تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 37

نشرت

في

image 1

عبد الكريم قطاطة:

وانا في طريق العودة الى صفاقس بعد اعلان نتيجة مناظرة الاذاعة والتلفزة التونسية لتكوين اطاراتها التقنية دفعة 70 ـ 71، لم يكن وقتها القطارالسريع قد حلّ ركبه بقطاع السكك الحديدية ..كان “الاومنيبوس” وسيلة النقل الوحيدة .

عبد الكريم قطاطة

الاومنيبوس بالنسبة لي علّمني ان الحياة امتع واجدى للمعرفة ..أن تاخذ قطارا سريعا في حياتك فهذا يعني انّك ستتوقّف في محطّات قليلة وانّك لن تتعرّف الا على حرفاء تلك المحطّات .. اليست الحياة في حاجة لنتعرف على كل محطّاتها …؟؟ ما قيمة الواحد منّا اذا اقتصرت حياته على الشمس المشرقة والبلابل الشادية اذا لم يعرف يوما صهيل الرعود ودعاء الكروان ؟؟.. ما قيمة النهر الخالد والجندول والكرنك اذا لم نستمع يوما الى “انا موش مريڨل وانت موش مريڨلة” ؟ ما قيمة العقربي وديوة وبيليه ومارادونا اذا لم نشاهد يوما عبدالنور او عبد الظلام؟؟…

نجاحي في تلك المناظرة كان بمثابة الشمعة الاولى التي اخرجتني من ظلمات الاحباط والضياع الى نور.. نور غمرني بشيء من استرداد الايمان النفسي ..كنت وانا في قطار العودة اراجع ما حررته في الامتحان الكتابي لتلك المناظرة ..الفيلم الذي عُرض علينا يومها لتحليله ونقده كان من النوع الكلاسيكي وكان بالنسبة لي تافها شكلا ومضمونا ..لأني تعودت ومنذ السنة الخامسة ثانوي ان امرّ من مرحلة استهلاك الافلام العاطفية الساذجة الى اختيارات ارقى… فالافلام المصرية لم تعد تغريني نظرا لتشابه الطرح فيها ..حبيب وحبيبة ومصاعب للوصول لبعضهما ثم الـ”هابي فينيشينغ” … النهاية السعيدة بتزوج الحبيبين … وافلام جيمس بوند لا تختلف كذلك في الطرح (ذلك العبقري البريطاني الذي يقهر كل الصعاب لينتصر على اعدائه وخاصة الروسيين)… وافلام الويسترن تنحو ايضا نفس المنحى باستثناء البعض منها كـ”حدث ذات مرة في الغرب” والكبير شارل برونسون …وبعض افلام سيرجيو ليوني عموما خاصة عندما يكون واضع موسيقاها اينيو موريكوني، ذلك الموسيقار الايطالي الكبير ..

تلك النوعية لم تعُد ترويني ..خاصة وزخم الافلام الرائعة في تلك الحقبة بدأ ينهمر … فمن “ذهب مع الريح” اسطورة السينما عبر العصور ، الى “فتاة ريان”، الى “دكتور جيفاغو” الى “ساكو وفانزيتّي”، الى “رجال الرئيس” ..تلك الموجة من الافلام الهادفة والعميقة والتي كنّا نعشقها حسّيا وفكريا ودون الالمام بالجانب العلمي لعالم السينما، طوّرت في اختياراتنا …والغريب انه ورغم وجود نادي السينما انذاك والذي تتلمذ عليه العديد من رواد السينما التونسية (بوزيد ودمق وغيرهما) ..فانّي لم اكن من رواده الدائمين …كنت اضجر من تلك النقاشات التي لا تعتني بالفيلم بقدر انسياقها في معالجات ايديولوجية بحتة …ورغم ميولاتنا انذاك نحن كشباب مراهق للفكر اليساري، الا أنني كنت ومازلت وخاصة بعد دراستي لدنيا العلوم السمعية البصرية اعتقد، وبكل اصرار، أن اي عمل سمعي بصري هو حتما يناقش ضمنيا التوجه الايديولوجي للعمل المُقدّم ولكن بحيّز زمني محدود اوّلا و الأهم ان يكون انطلاقا من احداث ووقائع المنتوج الذي يقع عرضه وبعيدا عن استعراض العضلات السياسوية …لعلّ ذلك المخزون السينمائي الذي امتلكته (حسّيّا لا معرفيّا علميا) هو الذي حضر لدي يوم المناظرة والذي عرفت في ما بعد ان العدد الذي تحصّلت عليه في الكتابي هو الذي شفع لي ايضا يوم امتحان الشفاهي باعتبار عجزي عن مجاراة الحوار باللغة الفرنسية …

وصلت ليلا الى ساقيتي …الشلّة وقتها غادرت والحوانيت اغلقت ابوابها …وها انا ادُقّ باب قصرنا (الحوش)… العائلة لم تكن تدري ايّ شيء عن نتيجة الامتحان الشفاهي …نظر الجميع الى عبدالكريم دون النبس لا ببنت شفة ولا بابنة عمّها …السؤال بعد خيباتي التي سبقت اصبح مغلولا ..مكبّلا ..غير قادر على الانعتاق …ما ابشع تلك الحالة عندما نريد ان نطرح الف سؤال ولن نقدر على طرح حتى ربع سؤال …وكان عليّ ان ارحم الجميع وان اروي ظمأهم …نظرت اليها وعيناها مُسدلتان في خوف وامل ورجاء وقلت …الحمد لله نجحت ….فرح ابي كعادته والدموع تنهمر من عينيه وقبّلني اخوتي وطفقت عيّادة صاحبة المُسدلتين تتمتم: حمدا وشكرا …نظرت الى العينين المُسدلتين وسألتها ..اشبيك يا عيّادة ماكش فرحانة؟ ..اجابت دون ان ترفعهما: “آه يا وليدي، قللو يا كلب اشبيك تلهّف، قللو خايف من قايلة غدوة” …كنت اعرف ما تعنيه ولكن وبكل استعباط (وكم احبّ الاستعباط) سالتها: اش ثمة زادة ..؟؟ نظرت إليّ بكل عمق وريبة و اردفت: راك ماشي لبلاد الغربة …وماشي تبعد عليّ ..وتونس صعيبة (تقصد العاصمة) صعيبة برشة …وكان ما ربّي يبعّد عليك اولاد الحرام وبنات الحرام” …

هي ربّما ملتاعة من تجربة احد اخوتها (احمد رحمه الله ) الذي كسّر قيود القبيلة وغادر صفاقس ليعمل ويعيش بالعاصمة، وليتعلّم هناك معاشرة بنت العنبة ويعمل خلاه فيما ولاه حسب تعبير القبيلة …ثم هي تعني اساسا في عبارة “اولاد الحرام وبنات الحرام” عجُز العبارة “بنات الحرام” …لانها تعرف جيّدا ولدها وتعرف انّ “عينو محلولة وقافز” مقارنة باقرانه …وهي في جانب من طروحاتها على حق ..لأنني كنت قريبا جدا من الفتيات في افراحنا ولمّاتنا ..وكانت تكرّر دوما وبضجر: اش عاملهم ..؟؟؟ طلاسم ..؟؟ اشبيهم في جرتك تقولشي ذبّان مڨجّجين عليك …؟؟؟ واذا كان هذا هو انا وهنّ في ذلك الزمن وحتى بعده فهي وانتم ليتكم تعرفون الحقيقة …جلّنا انذاك كانت علاقاتنا بالفتيات من نوع (قطاطس باردو القفز وقلّة الصيادة) ..اي لا شيء .. لا شيء ..لا شيء ..في علاقتنا .. والله حتى بوسة لا ثمة ولا كانت ولا صارت ! ….

ولكن قلب الام لا يستكين حتى للاّشيء ..وعندما تتحدث مع اختها الصغرى نفيسة رحمها الله وهي التي تلعب معي دائما دور المحامية الجيدة في محاورة عيّادة، كانت تردّ بكل ثقة: “بالله يزّي يا للتي محسونة توة تاخذ عليهم ..مازالو صغار” ..الا ان عيادة ترد وبكل جدّية: “اشكون يعرف تلصقشي فيه نحاسة مسوّدة” … وهذه العبارة تُطلق على فتاة غرّر بها احدهم وافقدها عذريّتها …

نظرت مجدّدا الى تلك العينين المسدلتين ومسكت يد عيّادة وقلت لها: اغزرلي اغزرلي … مليييييييييح …انت جبت راجل والا طلطول؟ ..ودون انتظار ردّت: “جبت راجل وسيد الرجال …اما خايفة عليك” ..قبّلت يدها ..واخذت نفسا عميقا كما افعل كلّما اقبّل يدا احبّها وقلت: “ما تخافش على كرمة العسل متاعك” ..هي تلك العبارة التي كانت تردّدها دوما وانا طفل … بعدها سالتني: “توة اش ماشي تولّي تخدم …؟؟ ماشي يولّيو يشوفوك في التلفزة” ..هل لاحظتم انها لم تستعمل ضمير المتكلم ..؟؟ هي تريد ان تفتخر بابنها …قبل حتى ارتوائها من رؤيتي على الشاشة …اجبتها: “لا، انا ساُصبح تقنيا من تقنيي التلفزة” …فاستفسرت: “اش معناها ..؟؟” …حاولت ان افسّر لها نوعيّة الاختصاصات في العمل التلفزي واشهد اني لم اُفلح ..ربّما لعجزي عن الشرح او لعدم رغبتها في الفهم … وتدخّل الوالد بسؤاله: “والخلاص باهي ؟؟” .. كل فول يهمّو فلوس نوّارو…. موش لاهي بيه برك .. واجبت ببرود: ان شاء الله … وتمتم: ربي يجيبك في الصواب وما تنساناش عاد ..انت تعرف البير وغطاه …

في الغد كان اللقاء مع الشلة …كان سي المبروك الحمّاص اوّل من حظي ببشارة الخبر …نظر إليّ وقال ..والله نعرفك ماشي تنڨزها …. كان فرحه طفوليا بطفله الذي “سلّكها”… وهاهو رضا يصل ..لم ينتظر اجابة منّي لانه احسّ بالنتيجة بادية على وجهي ووجه سي المبروك ..وقال: “قلتلك … ماشي نعيثو فيها فسادا غاديكة … نعيثو يعني نعيثو” .. عانقني وانا ارد: “خاربينها خاربينها” …وتسللت الشلّة من حانوت بو احمد حلاقنا وراعي حوار العصابة، وعلى طريقته دوما، علّق: ايّا سيّب سي المبروك وحضّر روحك للمبروك (يعني الزردة الخمرية) …وكانت لهم زردتهم وكان لي ولرضا الاستعداد للرحيل … فنهاية سبتمبر على الابواب وبداية دراسته الجامعية وبداية دراستي بمركز بيكلار التابع لدار التلفزة التونسية لتكوين اطاراتها، تنطلق في غرّة اكتوبر …

سجّل رضا بالمدرسة العليا لتكوين الاساتذة قسم تاريخ وسجّل ايضا بالمبيت الجامعي راس الطابية ..اما انا فاصطحبت مجموعة من زملائي الذين نجحوا في الباك، لاقطن معهم بنهج قلاتيني بلافايات وتحديدا وراء معهد بورقيبة سكول ..ورغم تميّز المكان جغرافية ومعين كراء، فانه لم يكن مناسبا لي ..اولا لبعده عن مركز دراستي وثانيا وهو الاهم انه لم يكن ليتسع لي ومعي رضا نتقاسم وجودنا يوميا …لذلك قضيت معظم اوقاتي معه في البيت اف 16 بمبيت راس الطابية ..اف 16 وكما تعرفون عنوان لطائرة حربية ..واف 16 براس الطابية هو عنوان لقاعدة حربية يجتمع فيها كل الطلبة المنحدرين من ساقية الدائر ..هي تتسع في تركيبتها لـ4 طلبة ..ونحن نُخضع مساحتها لعشرة على الاقل ..وياما حروب جميلة ان لم تكن خمرية فهي بولاتية ..ويا ويلو اللي نركّحو عليه، مشى بازڨة …

يوم السبت عشيّة كنّا نقصد نهج اين خلدون ..وهنالك وبمقهى صغير جدا يجتمع الرفاق … مقهى علي بابا …انه مقهى الطلبة اليساريين… وتبدا الطروحات التي لا تنفك ..فهذا زعيم اللينينيين وهذا التروتسكي المتطرف وهذا من جماعة ماو .وهذا وطد وهذا دستوري “فليك” (يتبهنس ثمّشي ما يسمع حويجة على تحركات الطلبة ويهزّها لسيادو) … واغلبنا من القطيع …نتلمس طريقنا وسط الزحام الطلابي …

يوم الاحد هو يوم عيد بمبيت راس الطابية ..يوم الكسكسي بالعلوش حيث يتوافد من دبّ وهبّ من الطلبة لوجبة الغداء والتي عادة ما تكون على ڨازون المبيت ..كنا انا ورضا نقف احيانا في بداية طابور الطلبة المتوجه لاخذ وجبته وكانت تذكرة الوجبة الجامعية بـ100 مليم… وكان الواحد منّا يحمل بيده 5 ملّيمات ويتعاطى مهنة طالبي الصدقة امام المساجد وهم يتكاثرون يوما بعد يوم، بقولنا: (يا رفيق تكمّلّي على تيكيه) …

لم تدّم سكناي بنهج قلاتيني اكثر من اسبوعين ..فذات يوم وانا بمقهى ابن خلدون التقيت صدفة باحد متساكني الساقية وهو طالب في سنته الاولى بتونس اختصاص علوم (محسن المنجّة) وهو قريب لقائدي في الكشافة محمد المنجة ..وككل لقاء يتم بين افراد المنطقة الواحدة تجاذبنا اطراف الحديث العادية ..اشنية حوالك ..اش عامل ..وين تسكن …؟؟ وهنا عبرت له عن قلقي من موضوع السكنى ..وها هو يعرض عليّ الإقامة بنهج ابن خلدون …. (كلب وطاحت عليه جردڨة)… مكان لا يبعد عن مركز دراستي اكثر من 100 متر ..وهو استوديو يتسع لشخصين … وصديقنا هذا لا يّقضّي نهاية الاسبوع فيه، حيث ينتقل الى اطراف عائلية له بتونس … و6 الاف معلوم الكراء شهريا …(موش قلتلكم كلب وطاحت عليه …لا موش جردڨة مبسوطة اصلا!) …اتفقنا واسرعت الى رضا ..”فُرجت” ..ذكرتها وانا اغني وارقص، على وزن “بُعثت” التي تجدونها في اغنية كيلوباترة (بُعثت في زورق مستلهم من كل فنّ … مرح المجداف يختال بحوراء تُغنّي … يا حبيبي هذه ليلة حُبّي .. اه لو شاركتني افراح قلبي) …

هل فهمتم ماذا اعني بـ”بُعثت” وبمعارضتها “فُرجت” ؟؟؟… ان غدا لناظره لقريب …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 99

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

هذه الورقة تروي ما حدث لي مع حلول سنة 1998… وهي سنة هامة جدا في حياتي المهنية وفي اذاعة صفاقس… سنة 98 تكون اذاعة صفاقس قد عاشت سنتين تحت عهدة المرحوم عبد القادر عقير كمدير لها…

عبد الكريم قطاطة

وللامانة وكما اسلفت الحديث في هذا الامر كان الرجل حركيا جدا وحاول استقطاب عديد الكفاءات الثقافية في الجهة ونجح ايما نجاح في ذلك… وللامانة ايضا كان يعتبرني عضده الاوّل كمستشار له في تسيير شؤون الاذاعة، ومثل هذه الاوضاع تسعد بعض الزملاء وتشقي آخرين… مع حلول سنة 98، ارتأت مؤسسة الاذاعة والتلفزة تحديث تشريعاتها ومن بين ما قامت به سن قوانين جديدة في اسناد الخطط لموظفيها… والتي كان من ضمنها احداث خطة مدير عام للقنوات الاذاعية.. وكان اوّل من ترأسها زميل سابق عرفته عندما كان يشغل خطة رئيس تحرير شريط الانباء التلفزي باللغة العربية… السيد عبد الله عمامي…

علاقتي به كانت مهنية بحتة… كنت كسائر تقنيي قسم المونتاج اقوم مرّة واحدة في الاسبوع ودوريا، بتركيب فيلم شريط الانباء لنشاط رئيس الدولة واعضاده… وهي مهمة تتطلب انتباها جيد لكلّ ما يمدنا به زملاؤنا في قسم التصوير… وخاصة اعطاء الحجم والقيمة لنشاط رئيس الدولة والوزراء… لذلك يحرص كل مركّب منّا على التمحيص وبانتباه شديد للصور واختيار افضلها جودة… نوعية اختصاصنا تجعل كل رئيس تحرير يحرص على مدّنا بتوجيهاته التي يتلقاها بدوره من الرئيس المدير العام… اذ نحذف احيانا وبامر من رئيس التحرير بعض المشاهد او نضيف في مدة مشاهد اخرى… تلك كانت نوعية علاقتي بالسيد عبدالله عمامي وهي علاقة ولّدت بمرور الزمن ثقته فيّ وفي جودة عملي…

عندما كُلّف السيّد عمامي بخطّة مدير عام للقنوات الاذاعية، تنقّل نحو كلّ الاذاعات الجهوية ليطّلع على واقعها ومشاغلها… وجاء دور اذاعة صفاقس ليحلّ ضيفا عليها… وكان استقباله لي حارّا اذ اننا لم نلتق منذ سنة 1976 عندما غادرت المؤسسة لاتمام دراستي بفرنسا… يوم مقدمه لصفاقس اجتمع السيد عبدالله عمامي بالمسؤولين في اذاعتها ليتطارح معهم ومع السيد عبدالقادر عقير احوال اذاعة صفاقس… وكنت من ضمن المدعويين لحضور ذلك الاجتماع… واخذت الكلمة كسائر زملائي وطرحت نقطة اعتبرتها انذاك في منتهى الاهمية و الغرابة… اذ كيف يُعقل لاذاعة عمرها 37 سنة وليس فيها من الخطط الوظيفية الا ثلاثا… فيما بقية المسؤولين على المصالح والاقسام لم يدرجوا يوما ضمن خطة وظيفية …اي انهم لم يعيّنوا يوما بشكل رسمي ضمن خططهم…

وكانت دهشة السيد عبدالله عمامي كبيرة… ووعد بانّ اوّل عملية اصلاح سيقوم بها هي تدارك هذه الوضعية غير العادلة والتي استمرّت أربعة عقود… وانتهى الاجتماع وطلب منّي السيّد عبدالله عمامي ان ارافقه لاجتماع ثلاثي يجمع بيننا وبين السيد عبدالقادر عقير مدير الاذاعة… وكان لنا ذلك وهو اجتماع تاريخي بكلّ المقاييس وهاكم التفاصيل…

بدأ السيد عبدالله عمامي بالاشادة بالنقطة التي اثرتها والمتعلقة بالخطط الوظيفية وهو ما يحتم منذ اليوم على انجاز الـ”اورغانيغرام” (التنظيم الهيكلي) لاذاعة صفاقس… وهذا يعني اقتراح مجموعة من الخطط الوظيفية وفي كل درجاته اي من مدير فرعي الى رئيس قسم مرورا برؤساء المصالح… واضاف متوجها بكلامه الى السيد عبدالقادر عقير: (مهمة انجاز التنظيم الهيكلي ساكلّف بها سي عبدالكريم واريدها اسمية لانه يعرف جيّدا زملاءه الذين عاصرهم منذ نهاية السبعينات ومؤكّد اكثر من ايّ كان، وانا كلّي ثقة فيه ولا اتصورك اقلّ ثقة منّي)… وللامانة رحّب المدير وعن طواعية بالمقترح…

وانتهى الاجتماع الثلاثي وعكفت على انجاز الاورغانيغرام واخترت اسماء زملاء يشهد الله اني وضعت كفاءتهم فقط كفيصل في الاختيار… واطلعت عليها السيد عبدالقادر عقير ودون ايّ جدال وافق عليها واضاف بعض الخطط التي نسيتها… وارسل الاورغانيغرام عن طريق الفاكس للسيد عبدالله عمامي… وماهي دقائق حتى وجدت السيد عبدالله يطلبني على هاتفي… بادرني اوّلا بالشكر على الانجاز السريع واضاف: (فقط لي ملاحظتان، الاولى تتعلق بتسمية الزميل زهير بن احمد كمدير فرعي للبرامج… حيث ابدى لي احترازه من هذا الاسم… وعندما طلبت منه السبب قال لي بكل ايجاز ووضوح: زميلك زهير محسوب على اليسار هل تدري ذلك ؟ قلت له لا ..قال لي: رسالة ختم دروسه بمعهد الصحافة، كانت حول صحف المعارضة في تونس!

ولانّي عرفت زميلي زهير بن احمد بما فيه الكفاية اسرعت بالردّ: واين الاشكال ؟؟ فأسرع هو ايضا بالرد: (خويا عبدالكريم، مدير فرعي للبرامج موش شوية راهي)… ولم اتركه يتمّ حديثه اذ قلت: (انت عندك ثقة فيّ، سي عبدالله ؟) اجاب طبعا ..فقلت له: (زهير هو الاجدر بهذا المنصب وانا اتحمل مسؤولية ما اقول)… اكتفى سي عبدالله بالقول: (دبّر راسك اما اتحمّل مسؤوليتك)… ثم جاءني للملاحظة الثانية وقال: ( إي انت وينك سي عبدالكريم في الاورغانيغرام ؟)… وكنت فعلا لم اسند ايّة خطة وظيفية لشخصي… قلت له: (انت تعرف جيدا ماذا يعني المصدح بالنسبة لي… هو أهم عندي من ايّة خطة وظيفية)… قفز السيد عبدالله على العبارة وقال: (يخخي انا قلتلك ابعد عن المصدح ؟ اما في نفس الوقت ولاني اعرفك واعرف حكايتك بكل تفاصيلها مع المصدح ومع اذاعة صفاقس، لا ارى احدا غيرك يستحقّ مصلحة البرمجة في اذاعتكم… واضيف بكل رجاء اقبلها من اجلي ومن اجل الاذاعة مع مواصلة علاقتك بالمصدح)… قلت له ساناقش الموضوع مع سي عبدالقادر… ردّ عليّ: انه في انتظارك وسيكون سعيدا بقبولك لتلك الخطة…

وما ان انهيت المكالمة حتى هاتفني سي عبدالقادر للحضور بمكتبه… دخلت عليه فوجدته في قمة الانشراح وبدأ بالقول: (شنوة الكيلو يطيّح الرطل ؟؟)… وقتها عرفت انّ خطة رئيس مصلحة البرمجة وهي المصلحة الاهم في كل اذاعة تحادث فيها السيد عبدالله عمامي والسيد عبدالقادر عقير واتفقا على ان اكون انا من يشغلها… وبدأت مسيرتي المهنية تاخذ ابعادا اخرى… عبدالكريم لم يعد كما كان مستشارا للمدير بل اصبح رسميا عضوا في (حكومة) اذاعة صفاقس… وكما اسلفت القول، بقدر ما استبشر العديد بهذه التسمية بقدر ما اغاظت البعض… اي نعم هؤلاء..كانوا دوما وفي كل معركة ينتظرون هزيمتي بالضربة القاضية فاذا بهم يجدونني في وضعية ارقى…

هي ليست حالة خاصة بي بل هي حالة منتشرة في كل الادارات دون استثناء… حرب ضروس كلما خفّت حرائقها فترة، اشتعلت من جديد وربما باكثر ضراوة… انها طبيعة البشر منذ أول الخلق… فاذا كان الانبياء اولى ضحايا اقوامهم فمن نكون نحن حتى لا نعيش نفس الاوضاع؟… وحده الله يعلم من منّا قابيل ومن منّا هابيل وعند الله تجتمع الخصوم…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

إنه الشتاء يا حبيبتي

نشرت

في

محمد الزمزاري:

يبدو أن ” الأيام والليالي البيض” ستشرّف بداية من اليوم 25 ديسمبر هذا الذي يتميز باصطحاب عاملين اثنين هامين:

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

اولا نزول الأمطار بكميات معتبرة ومطلوبة لإخراج البلاد من مأزق الجفاف، خاصة ان كل التكهنات توحي وتؤكد احيانا ان الأمطار متواصلة ومن شأن هذا الهطول المخالف للسنة الماضية الجافة، ان يغذي بالأمطار عددا وافرا من السدود وسقي الأراضي الفلاحية، والتبشير بسنة ممتازة في الإنتاج الزراعي عسى أن يقع تقليص حاجتنا وارتباطنا بواردات قمح اوكرانيا او روسيا… والتأكيد مجددا على غرس عقلية الاعتماد على انتاجنا الوطني لتحقيق الأمن الغذائي وهو ليس أمرا ممكنا فقط بل ضروري…

لقد تم القضاء على الارهاب وتمت مقاومة الفساد وتحريك رافعات التنمية… وكذلك تحسين مخزون العملة الأجنبية بالبنك المركزي التي وصلت إلى حوالي 120 يوم توريد بعد سقوطها فترات حكم الاخوان إلى اقل من 60 يوما… كما يستوجب لفت النظر الى ان الدينار التونسي اخذ طريقه للتعافي وحقق زيادة اكثر من 1.6 % مقابل اليورو… والأمر يستوجب مواصلة دعم الدينار أمام العملات الأجنبية خاصة اليورو و الدولار ..وهذه أيضا مستجدات لا تقل أهمية..

عدنا لحالة هذه المدة الفصلية الأولى من شتاء يبدو باردا هذه السنة زيادة عن الأمطار المباركة… و مقابل ذلك يرتعش المواطنون و قد يصطلون من البرد القارس والرياح المرافقة… وقد يشتد وقع البرد على شريحة كبرى من التونسيين الذين يلتجئون بنسب متفاوتة إلى سخانات الغاز او الفحم او الكهرباء… وهي طرق تتطلب قواعد ثابتة لتحقيق الدفء النسبي مع التوقي من اخطارها… فالفحم له أضرار كبيرة متمثلة في ثاني أوكسيد الكربون القاتل… والغاز له اخطار لا تقل عن الفحم… وحتى جهاز الكهرباء المحمول يتطلب “تنفيس” البيت…

تبقى اخطار اضافية خلال هذه الفترة وهي ما اعلنته وزارة الصحة العمومية مشكورة من ضرورة التحلي السريع قصد مواجهة منتظرة للكورونا خاصة لدى كبار السن و المصابين بالامراض المزمنة والأطفال… وربما نضطر إلى العودة لاستعمال الكمامات خلال الازدحام الذي نراه في وسائل النقل المتعددة… لذا قد يتحتم على الدولة استشراف تغيرات واردة للمناخ ببلادنا… والاحتياط اكثر من العوامل التي نراها بالغرب القريب لتوفير الغاز الطبيعى لأكبر جزء من المواطنين في كل مكان لا لمواجهة البرد العائد مع كل شتاء بأكثر قوة، لكن أيضا لرفاه التونسيين شمالا ووسطا وجنوبا… وعدم حصر هذا الرفاه الشرعي عند شريحة واحدة، نسبة منها من الجشعين والسراق… اقول نسبة قليلة لأن متطلبات الرفاه لم تعد مفخرة او من علامات الأرستقراطية.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 98

نشرت

في

ملاحظة مبدئية … هذه الورقة ساخصصها لفترة هامة جدا في مسيرة اذاعة صفاقس… فترة تولّى فيها المرحوم عبدالقادر عقير ادارة اذاعة صفاقس، وامتدت من سنة 1996 حتى 2004 …

عبد الكريم قطاطة

واحتراما لروحه سامرّ على بعض الاحداث دون ذكر تفاصيلها السيئة… نعم احتراما لروحه دعوني في البداية اقسّم فترة ادارته لاذاعة صفاقس على ثلاث مراحل… الاولى من 96 الى 98 والثانية من 98 الى 2002 والثالثة من 2002 الى 2004… هذا التقسيم مأتاه ما عايشته في المراحل الثلاث من احداث مختلفة جدا… كما اسلفت سابقا ومنذ قدوم الرجل سنة 96 وبطلب منه نشأت بيننا علاقة متينة للغاية… كنت بالنسبة له مستشاره الاول في كلّ ما ينوي القيام به وكان كثير النشاط متعدّد الرؤى لتطوير العمل الاذاعي… وحتّى في علاقاته مع زملائي في الاذاعة كان يستشيرني كلما حدث حادث وكان شديد الثقة بي…

ودعوني هنا اقسم لكم بالله الواحد الاحد اني لم اغتنم طيلة وجودي معه تصفية ايّ حساب مع ايّ كان لكن في المقابل كنت لا اخفي تماما قناعاتي تجاه ايّ زميل ايجابيا او سلبيا… وكانت مواقفي تنبع دائما من حبّي لاذاعتي وحرصي ومن خلال تجربتي ان اقول له الحقيقة عارية… هنا ساذكر بعض الامثلة…

في احدى المرات دعاني على عجل وعبّر لي عن غضبه الشديد لعدم كفاءة احد منظوريه مهنيا… كان في قمة الغضب واخبرني انه يريد ان يضع حدّا لوجود ذلك الشخص في الاذاعة… وكان موقفي ان تريّث يا سي عبدالقادر وسنجد الحلّ ونزلت من مكتبه بحثا عن ذلك الزميل لاعرف لبّ الاشكال ..وجدته في حالة مزرية ..كان يبكي كطفل صغير بعد ان توعّده سي عبدالقادر بالطرد ..هدّأت من روعه ووعدته بالتدخل ايجابيا لفائدته لانّ قناعتي لم تقبل بطرده والقضاء على مورد رزقه ..وللتوّ عدت الى مكتب المدير عارضا عليه الحلّ الامثل ..قلت له مساعد ذلك الذي تريد طرده على غاية من الكفاءة… اذن دع ذلك السيد وشأنه وليكن من الان مخاطبك هو مساعده …وللامانة قال لي اللي تحكم انت مبروك وفعلا كان الامر كذلك …

المثال الثاني حدث مع ثنائي من الزملاء لاحظت انهما اصبحا كثيري التردّد على مكتبه ثم اكتشفت انّ احدهما اصبح ملازما اسبوعيا لهداياه لمنزله (اشي لحوم ..اشي سمك ..اشي غلال ..) فما كان منّي الا ان فاتحته في الامر وحذرته منهما لاني اعرف جيّدا معدنهما… وقلت له بالحرف الواحد ان حدثت لك يوما مشاكل في اذاعة صفاقس، وقتها ستدرك انهما وراء ذلك… وفعلا كانا وراء العديد من مشاكله مع الزملاء …

المثال الثالث حدث مع منشطتين كانتا شاركتا في كاستينغ لتطعيم اذاعة صفاقس باسماء شابة لضخّ دماء جديدة واخذ المشعل عنّا يوما .. وحرصت في هذا الكاستينغ على تكوين لجان حتى لا يكون القرار فرديا… نعم كنت رئيس تلك اللجان ولكنّ القرار كان جماعيا والله .. احداهما نجحت باجماع الجميع على اهليّتها لتكون ضمن من ساتكفّل بتكوينهم وتاطيرهم ..والثانية لم تحظ بايّ صوت في الكاستينغ ..سي عبدالقادر انذاك (جا راسو) على التي نجحت وحاول بكل الوسائل اقناعي بالتخلّي عنها ولكنه فشل تماما ..ونجحت في اصراري ونجحت هي في دورتها وبامتياز ..اليس كذلك حنان التريشيلي .. ؟؟ الثانية والتي لم تنجح في الكاسنينغ وبالاجماع وساتحاشى ذكر اسمها حتى لا احرجها، حكايتها تتلخّص في الآتي:

دعاني يوما سي عبدالقادر الى مكتبه ورجاني اخذا بخاطره ان اقبل بها كمنشطة اقوم بتاطيرها لانّ والدها وهو صديق له احرجه وطلب منه ذلك … موقفي كان الرفض التام لانّه وهذا يعرفه كلّ من تتلمذ عنّي، ليس لي قلب في الامور المهنية .. ابنتي كرامة مثلا ارادت ان تشارك في احدى دورات الكاستينغ .. لم ار مانعا في تمكينها من ذلك الحق لكن كان شرطي ان اقوم انا فقط بالكاسيتينغ… لاني كنت مدركا انّ من سيحضر معي لتقييمها سيراها كابنة لعبدالكريم ولن يكون موضوعيا مائة بالمائة ..وفعلا وكغيرها اجريت لها التجربة الصوتية واكتفيت بذلك… وعندما خرجت كرامة من الاستوديو لاستطلاع رأيي فيها قلت لها في جملة واحدة ..انت لست للميكرو .. ولانها تعرفني وتعرف قناعاتي، ودّعتني وذهبت وكأنّ شيئا لم يكن…

وهذا ما اعنيه وانا اقول دائما المصدح يُفتكّ ولا يُعطى، وسي عبدالقادر يعرف قسوتي وصلابتي وعنادي وكسوحية راسي في مثل هذه الحالات… فقال لي زايد انلحّ عليك وسآخذها على عاتقي وعلى مسؤوليّتي… قلت له ذلك شأنك ..نعم وأخذها على مسؤوليته ولم امكّنها من حضور الدورة التكوينية لانها بالنسبة لي لا تصلح للعمل الاذاعي بتاتا… وهي على فكرة الان مرسمة وتشتغل … ليس ذلك فقط بل تعتبر نفسها وخاصة بعد 14 جانفي نجمة النجوم …رغم انّ نوعيّة ما تقدّمه لا يختلف كثيرا عن احاديث النسوة في حمّام او احاديث بعض الرجال في لعبة البازقة… كلّ ذلك لن يمنعني من القول انّ الفترات الذهبية التي عاصرتها كانت ثلاثا…

اذ انّي لم اعاصر فترتي المؤسس الباعث عبدالعزيز عشيش رحمه الله ولا التوفيق الحشيشة اطال الله عمره… لذلك كانت الاولى التي عاصرتها مع المرحوم قاسم المسدّي، والثانية مع المرحوم محمد عبدالكافي، والثالثة مع المرحوم عبدالقادر عقير .. القاسم المشترك بينهم، نشاط حثيث لا يكلّ ..كانوا ما شاء الله قادرين على العمل طيلة 16 ساعة دون انقطاع… ثم كانت لهم رغبة جامحة في تطوير العمل الاذاعي كل من زاوية رؤيته الخاصة به ..لذلك وهذا عايشته معهم، كانوا لا يتوانون لحظة واحدة في تجميع الكفاءات الثقافية بالجهة لدعمها وللارتفاع بمستوى المنتوج .. وكذلك للاخذ بيد الطاقات الشابة وتشجيعه. . وللامانة نجحوا في ذلك ايما نجاح … اليس كذلك احمد الشايب ؟؟ اتفهّم عرفانك له بالجميل… ولكن هنالك اشياء لا تقلّ اهميّة تطبع مسيرة ايّ مسؤول بايجابياتها نعم، ولكن بسلبياتها ايضا ..

وهذه في تفاصيلها يعرفها فقط من عاشر السيد عقير وعاضده عن قرب .. وسادوّن العديد منها في الورقتين 99 و100 ..كموثّق لما عشته معه ..اذ انّ مبدأ هذه الورقات منذ عددها الاوّل: التوثيق لكلّ ما عشته وعاشه معي جيلي والله وحده يعلم صدقي وامانتي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار