جور نار

أدب التسوّل (بقية)

نشرت

في

2 ـ عند الهمذاني:

طول عمري و أنا أبحث عن أصل بعض الكلمات في لهجتنا و منها مثلا كلمة “ساسي” أي متسوّل، و ما اشتققناه منها سواء في شكل فعل (ساسَى، يساسي) أو مصدر (مساسْيَة أو تساسية) أو اسم علَم يدل على الأفراد (ساسي و ساسيّة) أو يدلّ على الجماعات و أماكن إقامتها (أولاد ساسي، أو السواسي) … مع العلم بأن أسماء العلم هنا قد تعود إما إلى التسمّي على الأولياء الصالحين و فيهم من عاش فقيرا، أو إلى عادة العرب في تسمية مواليدهم بألفاظ غير محبّبة، لاعتقادهم بأنها تطرد الشرور عنهم كما في صخر و حجر و مُرّة و العيفة (في ريفنا التونسي) و معيوفة إلخ …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و ها أن شيخنا بديع همذان يجيب فضولنا في هذه الناحية، إذ ينسب حرفة التسول و التخصص فيها و التفنن في ذلك ـ كما سنرى في النص ـ إلى أهل فارس أصحاب الآمبراطورية الساسانية، الغنية القوية في زمن ما ! … و لعل مما يثير الانتباه أن الهمذاني الفارسي المولد كما نعلم، يمارس إما الشعوبية العربية ضد الجيران الفرس، كما للفرس شعوبيتهم ضد العرب … و إما كان يستعمل ما نسميه الآن بالسخرية من الذات كواحدة من أعلى درجات السخرية النقدية في الأدب و الفن … و في كل الأحوال، يظلّ منشئ المقامات في نظري واحدا من ثلاثة أمراء مؤسسين للنثر العربي و كبار أساتذته على مرّ العصور … بعد الجاحظ طبعا و ابن المقفّع.

المقامة الساسانية

حَدَّثَنَا عِيسى بن هشام قَال: أَحَلَّتْنِي دِمَشْقَ بَعْضُ أَسْفارِي، فَبَيْنَا أَنَا يَوْماً عَلى بَابِ دارِي، إِذْ طَلعَ عَلَيَّ مِنْ بَنِي سَاسانَ كَتِيبَةٌ قَدْ لَفُّوا رُؤُوَسُهمْ، وَصَلَوْا بالْمَغْرَةِ لَبُوسَهُمْ، وَتَأَبَّطَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَراً يَدُقُّ بِهِ صدْرَهُ، وَفِيهِمْ زَعِيمٌ لَهُمْ يَقُولُ وَهُمْ يُرَاسِلونَهُ، وَيْدعُو وَيُجَاوبُونَهُ، فَلَمَّا رآني قَالَ:


أُرِيدُ مِنْكَ رَغِيفـاً *** يَعْلُو خُواناً نَظِيفـاً

أُرِيدً مِلُحاً جَرِيشـاً *** أُرِيدُ بَقْلاً قَطِيفـاً

أُرِيدُ لَحْماً غَريضاً *** أُرِيدُ خَلاً ثَقِـيفَـاً

أُرِيدُ جَدْياً رَضِيعـاً *** أُرِيدُ سَخْلاً خَرُوفَا

أُريدُ مَاءً بِـثَـلـج *** يَغْشَى إِناءً طَرِيفاَ

أُرِيدُ دَنَّ مُـــدَامٍ *** أَقُومُ عَنْهُ نَـزِيفَـا

وَسَاقِياً مُسْتَهَـشّـاً *** علَى القُلُوبِ خَفِيفَا

أُرِيدُ مِنْكَ قَمِيصـاً *** وَجُّبةً وَنَصِـيَفـا

أُرِيدُ نَعْلاً كَثِـيفـاً *** بِها أَزُورُ الكَنِيفَـا

أُرِيدُ مُشْطاً وَمُوسَى *** أُرِيدُ سَطْلاً وَلِيفَـا

يَا حَبَّذَا أَنا ضَـيْفـاً *** لَكُمْ وَأَنْتَ مُضِيفـا

رَضِيتُ مِنُكَ بِهَـذا *** وَلَمْ أَرِدْ أَنْ أَحِيفـاً

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَنُلْتُهُ دِرْهَماً، وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ آذَنْتُ بِالدَّعْوَةِ وَسَنُعِدُّ وَنَسْتَعِدُّ، وَنَجْتَهِدُ وَنَجِدُّ، وَلَكَ عَلَيْنَا الوَعدُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذا الدِّرْهَمُ تَذْكِرةٌ مَعَكَ، فَخُذِ المَنْقُودَ، وانْتَظِرِ المَوْعُودَ، فَأَخَذَهُ وَصَارَ إِلى رَجُلٍ آخَرَ ظَنَنْتُ أََّنهُ يَلْقَاهُ بِمِثْلِ مَا لَقِيَنِي، فَقَالَ:


يا فَـاضِـلاً قَـدْ تَـبَـدَّى *** كَأَنَّـهُ الـغُـصْـنُ قَـدّاً

قَدِ اشْتَهى اللَّحْمَ ضِرْسِي *** فَاجْلِدْهُ بِالخُـبْـزِ جَـلْـداً

وامنُـنُ عـلَّـي بِـشَـيءٍ *** واجْعَلْهُ لِلْـوَقْـتِ نَـقْـداً

أَطْلِقْ مِنَ الـيدِ خَـصْـراً *** واحْلُلُ مِنَ الكِيسِ عَـقْـدا

واضْـمُـمُ يَدَيْكَ لأَجْـلـي *** إِلَى جَـنَـاحِـكَ عَـمْـداً

قَالَ عَيِسَى بْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا فَتَقَ سَمْعي مِنْهُ هَذا الكَلامُ، عَلِمْتُ أَنَّ وراءَهُ فَضْلاً، فَتَبِعْتُهُ َحَتَّى صَارَ إِلى أُمِّ مَثْواهُ، وَوَقَفْتُ مِنْهُ بِحَيْثُ لاَ يَراني وأَرَاهُ، وَأَمَاطَ السَّادَةُ لُثُمَهُمْ، فإِذَا زَعِيمُهُمْ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَنَظَرْتُ إِليهِ وَقُلْتُ: مَا هَذهِ الحِيلَةُ وَيْحَكَ؟ فأَنشأَ يَقُولُ:


هَذا الزَّمَانُ مَشُـومُ *** كَمَا تَراهُ غَشُـومُ

الحُمْقُ فِيهِ مَـلِـيحٌ *** والعِقْلُ عَيْبٌ وَلُومُ

والمَالُ طَيْفٌ، ولكِنْ *** حَوْلَ اللئَّامِ يحـومُ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version