يقول الكاتب ميلان كونديرا: “لو كانت لكل شخص إمكانية القتل خفية و عن بعد، لاندثرت الإنسانية في دقائق” … و هذه فرضية واحدة هناك غيرها، و لكن المفزع أن الواقع يفوق الخيال أحيانا … و قد جُرّب ذلك و رأينا ماذا يحدث كلما خلا الجبان بأرض …
لا يا جدنا عبد الرحمن، بل الإنسان “دمويّ” بالطبع من دون كل الكائنات مهما شرُست … لم نسمع في أدغال قارتنا مثلا بقبيلة أسود أو نمور أبادت كافة الغزلان و حمير الزرد، أو بصقور و عقبان أفرغت السماء من أسراب السنونو العائدة مع الربيع … و لكن كل هذا الطيف العامر ألوانا و أصواتا و طرائق عيش، صار مهددا بالانقراض ـ بل انقرضت منه أجناس فعلا ـ على يدي هذا المخلوق مدّعي الحضارة … انقرض حيوان و طير و نبات و جماد، و انقرضت كذلك شعوب آدمية أو تكاد … و من المفارقات، أنه ربما لم تهدأ الأحوال نسبيا إلا حين قوبل التوحش بالتوحش، ووجد الإنسان القاتل قاتلا آخر في المواجهة … و ذلك هو “توازن الرعب” الذي كان، و ها هو رجع هذه الأيام على ما يبدو …
سيرة سوداء طويلة بدأت من أول صراع على مصدر رزق، و وصلت إلى ممالك نفوذ بعيدة عن مركزها بقطر كوكب الأرض، و ما زال العدّاد دائرا … و لكن اللافت أن بعض هذا العنف المميت لا صلة له بالرزق و لا بالنفوذ، إنما تحسّ أن بني جنسك فيهم ميل و تلذذ بالدمار فقط لا غير … حين استولت طالبان على الحكم ذات تسعينات، لم تنشر ورعا أو تعمم تقوى أو تملأ الدنيا عدلا كما قيل عن السلف، بل حملت ذخائر الديناميت و راحت إلى جبال باميان، و كلفت رجالها تعبا و تسلقا و مخاطرة و حفرا في الصخر لماذا؟ لتدمير تمثالين بريئين قصيّين لا يعبدهما أحد و لا يزورهما سوى السيّاح و هواة التاريخ و علماء الآثار …
و من تجرّأ على الحجر ماذا يهمّه في البشر؟ فبعد ذلك و قبله و أثناءه سيق الرجال و النساء و الأطفال بالمئات إلى المقاصل و المشانق … في تكرار أصبح روتينيا لما فعله مغول آسيا منذ ألف عام، و ما يفعله مغول العرب ببعضهم البعض منذ حرب داحس، و ما يفعله و سيفعله مغول أمريكا (أو طالبانهم و لكن بربطة عنق و عينين زرقاوين) طيلة الثلاثة قرون الأخيرة … و منذ أيام فقط وقع نظري على تحفة من بقايا ثقافة وادي الرافدين العظيمة، و هي أسد بابل الشهير عالميا … لسنا في معرض وصف تلك الحضارة البعيدة المؤسِّسة و لا عن تطور فن النحت منذ الأوّلين، بل شدّني تفصيل صغير حوّل وجهة المقام والمقال …
تتعلق الجزئية بمئات الثقوب الصغيرة على جسم هذا الهزبر الواقف على الدهر، ماذا؟ … هل هي من فعل الطبيعة و تساقطاتها طوال هذا الزمن؟ لا … هل هي من أصل النحت صنعها الإزميل دلالة على “مرض” ما في جلدة الأسد؟ لا … هل الحجر نفسه و معدنه محبب مجدّر هكذا من عند ربّي؟ لا، لا، لا … كل القصة أن الجنود الأمريكان حين غزوا العراق سنة 2003 حملوا رشاشاتهم و انهالوا على المنحوتة وابلا إثر وابل … هكذا، شهوة عازب … و من حسن الحظ أن الفنان الأشوري القديم عرف على أية خامة يشتغل …
الآن لا تقل لي داحس و لا داعش و لا طالبان و لا فتنة علي و لا مشهد الحسين … بل أنت حيال فترينة تغرقنا بأخبار الذوق و رعاية الفنون و مكتبة الكونغرس و موسيقى “كارنيجي هول” و لوحات “ناشيونال غاليري” التي تساوي الواحدة منها دخلنا الوطني من 2011 إلى اليوم … و اعطف على ذلك رفقاءهم الجنود البريطانيين الذاهبين في الإجازة إلى مسرح فيكتوريا، أو الجنود الإيطاليين المترددين على أوبرا “سكالا” بميلانو، أو الجنود الفرنسيين المتظللين بمسلة باريس المسروقة من مصر … كلهم في حضرتنا كانوا لا يختلفون عن مدمّري بوذا في باميان، أو حشّاشي أبي مصعب الزرقاوي و هم ينهالون بالمطارق على معالم سوريا … جثث، وأمراض، و بثر أفاع، على قول الشاعر …
و انتهاء … كل هذا في كفة، و ما تفعله “فكرة” أخيك سامي الفهري بتفكيرنا و خطابنا و سلوك شبابنا في كفة ثانية … و يدوم ذلك منذ عقدين من الزمن تقريبا، أي منذ الحلقة الأولى من مسلسل “مكتوب” التعس إلى اليوم … و يبدو أنه لن يهنأ له بال إلا حين يتحول كامل السكان إلى حاملي أوشام و بلالط و مخدرات وأسلحة و لغة منحرفين و بغايا، و إلى قتلة آبائهم و قاتلات، و إلى أبناء سِفاح أو زواج عرفي …