جور نار
ورقات يتيم… الورقة 95
نشرت
قبل شهرينفي
عبد الكريم قطاطة:
بعض المدن نزورها ونسكنها مرّة واحدة في العمر … ولكنّها تسكننا العمر كلّه … كما وعدتكم ساخصص هذه الورقة لدمشق لانها تستحق وعن جدارة …
زيارتي لدمشق الفيحاء او مدينة الياسمين كانت سنة 1996 … كان ذلك اثر اختياري من مؤسسة التلفزة التونسية لامثّل بلدي في دورة تكوينية حول اخراج البرامج والمباريات الرياضية، يشرف عليها الاتحاد العربي للاذاعة والتليفزيون بفرعه في دمشق… كنت سعيدا جدا بهذا التعيين ومشتاقا لدمشق بالذات كواحدة من اقدم العواصم في التاريخ وخاصة كحضن لتاريخ عربي يضجّ بالاحداث… لعلّ ابرزها حين كانت عاصمة للامويين …
عندما نزلت في مطار دمشق اوّل ما لفت انتباهي طريقة حوار السوريين بين بعضهم البعض … كنت مستغربا جدا من علوّ أصواتهم وكان يُخيّل لي انهم في خصام دائم… ثمّ اكتشفت فيما بعد انهم هكذا… ولتقريب الصورة لكم هل تذكرون مسلسل باب الحارة ؟؟ انهم تماما كما في باب الحارة… المشهد الثاني الذي اثار اهتمامي شكل البناءات في دمشق… دمشق حافظت على طابعها المعماري القديم… قليلة هي البناءات من طراز ناطحات السحاب بل لا اذكر انّي رايت واحدة منها… هي كتونس العاصمة او سوسة او صفاقس داخل الاسوار… لكن دمشق هي كما هي داخل الاسوار او خارجها … المنازل الدمشقية تشبه كثيرا منازلنا وابراجنا القديمة… هي غير مغطاة ومزدانة بغراسات الازهار المتسلقة للحيطان داخلها ومن بينها الياسمين …
في المطار استقبلتني السيارة التابعة للاتحاد العربي للاذاعة والتليفزيون واوصلتني الى نزل في قلب دمشق… وقال لي الاخ السوري هذا هو النزل الذي بتعامل معه الاتحاد العربي ولكنك لست مجبرا على السكنى فيه ..وغدا سآتيك صباحا لاخذك لمكان التدرب … النزل كان من نوع النزل القديمة عندنا في المدينة العتيقة ..متواضع للغاية ولكنّه مريح … دمشق تتوسطها ساحة اسمها ساحة المرجة… وفيها عديد المتاجر وعديد المطاعم… وما يكاد الواحد يخطو بعض الخطوات حتى تملأ انفه رائحة لم اعرفها في البداية… ولكن لاني متعود ان اسال عن كل ما اراه او اسمعه او ما اشمّه اكتشفت انّ السوريين لا يستعملون الا السمن في اطعمتهم عوضا عن الزيت… واكتشفت ايضا انّ الزبون في ايّ مطعم يطلب ما لذّ وطاب وباثمان زهيدة للغاية…
ثمّ اكتشفت فيما بعد بالنسبة لنا كزوار ان كل شيء زهيد الثمن بما في ذلك الذهب والجواهر، وكم هو الفستق السوري مثلا مدهش اولا من حيث الحجم، تقولشي كعبة فول… ومن حيث الثمن… وحتى اقرّب لكم الامر يثمن مائة غرام فستق في تونس يمكن لك شراء كيلوغرام … لكن بالنسبة للسوري عموما فانّه لا يقدر على التمتّع بعديد الاشياء في حياته نظرا لدخله الشهري المتواضع جدا… لكن مقابل ذلك كان النظام السوري يقوم بدعم كل المواطنين دون استثناء في ثلاثة مرافق… الكهرباء والهاتف والماء… هذه المرافق كانت مجانية بالنسبة للمواطن السوري (زيدو قولو آل بشّار مشومين)… خاصة اذا اخذنا بعين الاعتبار موقع سوريا كبلد مجاور لاسرائيل، والميزانية المخصصة لوزارة الدفاع السورية ..
لكن وللامانة العلمية نظام بشار كان نظام مخابرات بامتياز … حيث بين البوليس السرّي والبوليس السرّي نجد بوليسا سرّيا… هذا الواقع عشته عندما كان معنا في التدورة التدريبية احد السوريين… نشأت بيني وبينه علاقة ود حميمة وكان يجيب عن اسئلتي دون خوف او وجل… ولكن ومنذ الايام الاولى حذّرني من امر هام… اسرّ لي بانه يمكن ان اعيش بامن وامان اذا الجمت لساني عن الحديث في السياسة… هذا اولا وثانيا طلب منّي بكلّ ودّ ان لا اتجاذب معه في حضور سوري اخر اطراف الحديث عن السياسة … مما اثار دهشتي ايضا في دمشق ميزة ما وجدتها الا في المدينة المنورة… السوري تاجر جميل وذكي جدا… يستقبلك اينما كنت في سوق الحميدية مثلا (وهو اشهر اسواق دمشق) بالمرحبا وعالسلامة ويودعك بنفس الحرارة حتى ولو انزلت كلّ بضاعة دكانه ولم تشتر شيئا …
لم تتجاوز اقامتي بالنزل اكثر من يومين حيث اقترح عليّ بعض الاشقاء العرب مشاركتهم السكنى في المنزل الذي اكتروه للغرض … وقبلت وبكل ترحاب لانّ ثمن ليلة واحدة في النزل يساوي ثمن اسبوع كامل مع الاشقاء .. لكنّ الامر لم يدم طويلا ..لسببين… اولهما هو انني واثناء درس تطبيقي في الدورة عبرت عن اعجابي بما قدمه شقيق كويتي ..وهو ما اثار حفيظة وقلق بعض الاشقاء خاصة من الاردن واليمن… اي نعم كيف لي ان امدح عمل كويتي ؟؟ ارتأوا في الامر غرابة… الكويتي بالنسبة لهم “نذل من انذال العرب” اذن من العيب ان نمتدح ما يقدّم من اعمال .. نعم وانا كنت ومازلت ارفض مثل هذه المواقف ..وللامانة لي ولحدّ الان من الاصدقاء من يقلقون اذا تحدثت عن شخص لا يرون فيه الا الجانب الاسود … ربي يشفيهم ..
السبب الثاني الذي جعلني اغيّر موقع اقامتي، اتّصال احد مستمعيّ بي وهو مقيم كطالب في دمشق ليعرض عليّ السكنى بمنزله الذي يتسوغه مع تونسي اخر… هذا الصديق هو زميلي الان فيصل القاسمي… ورفض هذا الزميل وصديقه ان اقاسمهما ثمن إيجار المنزل… اي اتممت مشوار اقامتي ضيفا بينهما… شكرا فيصل وشكرا لصديقه الذي ابى الا ان يتحوّل معي الى المطار يوم عودتي من دمشق… يومها الديوانة السورية وكضريبة عن وزن المحمولات التي عندي، طالبتني بدفع مائة دولار… ولم يكن وقتها بمقدوري ذلك… تقدّم هذا الصديق وسدّد المبلغ وقبلت الامر شريطة ان اعيده الى احد افراد عائلته في تونس وكان ذلك…
دمشق هي مدينة تفوح بتاريخها وبمعالم تاريخها… ففيها ضريح صلاح الدين الايوبي بطل تحرير القدس وكيف لا ازوره والثم ضريحه… خاصة في زمننا هذا الذي قلّ فيها الرجال الابطال… وفيها الجامع الاموي الذي بناه عبد الملك بن مروان… هذا الجامع اكتشفته واكتشفت عظمته ليلا عندما دعاني صديقي السوري لقضاء سهرة باحد ملاهي دمشق … مكان ذلك الملهى كان بضاحية من ضواحي دمشق (هضبة قاسيون) والتي يقال عنها انها كانت مهبط ادم على الارض… طريقها جبلي تشبه لحد كبير الطريق الجبلية الرابطة بين اميلكار وسيدي بوسعيد… وهذه الطريق تُسمى شارع العشاق… وهو اسم على مسمّى… نعم هنالك “يتكوبل” السويرون لكي يهضموا ما اكلوه في عشائهم… او لكي ينعموا باطباق لذيذة من اطعمة العشق… وكل كوبل لاهي في نوّارو… وعلى عينك يا بنّاني… لو راتهم احدى جداتنا او امهاتنا لقلن عنهم (وفات الحشمة والجعرة اللطف)… الحشمة افهمها اما (الجعرة) فتبقى عندي كلمة مبهمة …
الملهى الدمشقي وكسائر الملاهي غربّية كانت ام عربيّة بما في ذلك الموجودة في مكة هذه الأيام… فيها ايضا ما لذّ وطاب من الاطعمة والمشروبات البريئة وغير البريئة وفيه ايضا العديد من المؤنسات… على شاكلة اخت سعيد صالح في العيال كبرت واللي تفتح للزبائن… لكن ما لفت انتباهي عند وصولي مع الصديق السوري ان حرّاس الملهى قاموا بالتحيّة العسكرية لهذا الصديق السوري ثمّ وبعد انقضاء السهرة لم ندفع لو ليرة واحدة سورية … وعندما نظرت اليه فهم انني عرفت من هو وابتسم كلانا لصاحبه دون كلمة واحدة… اي نعم هو كان احد اعوان المخابرات الذي رافقنا على امتداد الـ 21 يوما التي قضيتها في دمشق …
دمشق عشتها بكلّ عشق ..لانّها مدينة تتعلّق بك ربما اكثر مما تتعلّق بها… عانت الكثير عبر تاريخها ويبدو انّ قدرها المعاناة الدائمة… تذكّروا فقط ما فعله الدواعش فيها وبها ايّام كذبة الربيع العربي… قد نتفق مع آل الأسد او نختلف ولكن وتلك هي قناعتي… لو كان من يحكمها اثناء كذبة الربيع العربي عمر بن عبد العزيز لحدث لها ما حدث مع بشار…
23 اوت 2024
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
جور نار
حين يصرخ الـ”تشات جي بي تي” قائلا: “عيش خويا نقعدوا بالقدر”!
نشرت
قبل يومينفي
4 فبراير 2025من قبل
محمد الأطرش Mohamed Alatrashمحمد الأطرش:
بعد أن أتحفتنا بلاد العمّ سام بالتشات جي بي تي خرجت علينا الصين بالديب سيك، لم تعد الحرب اليوم بالصواريخ والطائرات فقط… الحرب أصبحت حرب عقول وحرب ذكاء فهل استعد العالم لما قد سيحدث غدا، أم ستقودنا بلاد العام سام في حربها التكنولوجية مع الصين إلى حيث لا نعلم ولا نحلم حتى؟؟
للذكاء الاصطناعي تطبيقات هامة ومفيدة في التعليم، والصناعة، والصحة، والنقل، وكل القطاعات الفكرية والأدبية والثقافية والرياضية والعلمية وصولا إلى العسكرية… فالذكاء الاصطناعي قد يتحكّم مستقبلا في الحروب وفي تطوير الأسلحة…كما قد يتحكّم في مصير الحكومات والدول والرؤساء والشعوب… ألم يساهم الذكاء الاصطناعي في حرب إبادة عشرات الآلاف من إخوتنا في القطاع… والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم كيف سيتعامل العرب والمسلمون مع هذا التطور التكنولوجي… وهل أعدوا له ما يجب ومع أي طرف سيتعاملون مع الماما أم مع الصين… وهل سيستثمر العرب والمسلمون في الذكاء للخروج مما سقطوا فيه اليوم من غباء بعد مجد أسلافهم وما تركوه؟
ألم يكن منهم أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي الذي يعد من أشهر علماء العرب وأبرزهم في الفلك، ومن أوائل علماء الرياضيات، كما برع في علم الجغرافيا… ألم يكن منهم أيضا أبو يُوسُف يعقوب بن إسحاق الكندي، ويُعرف عند الغرب بـ “Alkindus” تميّز بكونه من أشهر العلماء العرب في الرياضيات، إلى جانب إلمامه بمختلف جوانب العلوم الأخرى… تميز في علم الفلك والفلسفة والبصريات والطب والكيمياء والموسيقى…ألم يكن منهم جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي من علماء العرب المسلمين، برع في علوم الكيمياء والفلك والهندسة والمعادن والفلسفة والطب والصيدلة… ألم يكن منهم أبو علي الحسين ابن سينا، عالم شهير في مجال العلوم الطبيعية والرياضيات، ويُعد ابن سينا من أكثر الشخصيات المؤثرة في مجال الطب في العالم الإسلامي وأوروبا في القرون الوسطى، كانت كتبه وبحوثه تُدرّس في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر… ألم يكن منهم أيضا أبو بكر محمد بن زكريا الرازي طبيب عربي مسلم وكيميائي وفيلسوف من أشهر علماء العرب وكان من أعظم وأهم الأطباء في عصر العلوم الذهبي الإسلامي، عاش حياته بين القراءة والتصنيف، وقيل إنه فقد بصره من كثرة القراءة، ومن إجراء التجارِب الكيميائية في المعمل… فهل أعددنا نحن العرب المسلمون العدّة لنتعامل مع الذكاء الاصطناعي تعاملا يفيد مستقبل اجيالنا القادمة ويخرجنا مما نحن فيه؟؟
في الغرب هناك، تسلل الذكاء الاصطناعي إلى كل شيء… تسلل إلى البيوت والمطابخ… واصبح يتحكّم في ذوقك وما تريد… يقترح عليك وصفات مخصصة، ويختار لك مكوناتها وكيف تستفيد منها صحيا… يختار لك وعوضا عنك بعض المأكولات، يساعدك في اختيار ملابسك، ينجدك في ايجاد الحلول للعديد من المشاكل والمآزق… هناك في الغرب أصبح الذكاء الاصطناعي يراقب كل ما يقع على الأرض ويتدخل في كل ما يفعله الانسان ويخطط له… هناك قد يتنبأ بنتيجة مباراة في كرة القدم بين برشلونة والريال… وقد يقترح على المدرب والاطار الفني بعض الخطط التكتيكية أيضا… هناك اصبح وسيصبح الذكاء في قادم السنوات المتحكّم والآمر الناهي لكل ما يفعله الانسان… فلا غرابة إن تسلل حتى إلى غرفة نومك ليعرف من تعاشر وليقترح عليها احمر شفاه وعطرا يفقدك عقلك ويسحرك (يذهب شيرتك بلهجتنا)… الذكاء الاصطناعي قد يعرف حتى مع من تنام وقد يوثق ذلك في ألبوم صور، وقد يقترح عليك وضعية ملائمة وطريقة مناسبة وموعد المعاشرة وتوقيتها أيضا إن كنت تبحث عن إنجاب صبي (يتربى في عزّك ان شاء الله) وقد يساعدك على اختيار اسمه ويساعدك على مراقبته ونموه وتعليمه ويراقب معك صحته ويقترح أكله ولباسه… هناك لست في حاجة إلى من يصاحب ويرافق ابنك إلى المدرسة فكل الشوارع مراقبة بالذكاء الاصطناعي… وأينما تأخذكم أرجلكم يعترضكم حراس الذكاء ويراقبونكم أعوانه ويعلمون عنكم وقد يسألونكم أين أنتم ذاهبون؟
نعم، هناك سيعلم الذكاء الاصطناعي عبر آلياته ووسائله وتقنياته المنتشرة في كل أرجاء المدن والقرى والأرض والسماء بكم وبما تفعلون وسيسجل كل تحركاتكم وما تأتون وما حتى تضمرون… ويكشفكم ونواياكم ويبلّغ عنكم إن علم أنكم تتآمرون… هناك أيضا يعيد الذكاء الاصطناعي كتابة تاريخ البعض كما يريدون، وكما كانوا يحلمون ويطمحون… هناك يكتب خطب الرؤساء والشيوخ والملوك… ويزيّف نتائج الانتخابات بالصندوق… وهناك أيضا يكتب مقالات تحليلية لكبريات الصحف وأقسام الاخبار التلفزيونية… هناك… نعم هناك، سيفقد الانسان مئات الآلاف من الوظائف وسيتحكّم الذكاء الاصطناعي في كل ما يدور على هذه الأرض… وسيجوع البعض… ويموت البعض… ويبقى من يختاره الذكاء… ويشقى من تميّز بالغباء….
أردت أن اختبر قدرة الذكاء الاصطناعي بنسختيه الصينية والأمريكية في مواجهة جهابذة الذكاء العربي، فطلبت من صديقين يجلسان على نفس طاولتي في المقهى اختبار ذكاء التشات جي بي تي والديب سيك… سأل أحدهما الـ”تشات جي بي تي” وقال له في إطار الصخب واللغط الذي تسببت فيه كلمة نكاح في عنوان أطروحة دكتوراه، والمقصود بذلك من صاحب الأطروحة (الزواج طبعا): “ما هو النكاح يا عمّ التشات؟؟” أجابه التشات جي بي تي ساخطا:” روح……….أمك يا طحـ…عيش خوي نقعدوا بالقدر”… صرخ صديقي بأعلى صوته فأدار رقاب كل من بالمقهى إلى حيث نجلس وقال:” بالحرام ما يطلع كان تونسي ولد الحرام هالتشات جي بي تي!”… ضحكنا ملء اشداقنا وطلبت من صديقي الثاني التوجه بسؤال إلى الديب سيك الصيني فقال له: “هل تعرف ما تعنيه كلمة “طحّان” وكان يقصد العامل بالمطحنة”… فأجابه ساخطا الديب سيك “ما طحّان كان انت…يا طحّان!”… وخرجنا من المقهى ونحن على يقين ان من أبدعوا الذكاء الاصطناعي هم من أبناء عمومتنا وإن أنكروا ذلك… قلت وأنا أجتاز باب المقهى: “اللي يغلبنا يجي يحاسبنا”… وأضاف صديقي: “حليل أم (سام ألتمان) مؤسس شركة “أوبن إيه آي”، وحليل أم (ليانغ ون فنغ)، مؤسس شركة DeepSeek”… وضحكنا… ضحكنا… حدّ البكاء…
عبد القادر المقري:
هل هو هتلر جديد؟ نيرون جديد؟ فرعون معاصر؟ حجّاج دون عمامة وبشعر أصفر ووجه شبعان وعينين ساخرتين من الجميع وقرارات لا تجامل صاحبا ولا تعترف إلا بالقوة والأقوياء… إنه الملياردير الذي أوصلته سمسرة العقارات إلى الثروة الطائلة، وسمسرة السياسيين إلى سدة الرئاسة… امتلك في حياته كل شيء… المال الوفير، الشهرة، النفوذ، الإعلام، حسناوات بلا حساب، وأخيرا مكتبا بيضاويا يحكم الكرة الأرضية وما جاورها، ولم يحتلّه قبله سوى 47 شخصا، أحدهم هو نفسه في عهدة أولى… ومن يكون غير دونالد ترامب؟
وسواء مع رئاسته السابقة (2017 ـ 2021) أو على مشارف رجعته مؤخرا، كانت وعوده الانتخابية ترعب أعتى الأفئدة، خاصة والجميع يعرف أنه إذا وعد ـ أو توعّد ـ وفى… وها أنه يجلس ثانية على كرسي جورج واشنطن ويبدأ مباشرة في إمضاء طوفان من الأوامر التي لا تبقي ولا تذر… بل هو لم ينتظر حتى الجلوس في بيروه الرئاسي، بل وفيما ما يزال سائرا في الطريق إليه، توقف برهة أمام أنصاره، ونادى معاونيه أن إيتوني بطاولة وقلم وإضبارة بها عشرات مشاريع النصوص الجاهزة للإمضاء، ونزل عليها صحح صحح بشكل احتفالي وسط تصفيق وهتاف أنصاره… وكيف لا يكبرون له وأول إمضاءاته كان على مذكرة بالعفو عن مقتحمي (ومخربي) مبنى الكونغرس المهيب الذي داسوه بالأرجل والحوافر في جانفي 2021… وهي سابقة فغرت لها الأشداق في العالم المصنّع…
بقية القرارات كانت وتستمر لا تسر عديدين… امتطى حصان أقصى اليمين في أي مكان واستفتح بموضوع الهجرة… أوقف إسناد التأشيرات وأغلق مكاتب اللجوء وأمر بطرد ملايين المكسيكيين والكولومبيين والكوبيين وغيرهم من فقراء جنوب القارة… فتح جناحا من قاعدة غوانتنامو معتقلا لحبس نسبة من هؤلاء المهاجرين… أوقف المساعدات الاجتماعية والمنح التي كانت تصرف لمنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني عامة… كسر قاعدة العمل عن بعد وأعطى مهلة قصيرة جدا للمستفيدين منها حتى يعودوا إلى مكاتبهم وإلا فالشارع بانتظارهم… أقال عددا من القضاة وضباط مكتب التحقيق الفيدرالي الذين لاحقوه سابقا ومعهم وسائل إعلام… انتقم من كل من له علاقة بحملة فيروس كورونا التي تسببت في سقوطه بعد العهدة الأولى… ألغى كافة حقوق الأقليات دون تمييز… ألغى الدعم على استهلاك الطاقة النظيفة بما فيها السيارات الكهربائية رغم تخصص أقرب أصدقائه (إيلون ماسك) في صنعها… نسف كل الإجراءات المتعلقة بحماية البيئة وانسحب من اتفاقية باريس حول المناخ… قطع الدعم عن منظمة الصحة العالمية وأخرج بلاده من عضويتها…
وما دامنا دلفنا نحو الباب الخارجي فهات ما قرره في شأن العلاقات الدولية… فقد بدأ بأقرب البقاع إليه إذ أرسل الجيش الأمريكي لمراقبة الحدود الطويلة مع المكسيك… في انتظار استكمال جدار عازل بطول 150 3 كيلومترا وعلو 8 أمتار مدججة بكامبرات المراقبة والأبراج والحراس المسلحين… وزاد على معاقبة المكسيكيين بفرض رسوم جمركية باهظة على كل ما يرد منهم… نفس الشيء فعله مع جارته الشمالية كندا التي أضاف إليها التحرش والتهديد باحتلالها هكذا… وعبر عن نفس الرغبة التوسعية أبعد من كندا، إلى جزيرة غروينلاند في القطب الشمالي… وفي نفس مادة الجغرافيا ألغى من الخرائط تسمية خليج المكسيك وأطلق عليه اسم أمريكا… تصدق أو لاتصدق؟ لا، صدّق فالرجل وعّاد وفّاء كما أسلفنا… وهاهو يفرض رسوما أخرى مرتفعة على الصين (عدوته الأثيرة) ويهدد الاتحاد الأوروبي ويسحب الدعم عن دلال أوكرانيا ورئيسها ثقيل الظل…
إسهال من القرارات التي كل منها يذهلك أكثر من الآخر، يصدرها بسهولة واطمئنان هائلين، ولا يهمه حتى إن تضاربت وتناقضت… مثل ما ذكرناه عن السيارات الكهربائية وإيلون ماسك الذي رغم أنه مهاجر جنوب إفريقي إلا أنه صديقه المفضل وداعمه الأول بنفوذه وثروته الأولى عالميا والمتجاوزة 500 مليار دولار… هنا لا تهمّ الجنسية الأجنبية فالدولار جنسية في حد ذاته… كما أن ترامب يكره الصين والصينيين ولكنه يجمّد أمرا بحظر منصة تيك توك واسعة الانتشار بل ويدعو مديرها ضمن ضيوفه المبجلين في حفل التنصيب… ترامب كأي يميني متطرف يتطيّر من الشيوعية وبقاياها ورائحة رائحتها، ولكنه مع ذلك معجب جدا بفلاديمير بوتين وبرئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون… ولكن الثابت الوحيد في سياسته دون أي تناقض أو تضارب أو تراجع… المساندة العمياء للكيان المحتل وتلك قصة مزمنة مع كافة رؤساء أمريكا دون استثناء، ورغم كافة “الاستثناءات” التي يحفل بها ملف ترامب وسيرته ومواقفه…
ما يشدنا أكثر في كل هذا، نواح الصحافة العربية على الاتحاد الأوروبي وما سيعانيه جيراننا الشماليون من سياسة ترامب الحمائية واللامبالية تماما بمصير هذا الهيكل الخارج عن الزمن والذي اسمه الحلف الأطبسي… ترامب لا يريد أن يكون الأم تيريزا ولا الأب بيار ويرفض فصاعدا أن ينفق على غير أبناء بلده،،، أما الحلفاء فلهم الله وما عليهم سوى أن يصرفوا على أمريكا بعد أن صرفت عليهم ثمانين سنة… انتهى مشروع مارشال وانتهت المساعدات وانتهى التمييز الإيجابي الذي كانت به تحظى القارة العجوز وربما معها غدا اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية… تبكي الصحافة العربية على مصير أوروبا ولا أفهم سببا لذلك سوى أنها تنسخ وتلصق وتترجم وتتبنى ما ينشر في صحف فرنسا ألمانيا وإيطاليا… والحال أن هؤلاء ليسوا الأجدر ببكائكم يا كتبة المجاري…
لا، لا تبك يا حبيب العمر… فأوروبا الغنية القوية قد ترتعد سنتين ثلاثا أربعا من حكم ترامب، قد تصيبها خدوش وكدمات من ضرباته وضرائبه، ولكنها لن تفلس ولن تسقط… لماذا؟ لأنها وإن رزحت تحت عدوانية ترامب وقدمه الثقيلة، فإنها ليست في أسفل العمارة بل في وسطها… إذ توجد تحت قدمها بدورها طوابق أخرى ورقاب هي رقابنا… نحن سكان جنوب المتوسط وجنوب العالم وجنوب الحضارة وعمق الأرض والقبر… بائسين يائسين منذورين لدفع الجزية وتعويض الخسارة لمن فوقنا… فإذا كانوا هم (أي الأوروبيين) تحت نعال ترامب وابنته إيفانكا (التي فتح لها الأعراب بنكا)، فإننا تحت التحت، وتحت تحت التحت، كما قالت مسرحية الأخوين رحباني ذات سنة…
محمد الأطرش:
تساؤلات كثيرة أصبحت على كل ألسن المتابعين للشأن السياسي العالمي بعد عودة ترامب في نسخة طغى عليها خطابه “الامبريالي” التوسعي… وتميزت بحجم من حضروا من عمالقة الطاقة والفِكر الرقمي والذكاء الاصطناعي وأحاطوا بالساكن الجديد للبيت الأبيض يوم تنصيبه… فهل انتقلنا مع عودة “المستر” ترامب إلى عالم أكثر عنفا من كل ما عشناه سابقا حيث تتنازع كل القوى الكبرى دون استثناء على الموارد والثروات، في ظل تغيّر المناخ إلى ما هو أسوأ وفي زمن تشهد فيه الديمقراطية انحسارا في مواقعها ومستوطناتها وضيقا في مساحة تواجدها؟
هل يمكن أن يسعد سكان غرينلاند بالأمن الذي يستمتعون به الآن وهم يستمعون إلى التصريحات العدوانية لترامب وهو يكشّر عن أطماعه؟ هل يمكن ان يتذوقوا طعم النوم وهم ينامون على مليارات الأطنان من الموارد والثروات الباطنية الثمينة والنادرة التي تسيل لعاب العم سام وحفيده ترامب…؟ وهل يمكن ان يبتسموا وهم يشعرون بأنهم محاصرون في إطار لعبة جديدة بين بلاد العم سام والصين وروسيا؟ هل يمكن أن يشعر سكان غرينلاند بالأمن وهم يعيشون تدهورا مناخيا كاملا أذاب الجليد الذي كان يحميهم من النهب الامبريالي ومن أطماع القوى الكبرى؟ هل يمكن أن يبتسم سكان غرينلاند وهم مهدّدون بفتح طرق نهب تجارية وامبريالية جديدة على أراضيهم بعد أن أذاب تغيّر المناخ الجليد الذي كان يأويهم ويحميهم، فهل سيأمنون شرّ هذه الطرق وشرّ من فتحها؟
هل عاد ترامب بهدف واحد (محاولة الاستيلاء على العالم) من جديد؟ وهل يمكن اعتبار ما سيعيشه العالم في قادم السنوات مقدّمة لتوسع امبريالي كبير سيدفن المنافسة الحرة إلى الابد؟ هل ستعود القرصنة البحرية إلى تاريخها “المجيد” وتتسلح البواخر التجارية بصواريخ مضادة للطائرات ومسيّرات لتحمي نفسها من قراصنة الدول الكبرى والصغرى، والقراصنة الذين يعملون بالمناولة لحساب الدول التي لا تقدر على مزاحمة القوى الكبرى في نهب خيرات الدول الصغرى وغير القادرة على حماية تجارتها من “الحيتان الكبيرة” للإمبريالية العائدة والجديدة؟
أمام كل هذا الذي يجري في العالم، وأمام صراخ ترامب وتهديده اليومي بما سيوجع كل الدول التي قد ترفض ما يراه ويريده في نسخته الجديدة، كيف سيكون حال بقية دول العالم؟ فهدف ترامب الواضح نسبيا هو إعادة مجد الماما وسطوتها التجارية والاقتصادية والأهمّ بالنسبة لحفيد “العمّ” إعادة القدرة الشرائية لسكان الماما، والسبيل الوحيدة والأيسر لتحقيق ذلك هي الاستحواذ على كل الثروات الممكنة والمتاحة وأهمها خفض سعر البنزين لأحفاد العم سام محليا، وبالتالي أسعار النفط عالميا… ولن يكون ذلك دون تحفيز الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة وإغراق السوق العالمي كما أعلن ذلك أمام كل العالم في خطابه يوم تنصيبه متوجها لشباب بلاد الماما “احفر يا صغيري، احفر” ” Drill, baby, drill ” علما وأن الماما هي أكبر منتج في العالم… ولن يتوانى ترامب في نسخته الامبريالية الجديدة في الضغط على الدول المنتجة للنفط لكي تتخلى عن حصصها في الإنتاج، وقد يذهب إلى حدّ التهديد والوعيد لتحقيق ذلك… ويراهن ترامب كثيرا في مخططه هذا على من هم بصفّه من دول الخليج… فدول الخليج تعيش رعبا (أضمرته سياسات الماما) من عودة الفرس إلى اطماعهم ولن يغامروا برفض كل ما تطلبه النسخة الجديدة من ترامب… فهو الوحيد الذي قد يساعدهم ويدعمهم في مواجهة أطماع حكام طهران في توسيع النفوذ الفارسي وإعادة المجد لكسرى الثاني ابن هرمز…
والسؤال الأخطر هو هل تملك أوروبا وبقية دول العالم بعض الأوراق الرابحة لتقف في مواجهة أطماع “المستر ترامب”؟ وهل لها القدرة على الخروج بأخف الاضرار وهي التي أصبحت اليوم بين مطرقة العمّ سام وما يريده وأطماعه التي أعلن عنها في خطاب تنصيبه وقبله غربا، وسندان شي جين بينغ ومن معه وفلاديمير بوتين ومن يسانده شرقا؟ فبوتين يملك الغاز والكثير من الثروات الباطنية ليساوم بها من يريد كما يريد، والصين تمتلك على أراضيها وفي من يجاورها من الدول التي تدعمها وتناصرها في حربها الاقتصادية والتجارية، كل المعادن والثروات الضرورية والإمكانات التقنية والعلمية والرقمية لتحافظ على مكانتها الاقتصادية…
ماذا يريد ترامب حقّا بما صرخ به طويلا وأمام أنظار كل العالم؟؟ فهل يسعى دونالد للانقلاب على النظام الدولي الحالي الذي شكلته الماما ومن معها إثر نهاية الحرب العالمية الثانية وهيمنت عليه منذ 1945؟ وهل قررت بعض الدول الضامنة لهذا النظام العالمي والراعية له في مجلس الأمن الدولي اسقاط النظام الدولي الذي تحميه وترعاه؟ وهل يمكن اعتبار ما تضمره الماما لبعض من كان معها ولبقية دول العالم انقلابا على ما كانت أسسته وهيمنت عليه منذ حوالي القرن؟
الغريب في كل ما يعيشه العالم في السنوات الأخيرة أن من يريدون الانقلاب على النظام العالمي الذي أسسوه ليسوا حلفاء ولا أحد يضمر خيرا للآخر، جميعهم يريدون السيطرة على هذا العالم بشكل أو بآخر… وجميعهم أعلنوا الحرب اقتصاديا وتجاريا على بعضهم البعض… فـ”شي جين بينغ” اليوم ليس ذلك الذي عرفناه سابقا، والصين ليست صين ماو التي عرفناها، وفلاديمير بوتين ليس فلاديمير الذي الفناه سابقا، وروسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي سابقا… وترامب في نسخته الجديدة مخالف تماما لنسخته القديمة… وجميعهم يريدون السيطرة على العالم، فالصين تريد غزو العالم تجاريا واقتصاديا وقد تستعمل كل أسلحتها التجارية والعلمية والتكنولوجية للتفوق على الجميع والاستحواذ على كل الأسواق الممكنة للسيطرة على العالم… وروسيا تريد أن تعيد مجد السوفيات سابقا من خلال استرجاع من كانوا يوالونها ومن كانوا تحت سيطرتها اقتصاديا وتجاريا وربما يصل الامر إلى الحلّ العسكري إن لزم الأمر… ففلاديمير مصاب بجنون من سبقه من زعماء الاتحاد السوفياتي، ألم يكن احد اعوانهم قبل أن يحطّم غورباتشوف جدار برلين بعد أن أغراه ريغن بمعسول الكلام؟ أما ترامب السعيد بعودته إلى البيت الأبيض فإنه يريد إعادة ما وقع سنة 1812 حين هاجم الأمريكيون البريطانيين في الشمال، محاولين طرد من ينعتونهم بالمستعمرين الأوروبيين من قارتهم فهم يعتبرون كل القارة لهم وباسمهم، كانوا يريدون ضمّ كند وتحويلها إلى ولاية من ولاياتها لكنهم فشلوا ونجحت كندا في أن تصبح دولة مستقلة إلى يومنا هذا… كما يريد دونالد المسكين الاستحواذ على قناة بنما للاستئثار بمداخيلها، وسال لعابه أيضا على ثروات غرينلاند مجاهرا بأنه يريدها ولا أحد سيمنعه منها…
هكذا تحوّل حماة ورعاة النظام الدولي إلى قراصنة يريدون اقتسام ثروات العالم وتمتيع شعوبهم بخيراتها دون غيرهم… هكذا عاد العالم إلى عقلية “قانون الأقوى”… ألم يقترح ترامب وكأنه الآمر الناهي، أقول ألم يقترح دون خجل من اقتراحه نقل أو تهجير مليوني فلسطيني من غزّة إلى دول عربية مجاورة… وقد ينجح في ذلك فلا غرابة أن يرفع بعض زعماء الدول العربية المجاورة اياديهم مرحبين مهللين راقصين مزغردين بمقترح مولاهم “دونالد”… فهل أصبح الربّان قرصانا في زمن ترامب وخلاّنه؟ وهل سيصرخ بعض العربان “جاكم القرصان يا ڤدعان”؟؟
ردّا على ترامب ونتنياهو… السعودية: لا تطبيع قبل الدولة الفلسطينية
بعد الاستيلاء على غزة… حكومة الاحتلال: لا مجال بعد الآن لدولة فلسطينية، إلا في بلد عربي!
المخطط الصهيو أمريكو خليجي… بين تهجير الفلسطينيين وتوطينهم
حين يصرخ الـ”تشات جي بي تي” قائلا: “عيش خويا نقعدوا بالقدر”!
الصين في مواجهة “عقوبات” ترامب الاقتصادية
استطلاع
صن نار
- فُرن نارقبل 5 ساعات
المخطط الصهيو أمريكو خليجي… بين تهجير الفلسطينيين وتوطينهم
- جور نارقبل يومين
حين يصرخ الـ”تشات جي بي تي” قائلا: “عيش خويا نقعدوا بالقدر”!
- اقتصادياقبل يومين
الصين في مواجهة “عقوبات” ترامب الاقتصادية
- صن نارقبل يومين
بعد إغلاق موقعها الإلكتروني… هل يغلق ترامب وكالة المساعدات الأمريكية (USAID)؟
- صن نارقبل يومين
سوريا… تفجير سيارة مفخخة تستهدف نساء عاملات
- صن نارقبل يومين
مخالفا سياسة رئيسه ترامب… وزير الخارجية الأمريكي الجديد يستفز كوريا الشمالية
- صن نارقبل يومين
الضفة وكرة النار… الاحتلال يعدم 70 فلسطينيا خلال شهر واحد
- داخلياقبل يومين
شط مريم… التوعية المرورية في ورشة تستهدف التلاميذ