… وهذا في حد ذاته تأكيد لما نقوله لا نفي له… ففضلا عن ملابسات “تطليق” السيدة وسيلة وقبلها السيدة مفيدة (ماتيلد لوران) وهي حقائق شائعة لا حاجة لها إلى بيان أكثر… فضلا عن ذلك، فإن الحمية في تقديس شخص كان بمثابة رب الأسرة التونسية، دليل على أننا لم نخرج عن علاقات الإقطاع التي سادت في القرون الخوالي… ودليل أيضا على أننا سواء في أسرتنا الكبرى (الوطن) أو أسرنا الصغيرة، ما زلنا نعمل بمعايير الإمامة والمشيخة وولاية الفقيه … وأن الجمهورية عندنا كانت وما تزال اسما بلا مسمى …

ثاني خطوط السير إلى الخلف: الشارع… طوال طفولتنا وما بعدها، وفي زمن الجمهورية والمجلة دائما نتحدث، كانت مقاييس تقويم الأشخاص سواء مدحا أو ذمّا، تتم بحسب الجنس (رجل، امرأة) أو الوسط الجغرافي (مدينة، ريف) أو السلالة أو المعتقد أو الثروة أو القوة البدنية … ولم تحتل قيم أخرى كالعمل والكفاءة العلمية والسلوك المتحضر مكانها إلا بقدر ارتباطها بالمقاييس السابقة… ويكفي هنا أن نعود إلى معايير اختيار المسؤولين في الستينات والسبعينات حتى نعرف أن ذلك لم ينشز عن سلم الاختيار المعتمد زمن الخلافة الأموية أو العباسية أو الدولة العثمانية… يعني أننا لم نندمج في الزمن المعاصر وثوراته الكبرى مهما ادعينا…

البيئة الثالثة هي المدرسة… وقد قرأنا سيولا وفيضانات عن مجانية التمدرس وتعميم التعليم والمنح الجامعية والوجبات الخيرية وتوزيع الشطائر بين الوجبات إلخ… وتم إدراج ذلك كالبرنامج الانتخابي الأبدي الذي لازم سلطتنا السياسية وميزان حسناتها… جيد، جيد جدا… ولكننا لم ننتبه مرة واحدة إلى أن ذلك من واجبات أية حكومة توضع في يدها أموال المجموعة الوطنية ويتم تكليفها بخدمة الشأن العام… ولم ننتبه إلى أنه لم يُشكر أحد على هذا في بلدان الشمال رغم أن في حكوماتها ما أخرج بلادا بكاملها من دمار شامل إلى ازدهار شامل وحقيقي… كما حصل في الدول التي خسرت الحرب العالمية الثانية، وحتى معظم التي انتصرت فيها … لم تؤلّف مدحيات في المستشار أديناور، ولا عكاظيات في وينستون تشرشل، ولا معلقات في الجنرال ديغول… أما نحن…

نأتي الآن إلى محتوى مدارسنا وما كانت تقدمه من برامج… مع تقديري الأكيد لمعلّمينا وأساتذتنا وما بذلوه من جهد بطولي، وخاصة في الأرياف، فإن ثغرات خطيرة تبدّت في نظامنا التعليمي منذ تلك الفترة… للعلم فقد تناول المختصون الأجلاّء هذه النقائص على مدى السنوات ولن نكون بأفصح منهم ولا أعلم… ولكن نقتصر على بعض الإشارات… مادة التاريخ مثلا كانت منقسمة كالتالي: 30 بالمائة لتاريخ تونس القديم حيث يقع التنصيص على أن كل الحضارات دخيلة علينا، وعلى أن ماضينا كله استعمار وهزائم (يعني لا علاقة لك أيها التلميذ لا بأمجاد قرطاج ولا الدولة الأغلبية التي احتلت لقرون مالطة وجنوب إيطاليا وجزرها، ولا الدولة الفاطمية التي تأسست هنا ومن هنا انتشرت، و لا بابن خلدون، ولا بأروى القيروانية، ولا بفاطمة الفهرية، ولا، ولا…) و70 بالمائة عن “الحركة الوطنية” وهي عبارة عن مسح بيوغرافي لحياة الزعيم من يوم ولادته في حومة الطرابلسية إلى عودته المظفرة يوم غرة جوان وما تلاها من خير عميم، وبينهما سجون ومقيمون عامون حفظنا أسماءهم وأسماءها وتواريخهم وتواريخها عن ظهر قلب…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار