أفِق صديقي كلود… صديقُك الفلسطيني حنظلة ينتفض ويخرج عن صمته !
نشرت
قبل سنة واحدة
في
صديقي الفرنسي كلود ألف رحمة على روحه الطاهرة كان كأغلب الفرنسيين الأسوياء نقديّا ومُحترزا تجاه ما تتداوله وسائل الإعلام الغربية بشأن ما يحدث خارج حدودهم وبصفة خاصة على أرض فلسطين ولكن أبدا إلى درجة الإقرار ببشاعة ما حدث في 1947.
لم يكن عنصريّا مطلقا وكان مؤمنا بقيم إنسانية نبيلة تُمجّد السلام والتحابب بين الشعوب، لكنه كان يعتبر أن توطين اليهود الذين نكّلت بهم النازية وغيرها عبر التاريخ في مكان ما من العالم يمكن أن يكون تصحيحا تاريخيا لأخطاء قصوى مارسها الغرب ضد هذه الفئة من الناس. وكان يردّ عليّ كلّما قلت له “لا ندري من أين جاء هؤلاء، فهم لهم جنسيّات أصلية، فيهم الفرنسي والروسي والبولوني والأثيوبي والتونسي والعراقي الخ…ويتعلمون العبرية (العنصر الأهم في تكوّن هويّة شعب) فقط عندما يهبونهم أرضا ليست لهم في فلسطين…” كان يردّ عليّ مازحًا “حتى أنتم اليساريون لكم أوطان تحتلّونها وتقيمون فيها بسلام مثل الصين والاتحاد السوفياتي وكوبا…”.
وظل الموضوع الفلسطيني منطقة منزوعة التبادل بيننا إلى أن تمّ اغتيال رسّام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي في انكلترا صائفة 1987 (والتي دُفن بها ضدّ رغبته لأنه كان يريد أن يُدفن إلى جانب والده في عين الحلوة)… فلاحظتَ سريعا وأنت المنتبهُ دائما إلى تفاصيل يومي، خاصة أننا كنا متعاهدين على تبادل رسائل مطوّلة ومنتظمة نأتي فيها على تفاصيل الحياة بين الضفّتين، أنني كنت مهموما باستشهاد ناجي العلي لا سيما أمام احتمال استهدافه من قِبل قيادات فلسطينية و/أو عربية بعينها لم تحتمل لهيب النقد والتهكّم الموجه ضدّها بصورة يومية على صفحات أكثر الجرائد اللبنانية انتشارا، وهو سيناريو انتشر في عديد الأوساط آنذاك بالرغم من أن السيناريو الآخر يظل قائما لأن أحفاد بن غوريون اعتادوا لا فقط اغتيال من يحملون البنادق بل من يحملون الأقلام وريشات الرسم أيضا. (كان قاتل ناجي العلي دون ملامح تقريبا باستثناء صورة تقريبية نشرتها الشرطة البريطانية إلى جانب صورة للمسدس الذي استخدمه)
إنشاء نشرية لروح ناجي العلي بعنوان حنظلة
في أواخر ثمانينات القرن الماضي لم يكن التواصل يسيرا كما هو اليوم، ولم تكن الكتابة والنشر متاحين بنفس ما تتيحه مواقع التواصل المختلفة والمتنوعة اليوم، لم أعد أذكر من الذي استحضر فكرة إصدار نشرية سنوية صغيرة باللغة الفرنسية تحتفي بهذه العلامة الفارقة في تاريخ فن الكاريكاتور المقاوم في العالم، وتتبنّى حنظلة (الابن الشرعي لناجي العلي) الذي ظل يتيما بعد اغتيال من أوجده وأعطاه روحا واختزل فيه أرضا وقضية وهوية، ولكن ولدت الفكرة هكذا وكان لها رواج واسع جدا في صفوف التلاميذ والأساتذة آنذاك.
وكان المُبهر في هذه التجربة البسيطة أنها أفسحت المجال أمام أناس كثيرين من الضفّتين ليتعرّفوا عمّا صنع تميّز رسوم ناجي العلي وأبعادها الرمزية، وخاصة نجاح الرسام في التفرّد بتوقيع رسومه على نحو لم يسبقه إليه أحد (أو على الأقل كان من القلائل جدا أن وقّعوا رسومهم كما وقّعها هو) وأن يعبّروا كل بطريقته عن تضامنهم مع شعب هُجّر قسرا وأُبعد قهرا عن زيتونِه وليمونِه وجذورِه في أرض ظلّ يفلحها منذ آلاف السنين.
وكان المُلفت أيضا أن الجميع اجتهد في تفكيك رمزيّة حنظلة والدلالات التي قصدها ناجي (والتي لم يقصدها ربما) من خلال نحت هذه الشخصية السرديّة المرافقة لكل إنتاجاته : فهو صبيّ في العاشرة من عمره تقريبا، أدار ظهره للعالم بعد أن تخلّى عنه الجميع، وشرّعوا باسم الشرعية الدولية تقسيم وطنه وإبعاد أجداده عنه، وهو الضمير الجمعي الشاهد الثابت مكانه على ما تمارسه جحافل القتل القادمة من كل أصقاع الدنيا ضد شعبه الذي لا يمتلك مؤسسات رسمية للتوثيق والتسجيل، وهو الطفل الذي – بلباسه المرقّع وساقيه الحافيتين- يختزل حالة البؤس المادي المدقع الذي يستوطن كامل القرى والمدن والتجمّعات والمخيّمات الفلسطينية. وهو نبتة الحنظل Coloquinte أو ما يعرف بالتفاح المرّ حيث يقول ناجي العلي “وقد أسميته حنظلة كرمز للمرارة“. .. وحنظلة، هوَ كلّ هذا دفعة واحدة !
وكان المُدهش أيضا في هذه التجربة أن الحواسيب مازالت آنذاك في تلعثماتها الأولى، لكن صديقي الفرنسي طوّع لوحة مفاتيحه لكتابة بعض التعاليق باللغة العربية، الشيء الذي كان يُعتبر في تلك السنوات إنجازا خارقا سبق الميكروسوفت وشركات إنتاج تطبيقات الكتابة الالكترونية وبرمجياتها… وكنت متأكدا أن تعاطفه مع حنظلة ومع جميع من يتماهون مع هذه الشخصية التي أسرت قلوب ملايين العرب والمتابعين من العالم هو الذي دفعه إلى “تفجير الحروف العربية” من كهوف الرموز والعلامات.
وكان من ضمن ما كتبت أنت أيضا :
“…يجب أن أعترف بأنني أحبُّ هذا الصبي عندما يتحرّك وربّما هو يشدّني إليه أكثر من “حنظلة الثابت” الذي لا يتحرّك ولا يردّ الفعل. ثمّ – وهنا، الفرنسي هو الذي يتكلم – إن الاحتفاء بحنظلة الذي يرمي حجرا يجب أن يُحمل على أنه دليل أكبر على الالتزام والانحياز لأن ذلك يفترض تفكيرا مسبقا وتمشّيا واختيارا. وإذا أعلنّا أننا نحب حنظلة، فذلك يقتضي أن نُمسك به في كل أبعاده. ويجب الاعتراف أيضا بأن صورة السلام التي يجسّدها يصيبها شيء من الانطفاء ولكننا إذا نظرنا إلى المشهد عن قرب، ندرك سريعا أن السلام هو شيء يُبنى ويُستحق لا مجرد شعار يروّج للاستهلاك العام.”
وكانت البداهات هي من دعتك إلى بناء فهم جديد حول فلسطين :
كانت علاقتك بتونس وبالتونسيين حاسمة في تغيّر نظرتك لما يحدث في فلسطين، لكن الحقائق البديهية التي تتكتّم عليها وسائل الإعلام المتنفذة في العالم هي التي جعلتنا نتبنّى حنظلة معا ونحتضنه ونوزّعه على نطاق واسع لا على معنى “التشريد” كما يفعل الصهاينة بل على معنى “التغريد” الإيجابي بما يُعيد الحقّ التاريخي إلى أصحابه ويُعيد الوافدين الرحّل إلى أوطانهم الأصلية حيث صُلِبوا وأُحرقوا ونُكّل بهم …والله يشهد أن الفلسطيني في حِلّ مما حدث لهم قبل الحرب العالمية الثانية.
من هذه البداهات، ما قالته الجامعية الفلسطينية حنان العشراوي “نحن الشعب الوحيد في العالم الذي يُطالَبُ بالمحافظة على أمن من يحتلّ أرضه، بينما إسرائيل هي الهوية الوحيدة في العالم التي تزعم حماية نفسها من ضحاياها”.
ومن هذه البداهات أيضا : أن المَجَري تيودور هرتزل الأب الروحي للصهيونية السياسية فكّر في توطين اليهود بأوغندا ثم بالأرجنتين قبل أرض فلسطين بما يعني أن مشروع التوطين لا ينبني على معطيات تاريخية وجذور ديموغرافية وجغرافية مزعومة بل هو مشروع سياسي استعماري استيطاني صرف كان من الممكن تنفيذه في التشاد أو في الهونولولو !
والبداهة الثالثة (وليست الأخيرة) أن ذاكرة الأحياء بيننا اليوم (وليس ذاكرة الأرشيف البعيد) مازالت تحتفظ بأسماء قرى ومدن فلسطينية تحوّلت خلال السنوات القليلة الماضية إلى كيبوتزات ومستعمرات صهيونية بأسماء اجترحوها من حائط مبكاهم الكاذب… فتحولت طولكرم إلى عيناف وبيت لحم إلى بيتار عيليت وبيت جالا إلى هار جيلو …
وكنت أُمازح صديقي الفرنسي دائما بالقول : تصوّر لو تتحول بعد خمسين سنة فقط مدينة روان الفرنسية إلى قطاع نحتلّه ونطلق عليه “إقليم الشراردة” أو نسطو على مدينة غراس (الشهيرة بالعطور المستخلصة) ونطلق عليها اسم “تل الزعتر” !