تابعنا على

جور نار

أشياء حزينة علّمتنا إيّاها مدرستنا التونسية

نشرت

في

أن تُعلّمنا المدرسة قيما إنسانية متّفق عليها كونيّا فهذا ما هي محمُولة عليه، وأن تُدرّبنا على فكّ رموز الخطّ وأسرار العدّ والحساب فهي كذلك وظيفة من أجلها تأسّست، وأن تكون رافدا موازيا للحضن العائلي يُكمّل التنشئة ويُغنيها، فذاك دور طبيعي تضطلع به المدرسة في كل أرجاء الكون.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

ولكن عندما يحدث أن تُختطف المدرسة أحيانا لتُعلّمنا أشياء حزينة ستُعيق نموّنا وحظوظ نجاحنا في ما بعد وتُرسّخ فينا ما يشبه الإحباط والخنوع وإلغاء مَلَكة العقل والتفكير النقدي…، حينئذ، يتوجّب الحذر والتيقّظ بل والتوقّف من أجل طرح السؤال: لِمَ نُدرّس هذا ولا نُدرّس ذاك ولِمَ نعتمد هذا التمشّي ولا نعتمد ذاك، وأيُّ قيم مشتركة نمرّرها وقيم ذاتية خاصة ندعُها لبيوتنا وخلواتنا ؟

والذين يختطفون المدرسة إمّا دُعاة واعون بأن لديهم مشاريع تبشيريّة ليس هناك أفضل من المدرسة لتكريسها باعتبارها المُحتكر الوحيد للتنشئة المجتمعية، وإما مسؤولون وبيداغوجيون تلتبس عليهم الفضاءات والسياقات فيعجزون عن التمييز بين مائدة الغداء مع أطفالهم وسبّورة الدرس أو ساحة المدرسة مع تلاميذهم، والتفريق بين ما ينفع الناس وبين ما قد يُودي بحياتهم ويهدّد مستقبلهم.

إن الوقوف بروح نقدية جريئة على ما علّمتنا إيّاه مدرستنا التونسية يساهم بشكل ما في الانتباه إلى جملة من السلبيّات غير المرئيّة، ويسمح بتحصين الإصلاحات المرتقبة والنأي بها عن إعادة إنتاج نفس الممارسات والسّلوكات المنحرفة.

مدرستنا علّمتنا المُخاتلة وعدم قول الحقيقة :

كان أغلب معلّمي ستّينات وسبعينات القرن الماضي يتسابقون في طرح ذلك السؤال التاريخي “أين قضّيت عطلتك؟” ربّما تأثّرا بنظرائهم الفرنسيين الآتين من بيئة يترسّخ فيها تقليد خروج العائلات نحو الجبال ومحطات التزلّج ومدن الضواحي وأريافها خلال العطل، وكان أغلب تلاميذنا يُجيبون بنفس الطريقة “في جِبال عين دراهم” …والحال أن لا أحد فينا تقريبا وطئت قدماه وادي الزان أو عين البيّة … قد يقول قائل “ولكن هذا خيال، والتخيّل مطلوب بالنسبة إلى النمو الذهني والعاطفي لدى الطفل”. نعم، ولكن هل يمكن أن نتخيّل عالما لا نعرف عنه أي شيء ؟ وبدلا من ابتداع وِجهة متخيّلة، لمَ لم يشجعونا على وصف أشياء حقيقية عشناها ومارسناها من خلال طرح السؤال بشكل آخر : ماذا فعلت خلال عطلتك ؟ أو صف الجهة أو الحي الذي تقطن فيه.

هذا إلى جانب تحريضنا دائما على الاكتفاء بوصف الحقول الغنّاء وجداول المياه العذبة والمزارع الخصبة والغابات السّاحرة والعيون الصافية والعصافير المُنشدة وأزهار الأقحوان وشقائق النّعمان…وهو عالم يانع يليق بطفولة مزهوّة بصباها وحبورها لكنه يظل عالما مبتورا إذا لم نُحفّز في نفس الوقت على وصف جانبه الآخر الأكثر ظلمة والذي لا تكسوه دائما الثلوج البيضاء بل الحقول الجرداء والبطون الخاوية والشُّرب من الغُدران والشموس الحارقة والرياح الماحقة والملابس البالية والحلم بقطعة حلوى لا تلين لها جيوبنا الفارغة.

وعلّمتنا المدرسة ألاّ نجرؤ على مناقشة أشياء غير منطقية لا يقبلها العقل

كأن يقال على سبيل المثال “بورقيبة رجل استثنائي حارب الاستعمار لوحده وحقّق الاستقلال لتونس” حتى خِلناه ونحن صغارا عملاقا جبّارا قادرا على دحر الجبال ورفع الأثقال، أو  “عليك أن تدعو السماء في كل لحظة ولكن كل شيء مسطّر سلفا”… أو “سنُسأل إن كنّا فعلنا أشياء سيّئة ولكن الله يعلم عنا كل شيء”

مدرستنا فرضت علينا رؤية أحاديّة لتاريخنا

تاريخنا في مجمله “تجميل وتوصيف من المنتصرين لانتصاراتهم” لم يقدّم قراءة موضوعية ونقدية لما حدث، وانتصر لرؤية مُهيمنة لم ترَ في عقبة بن نافع على سبيل المثال سوى فاتح وصحابي، وغضّ الطرف عمّا فعله في حقّ آلاف العزّل الأمازيغ رغم إسلامهم ولم تتحدّث عن كسيْلة كقائد محلي دافع عن شعبه وردّ بشجاعة على الإذلال الذي تعرّض له من قِبل عقبة وجماعته.

مدرستنا علمتنا الأفضلية الاعتباطية بين المواد :

أوهمتنا المدرسة بأن المواد العلمية أنبل وأهم من الانسانيات ومواد الإبداع الفنيوأكثر فائدة من كل ما هو يدوي مثل الفلاحة والحِدادة ومعالجة الخشب وتسفير الكتب وأشغال الحياكة والنسج والتطريز، لذلك تُبرمج دائما المواد الصّلبة في الحصص الصباحية وتُبرمج باقي المواد في الحصص المسائية عندما تتلاشى الأعصاب وتتراكم الأتعاب.  وهي عقلية توارثتها أجيال بكاملها وأفرزت نخبة “صلبة” تتمتّع بكل الآفاق وبياض أعظم متروك على قارعة طرق الرّفاه والكرامة.

عين الذهب ـ سليانة

مدرستنا علّمتنا أنه لا وجود إلا لنوع واحد من الذكاء

يكفي أن يكتبوا في بطاقة أعدادك “تلميذ ضعيف” أو “تلميذ محدود الإمكانيات” حتى يُلقى بك في غياهب النسيان المدرسي مهما كانت بداخلك بذور واعدة ترقُدُ منتظرة من ينفخ فيها الحياة… في الشعر والرسم والنحت والخط والغناء والعزف على النّاي والرياضة والفلاحة والسباحة وتفكيك الآلات وإعادة تركيبها والعناية بالآخرين وحفظ قصص الأوّلين…

مدرستنا علّمتنا أن لا نهتم بثروات تاريخية تحيط بنا من كل جانب

ليس هناك جهة تونسية واحدة لا تتوفر فيها معالم تاريخية ذات قيمة عالمية قريبة جدا من مدارسنا، ولكننا نكبُر ونحن جاهلين بتاريخنا الزاخر ونختزله في “تونس تعاقبت عليها حضارات عديدة“.  فمن يعرف “مغاور عين الذهب” بجبل السّرج بسليانة أو”عين سيدي محمود” بحاسي الفريد و”غار الضبع” بسلقطة في قصور الساف والحمامات الرومانية بالأبيض في معتمدية جلمة من أبناء هذه المناطق بالذات…؟  

مدرستنا علمتنا اجترار التعابير التي ابتُذلت من فرط ما استُعملت.

علّمتنا المدرسة تعابير جامدة وكسولة نستعملها في كل كتاباتنا الإنشائية حتى أضحت بلا روح مثل : يحبّها حُبّا جمّا ويعاني من الفقر المُدقع وكانت البسمة تعلو محيّاه وعجوز شرّيرة وكان رجلا ورعا عُرف بدماثة أخلاقه والمرض العُضال وتعجز الكلمات عن وصف جمالها وعاد إلى البيت فرحا مسرورا…بحيث أن معلّمينا وأساتذتنا لم يدرّبوننا على الخروج من الدّروب الأسلوبية المُستهلكة وبذل الجهد من أجل ترويض اللغة وتوليد بواكير جديدة تتجاوز ما قاله القدماء.

مدرستنا علمتنا أنه عليك أن تعمل لوحدك في ركن قصي وأن الآخر سيسرق جهدك

لم نتدرّب على العمل الجماعي والتفكير ضمن فريق، بالرغم من أن هذه التقليد البيداغوجي يُلزم التلميذ كما يقول فيليب ميريو بــ “ضرورة التسلّح من أجل الدفاع عن وجهة نظره وقبول أن يُخضع نفسه لنقد الآخرين” علاوة على دور التنشئة الاجتماعية وتعزيز روح التعاون ونبذ الأنانية المرضيّة الذي يضطلع به هذا التوجّه في أساليب التعلّم.

علمتنا المدرسة أيضا أن التلميذ هو المُطالب بالتأقلم

 التلميذ يأتي إلى المدرسة من أجل التعلّم وفق ضوابط ومرجعيات وأساليب وثيقة وغير مرنة، وليست المدرسة بمدرّسيها وبرامجها هي المحمولة على التأقلم مع خصوصيات تلميذ متنوّع لا يشبه زميله وله خصوصيات تستدعي من يراعيها لتكون هي المرجع والمنطلق في أي فعل تربوي.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار