يتراءى لي أحيانا وأنا أرقب سلوك التونسيين من حولي أنّ أربع متلازمات كبرى أصبحت تميّزنا على خلاف خلق الله خلال السّنوات الأخيرة.
وهي تِباعا متلازمة ستوكهولم ومتلازمة أليس في بلاد العجائب ومتلازمة كوتار والمتلازمة الاكتئابية. ولكن هناك اضطرابا نفسيا آخر لميأت عليه الأطباء والمختصون وهو متلازمة تونس.
والمتلازمة syndrome تعريفا هي مجموعة من العلامات و الأعراض الطبية المرتبطة مع بعضها البعض والمتعلقة غالبًا بمرض أو اضطراب معين . وتستمدّ اسمها العربي من تزامن أو تلازم جملة من المؤشرات المنبِئة بوجود خلل ما في نفسيّة الفرد.
أولا : متلازمة ستوكهولم
هي الإجابة النفسية التي تُلاحظ لدى الضحايا (ضحايا الاختطاف بصورة خاصة) المتمثلة في علامات التعاطف والمحبّة وحتى الاحترام تجاه الخاطف أو المعتدي مهما كان حجم الخطر المطروح كما في حالات الاغتصاب والعنف الزوجي ضد النساء والاعتداءات على الأطفال… وأصل التسمية أنه في سنة 1973 بستوكهولم عاصمة السويد تمّ احتجاز 4 موظفين داخل بنك وعند الافراج عنهم أظهر هؤلاء تعاطفا غير طبيعي مع محتجزيهم رافضين الادلاء بشهادات ضدهم في محاولة للدفاع عن المختطِفين.
ينطبق هذا الاضطراب تماما حسب رأيي على فئة التونسيين الذين يستغلّون أي حدث سلبي بعد 2011 ليتحسّروا بمرارة شديدة على زمن مضى (وبالرغم من مواطن الضوء فيه) إلا أنه يظل زمنا أغبر والدليل البسيط أنه دفع بالاحتقان الاجتماعي إلى أعلى درجاته وهيّأ تربة خصبة لينمو جنين العنف والإرهاب في رحم الفقر المعمّم والمحسوبية وعنجهية المقرّبين والأصهار وتغوّل الأمن واستباحة القوانين وخاصة “كتم الأنفاس” بالمعنى الحرفي للكلمة.
ثانيا : متلازمة أليس في بلاد العجائب
أو متلازمة تودTODD وهي اضطراب عصبي يتغير بموجبه إدراك الشخص لذاته وللزمان والمكان. يتغير الادراك البصري للأشياء بالتضخيم أو بالتصغير. التمظهر الأكثر تداولا هو سوء إدراك الشخص المُصاب لصورته الشخصية حول نفسه. يتصور أن جسده يعاني من انحرافات مورفولوجية على غرار التمدّد في الأطراف والتكلّس في بعض الأعضاء ما يسبّب ذعرا يبلغ حدّ حالة الهلع.
اعتقادي أننا أُصبنا كتونسيين بهذه المتلازمة التي جعلتنا غير واثقين بأنفسنا، كلنا يعتقد أن تشوّهات كبرى أصابت صورتنا في العالم حتى تحوّلت النخوة إلى نكسة والفخر إلى مشاعر بخسة… تحت تأثير تميّزنا إرهابيا في كل أصقاع العالم وإبداعنا في التنكيل المبرّح بالفرصة التي وهبنا إياها التاريخ في 2011 لولوج نادي المجتمعات النّاجية. وكأنّنا أصبحنا نعيش تونسيّتنا خلسة بين شعوب العالم.
ثالثا : متلازمة كوتار
هي متلازمة النُّكران التي شخّصها سنة 1880 طبيب الأعصاب الفرنسي جيل كوتار. ويكون الشخص المعني مقتنعا أنه مات بعدُ أو أنه غير موجود أصلا. يكون لديه انطباع أن جسده بصدد التحلّل أو يفتقر الى الدم أو بعض الأعضاء الداخلية. الاشخاص المُصابون، نادرا جدا ما يشعرون بضرورة مراجعة الطبيب لاقتناعهم الباتّ أن علاجهم مستحيل. ويلاحظ هذا الاضطراب بصفة خاصة لدى الاشخاص الذين يعانون من الانهيارات العصبية أو من انفصام الشخصية الذهانية.
متلازمة كوتار هذه تظهر لدى كثير من التونسيّون الذين “ياكلو في القوت ويستنّو في الموت” ومن يُردّدون بدون انقطاع “أنت لست حيّا كي تموت” و “ياخي آش معجّبك فيها هالعيشة الكلبة” و “رانا مُتنا مُوتان” و “شوولنا الكبدة شويان” و “كلولنا قلوبنا ماكلة”و “ميّتين بالحيا”،إلخ… يُشعرك التونسيون أحيانا أن مجرّد البقاء على قيد الحياة هو ذنب لا يُضاهيه ذنب وجب التكفير عنه بألف صلاة وصلاة.
رابعا : المتلازمة الاكتئابية أو اضطراب الاكتئاب الشديد
هو اضطراب نفسي يتمثل في حالة مزاجية مكتئبة بصفة مستمرة تكون في الغالب مصحوبة بتدنّ في تقدير الذات و فقدان الاهتمام بالأنشطة المُمتعة وشعور دائم بانخفاض الطاقة، والمشاكل الجسدية بدون سبب واضح. ويمكن أن تؤثر الاضطرابات الاكتئابية الرئيسية سلبًا على حياة الشخص أو حياته العملية والدراسية، فضلاً عن النوم وعادات الأكل والصحة العامة. وتُقدّر بعض الدراسات العلمية أن نحو 50٪ من الناس الذين يموتون انتحارا كانوا قد عانوا من الاكتئاب أو اضطرابات مزاجية أخرى.
إن أحسن دليل على إصابة الكثير من التونسيين بهذه المتلازمة هو ترتيب تونس في مؤشر السعادة على المستوى العالمي. في 2020 كان ترتيبنا 136/165 بمجموع يساوي 4.39 (البلد الأول هو فنلندا بــــ 7.80 والبلد الأخير أفغانستان بـــ 2.56) حسب تصنيف “التقرير الدولي للسّعادة” الذي نشرته شبكة الحلول للتنمية المستدامة التّابعة للأمم المتحدة (ويعتمد هذا التصنيف مقاييس الدخل الفردي والصحة الجيدة وحرية الاختيارات الحياتية الشخصية وتمثّل الأفراد لظاهرة الفساد الحكومي)
____إلى جانب كل هذه المتلازمات التي اشتغَلَتْ عليها المدارس الطبية وتم إقرارها على نحو كوني باعتبارها أعراضا يشترك فيها المصابون وقابلة للتشخيص، تجدني راغبا بشدة في إضافة متلازمة أخرى أسمّيها متلازمة تونس (والحال أن عديد العواصم العالمية لها متلازماتها المعترف بها في القاموس الطبي العالمي مثل ستوكهولم وليما وباريس . وأقول مرورا إن متلازمة باريس هي صدمة نفسية تُصيب السُّواح اليابانيّين عندما يصطدمون بالهوة الشاسعة بين صورة باريس “البطاقة البريدية” وحقيقة باريس في الواقع).
ومتلازمة تونس هي عبارة عن اضطراب نفسي حادّ يُصيب فئة واسعة جدا من سكان البلد وحتى من بعض زائريها الأجانب وتتمثل أعراضه في التعبير عن انشداد مرضيّ لبلد تجتمع فيه كل أنواع الزواحف والضّباع والطيور الكاسرة ولكن التّونسي يهيم به عشقا ولا يقبل عنه وطنا آخر بديلا. تُتاح أمامه فرص مؤكّدة للاستقرار بأرقى المراكز الحضارية في العالم ولكنه يعود دائما إلى الحضن الذي أهانه أحيانا ونكّل به وأبعده و قسا عليه معتبرا أنها أسباب غير كافية لقطع الحبل السُرّي بشكل نهائي. أعرف شخصيا رجلا طيبا سافر إلى نيويورك بعد إلحاح ابنته المُقيمة هناك رغبة منها في إهداء والدها سفرة متميّزة. رتّبت له عشاء صحبة أخيها في أفخر المطاعم في حيّ مانهاتن… وبعد انتهاء المأدبة، قال الأب مازحا أعلم جيدا أن الفاتورة باهظة والأطباق شهية … لكن “سامحني بنيتي كم وددت تناول محمّصة بالقديد أو ملثوث بالرّاس في دارك و علاش هالتعب الكلّ وبصراحة أسبوع كامل في أمريكا ياسر عليا، توحشت تونس”.
ومتلازمة تونس هي أيضا أن تجرؤ على إشهار تونسيّتك في وجه العالم رغم يقينك بأن صورتك علقت بها بعض الأوحال خاصة خلال السنوات الأخيرة وأن جوازك بات أحيانا مسترابا واسمك مدعاة للشبهة والارتياب.
إن أفضل ما نطق به الشعراء في متلازمة تونس هي آخر قصيدة للشاعر العاشق لتونس الأعماق الأستاذ لزهر الضاوي والتي يقول مطلعها :