أن تُعلّمنا المدرسة قيما إنسانية متّفق عليها كونيّا فهذا ما هي محمُولة عليه، وأن تُدرّبنا على فكّ رموز الخطّ وأسرار العدّ والحساب فهي كذلك وظيفة من أجلها تأسّست، وأن تكون رافدا موازيا للحضن العائلي يُكمّل التنشئة ويُغنيها، فذاك دور طبيعي تضطلع به المدرسة في كل أرجاء الكون.
ولكن عندما يحدث أن تُختطف المدرسة أحيانا لتُعلّمنا أشياء حزينة ستُعيق نموّنا وحظوظ نجاحنا في ما بعد وتُرسّخ فينا ما يشبه الإحباط والخنوع وإلغاء مَلَكة العقل والتفكير النقدي…، حينئذ، يتوجّب الحذر والتيقّظ بل والتوقّف من أجل طرح السؤال: لِمَ نُدرّس هذا ولا نُدرّس ذاك ولِمَ نعتمد هذا التمشّي ولا نعتمد ذاك، وأيُّ قيم مشتركة نمرّرها وقيم ذاتية خاصة ندعُها لبيوتنا وخلواتنا ؟
والذين يختطفون المدرسة إمّا دُعاة واعون بأن لديهم مشاريع تبشيريّة ليس هناك أفضل من المدرسة لتكريسها باعتبارها المُحتكر الوحيد للتنشئة المجتمعية، وإما مسؤولون وبيداغوجيون تلتبس عليهم الفضاءات والسياقات فيعجزون عن التمييز بين مائدة الغداء مع أطفالهم وسبّورة الدرس أو ساحة المدرسة مع تلاميذهم، والتفريق بين ما ينفع الناس وبين ما قد يُودي بحياتهم ويهدّد مستقبلهم.
إن الوقوف بروح نقدية جريئة على ما علّمتنا إيّاه مدرستنا التونسية يساهم بشكل ما في الانتباه إلى جملة من السلبيّات غير المرئيّة، ويسمح بتحصين الإصلاحات المرتقبة والنأي بها عن إعادة إنتاج نفس الممارسات والسّلوكات المنحرفة.
مدرستنا علّمتنا المُخاتلة وعدم قول الحقيقة :
كان أغلب معلّمي ستّينات وسبعينات القرن الماضي يتسابقون في طرح ذلك السؤال التاريخي “أين قضّيت عطلتك؟” ربّما تأثّرا بنظرائهم الفرنسيين الآتين من بيئة يترسّخ فيها تقليد خروج العائلات نحو الجبال ومحطات التزلّج ومدن الضواحي وأريافها خلال العطل، وكان أغلب تلاميذنا يُجيبون بنفس الطريقة “في جِبال عين دراهم” …والحال أن لا أحد فينا تقريبا وطئت قدماه وادي الزان أو عين البيّة … قد يقول قائل “ولكن هذا خيال، والتخيّل مطلوب بالنسبة إلى النمو الذهني والعاطفي لدى الطفل”. نعم، ولكن هل يمكن أن نتخيّل عالما لا نعرف عنه أي شيء ؟ وبدلا من ابتداع وِجهة متخيّلة، لمَ لم يشجعونا على وصف أشياء حقيقية عشناها ومارسناها من خلال طرح السؤال بشكل آخر : ماذا فعلت خلال عطلتك ؟ أو صف الجهة أو الحي الذي تقطن فيه.
هذا إلى جانب تحريضنا دائما على الاكتفاء بوصف الحقول الغنّاء وجداول المياه العذبة والمزارع الخصبة والغابات السّاحرة والعيون الصافية والعصافير المُنشدة وأزهار الأقحوان وشقائق النّعمان…وهو عالم يانع يليق بطفولة مزهوّة بصباها وحبورها لكنه يظل عالما مبتورا إذا لم نُحفّز في نفس الوقت على وصف جانبه الآخر الأكثر ظلمة والذي لا تكسوه دائما الثلوج البيضاء بل الحقول الجرداء والبطون الخاوية والشُّرب من الغُدران والشموس الحارقة والرياح الماحقة والملابس البالية والحلم بقطعة حلوى لا تلين لها جيوبنا الفارغة.
وعلّمتنا المدرسة ألاّ نجرؤ على مناقشة أشياء غير منطقية لا يقبلها العقل
كأن يقال على سبيل المثال “بورقيبة رجل استثنائي حارب الاستعمار لوحده وحقّق الاستقلال لتونس” حتى خِلناه ونحن صغارا عملاقا جبّارا قادرا على دحر الجبال ورفع الأثقال، أو “عليك أن تدعو السماء في كل لحظة ولكن كل شيء مسطّر سلفا”… أو “سنُسأل إن كنّا فعلنا أشياء سيّئة ولكن الله يعلم عنا كل شيء”
مدرستنا فرضت علينا رؤية أحاديّة لتاريخنا
تاريخنا في مجمله “تجميل وتوصيف من المنتصرين لانتصاراتهم” لم يقدّم قراءة موضوعية ونقدية لما حدث، وانتصر لرؤية مُهيمنة لم ترَ في عقبة بن نافع على سبيل المثال سوى فاتح وصحابي، وغضّ الطرف عمّا فعله في حقّ آلاف العزّل الأمازيغ رغم إسلامهم ولم تتحدّث عن كسيْلة كقائد محلي دافع عن شعبه وردّ بشجاعة على الإذلال الذي تعرّض له من قِبل عقبة وجماعته.
مدرستنا علمتنا الأفضلية الاعتباطية بين المواد :
أوهمتنا المدرسة بأن المواد العلمية أنبل وأهم من الانسانيات ومواد الإبداع الفنيوأكثر فائدة من كل ما هو يدوي مثل الفلاحة والحِدادة ومعالجة الخشب وتسفير الكتب وأشغال الحياكة والنسج والتطريز، لذلك تُبرمج دائما المواد الصّلبة في الحصص الصباحية وتُبرمج باقي المواد في الحصص المسائية عندما تتلاشى الأعصاب وتتراكم الأتعاب. وهي عقلية توارثتها أجيال بكاملها وأفرزت نخبة “صلبة” تتمتّع بكل الآفاق وبياض أعظم متروك على قارعة طرق الرّفاه والكرامة.
مدرستنا علّمتنا أنه لا وجود إلا لنوع واحد من الذكاء
يكفي أن يكتبوا في بطاقة أعدادك “تلميذ ضعيف” أو “تلميذ محدود الإمكانيات” حتى يُلقى بك في غياهب النسيان المدرسي مهما كانت بداخلك بذور واعدة ترقُدُ منتظرة من ينفخ فيها الحياة… في الشعر والرسم والنحت والخط والغناء والعزف على النّاي والرياضة والفلاحة والسباحة وتفكيك الآلات وإعادة تركيبها والعناية بالآخرين وحفظ قصص الأوّلين…
مدرستنا علّمتنا أن لا نهتم بثروات تاريخية تحيط بنا من كل جانب
ليس هناك جهة تونسية واحدة لا تتوفر فيها معالم تاريخية ذات قيمة عالمية قريبة جدا من مدارسنا، ولكننا نكبُر ونحن جاهلين بتاريخنا الزاخر ونختزله في “تونس تعاقبت عليها حضارات عديدة“. فمن يعرف “مغاور عين الذهب” بجبل السّرج بسليانة أو”عين سيدي محمود” بحاسي الفريد و”غار الضبع” بسلقطة في قصور الساف والحمامات الرومانية بالأبيض في معتمدية جلمة من أبناء هذه المناطق بالذات…؟
مدرستنا علمتنا اجترار التعابير التي ابتُذلت من فرط ما استُعملت.
علّمتنا المدرسة تعابير جامدة وكسولة نستعملها في كل كتاباتنا الإنشائية حتى أضحت بلا روح مثل : يحبّها حُبّا جمّا ويعاني من الفقر المُدقع وكانت البسمة تعلو محيّاه وعجوز شرّيرة وكان رجلا ورعا عُرف بدماثة أخلاقه والمرض العُضال وتعجز الكلمات عن وصف جمالها وعاد إلى البيت فرحا مسرورا…بحيث أن معلّمينا وأساتذتنا لم يدرّبوننا على الخروج من الدّروب الأسلوبية المُستهلكة وبذل الجهد من أجل ترويض اللغة وتوليد بواكير جديدة تتجاوز ما قاله القدماء.
مدرستنا علمتنا أنه عليك أن تعمل لوحدك في ركن قصي وأن الآخر سيسرق جهدك
لم نتدرّب على العمل الجماعي والتفكير ضمن فريق، بالرغم من أن هذه التقليد البيداغوجي يُلزم التلميذ كما يقول فيليب ميريو بــ “ضرورة التسلّح من أجل الدفاع عن وجهة نظره وقبول أن يُخضع نفسه لنقد الآخرين” علاوة على دور التنشئة الاجتماعية وتعزيز روح التعاون ونبذ الأنانية المرضيّة الذي يضطلع به هذا التوجّه في أساليب التعلّم.
علمتنا المدرسة أيضا أن التلميذ هو المُطالب بالتأقلم
التلميذ يأتي إلى المدرسة من أجل التعلّم وفق ضوابط ومرجعيات وأساليب وثيقة وغير مرنة، وليست المدرسة بمدرّسيها وبرامجها هي المحمولة على التأقلم مع خصوصيات تلميذ متنوّع لا يشبه زميله وله خصوصيات تستدعي من يراعيها لتكون هي المرجع والمنطلق في أي فعل تربوي.