ماذا لو بقي العالم ملتزما بأساطير الأولين؟! لقد سرقتها الأديان ثم شوهتها….كنت ولم أزل وسأبقى مسحورة بالحكمة التي تحملها الأساطير الإغريقية، ولكل منّا الحق أن يستخرج منها ما يراه، فالحكمة التي تنطوي عليها أية اسطورة ليست منقوشة في الصخر، لكنها تختلف باختلاف ذهن القارئ لها.لذلك قد استخلص من اسطورة بوسيس وفيلمون (Baucis and Philemon) ما لم يستخرجه أحد غيري.
تقول الاسطورة: بوسيس وفيلمون زوجان عجوزان يعيشان في كوخ مهترئ في قرية تدعى “تيانا” من بلاد الأناضول، تركيا اليوم، لم يكن في ذلك الكوخ سيد ولا عبد، بل كان كل منهما يمارس عمله بلا سيادة وبلا عبودية.
في يوم من الأيام تنكّر الإلهان زيوس وهرمز بلباس فلاحين، وراحا يدقان باب كل بيت في تلك القرية على حدة، يستجديان من الناس طعاما ومأوى. اُغلقت كل الأبواب في وجهيهما، ولم يسمعا كلمة ترحيب واحدة من أي من سكان القرية، باستثناء بوسيس وفيلمون، فلقد فتحا الباب للضيفين ورحبا بهما وقدما لهما طعاما متواضعا جدا يعكس حالة الفقر التي كانا يعيشانها. لاحظ الزوجان أنه كلما فرغ الصحن عاد ليمتلأ من جديد، فأدركا أن الضيفين إلهان.
هنا ركعا أمامهما وراحا يطلبان المغفرة لأنهما فقيران، ولم يكن لديهما سوى هذا الطعام المتواضع،ثم ركض فيلمون وراء إوزّة كان يحتفظ بها لتحرس له الدار، ركض وراءها بغية الإمساك بها كي يذبحها ويطبخها للضيفين، فركضت الإوزّة واختبأت خلف الضيفين.
لم يسمح الضيفان لبوسيس وفيلمون أن يذبحا الطائر، وطلبا منهما أن يسرعا معهما إلى قمة الجبل دون أن ينظرا إلى الوراء، لأنهما سيهلكان القرية (منها سرقت الأديان الابراهيمية خرافة سدوم وعمورة، إذ لا فرق،فامرأة لوط ـ ولأنها نظرت إلى الوراء ـ صارت عمودا من الملح). لما وصلا إلى القمة نظرا إلى القرية فبدت لهما غارقة في طوفان من الماء، وشاهدا كوخهما المهترئ وقد تحول إلى معبد من الذهب ذي عواميد من فضة.
طلبا من الإلهين أن يسمحا لهما بأن يكونا في حراسة ذلك المعبد، وعندما تأتي منيتهما أن يموتا معا في نفس اليوم. تحققت أمنية بوسيس وفيلمون، وصارا حارسين للمعبد، ثم ماتا في يوم واحد وتحولا إلى شجرتين ملتفتين على بعضهما البعض، كشاهد أبدي على مصير من يفتح بابه للسائل ويحسن ضيافته.
……….
من هو ذلك السائل الذي يجب أن نشرّع أبوابنا له؟
إنّه الكون برمّته يأتينا متلبّسا بشكل أو بآخر، ولذلك لم تكن الأشكال يوما برهانا على الجوهر !يختبرنا دائما، ويرسل لنا في كلّ لحظة جزاء ما فعلناه في اللحظة التي سبقتها.
الكون يحابي الإنسانَ الذي لا يقبل أن يكون متسيّدا أو مستعبدا، فالعجوزان عاشا في بيت لا عبد فيه ولا سيّد،ذلك النمط الحياتي الذي أهّلهما ليكونا معبرا للخير، وليبقيا رمزا له.إذن،
لا نستطيع أن نكون أصدقاءً للكون ما دمنا أحد اثنين عبدا أو سيدا، فالعبودية كما هي السيادة المطلقة حالتان تعاكسان مجرى الدفق الكوني، ولا تسمحان له بالعبور، لأن الحقد يتحكّم بالعبد والغطرسة تتحكم بالسيّد، وكلا الصفتين تجرّدان الروح من كونيّتها.
لم يأتِ إليهما إله واحد، بل اصطحب كل منهما صديقه الإله الآخر، إنها إشارة على أن التعدد هو قانون كوني،
غرقت القرية كلها لأنها كانت شريانا مسدودا، لم يسمح للخير أن يعبرها إلى المحتاجين له.وهذا قانون كوني، فعندما تشحّ الأرواح ويتوقف العطاء يصبح الشح طريقة حياة….بينما في الأديان الابراهيمية دمّر الله سدوم وعمورة فقط لأنها كانت تحوي مثليين، بينما أنقذ لوطا الذي شرب حتى ثمل وحبّل ابنتيه، أنقذه لأنه كان رجلا صالحا!
هل هناك تشويه لمفهوم الصلاح وقبح أقبح من هذا القبح؟