لرمضان نعوت دينية و دنيوية لا تكاد تحصى … فهو شهر الصوم طبعا، و معه العبادة و التقوى و الرحمة و الغفران و التوبة، كما هو شهر الشهوات و الاستهلاك و الإفراط في الاستهلاك إلى آخره هذه الأيام من استخفاف طولي و عرضي بكل ما له علاقة بالتباعد و الوقاية من كورونا … و أسواقنا و زحمتها خير دليل على مدنيتنا الراقية و الحق يقال …
رمضان أيضا هو شهر الإعلانات التجارية الضاربة مسدّا، و الغامرة الشاشات مما يوحي بأنك في بلاد هي عملاق اقتصادي منتج … و هذا أمر محيّر فعلا، فرجال الأعمال و اتحاد صناعتهم و تجارتهم يصرخون كامل اليوم بأنهم على وشك الإفلاس أو أفلسوا … بينما نجدهم من ليلة الشك إلى ليلة العيد، يدفعون مئات الملايين للقنوات إشهارا و استشهارا تقول أنت و أين كانت هذه المبالغ مخبّأة؟ و لماذا إذن التهرب الضريبي؟ و لماذا الصناديق الاجتماعية لا تصلها مستحقاتها؟ و لماذا لا يتوقف الأساتذة سعيدان و الجودي و الحطاب و غيرهم من الخبراء، عن تنبيهنا إلى أن التشغيل لا يأتي إلا بالنمو، و أن النمو لا يأتي إلا بالاستثمار، و أننا لا نشجع المستثمرين بالقدر الكافي، و أن هؤلاء تعرت رؤوسهم من زمن؟؟؟
في خضم الإعلانات هذه، و بما أنها ومضات مصوّرة متحركة موجهة للفرجة، فهي تحتاج إلى ما يحتاجه غيرها من الأعمال الفرجوية … أي إلى إخراج و تمثيل و غناء و تلحين و نصوص كلمات … و الغناء خاصة يطغى على هذه الومضات التي تهدف إلى أن يحفظها الناس و ترسخ في ذاكرتهم و تتحول بعد ذلك إلى سلوك استهلاكي … و بما أننا في عهد منحة أمل و موائد الصدقة و انتخابات القفة و استشراء اللصوصية بشتى أشكالها، فليس معقولا أن تنتظر من صناع الومضات تعبا في إعداد أغان خاصة بومضاتهم … و ليس تونسيا من يجتهد في أيامنا و يعصر قريحته لإبداع شيء جديد … و حكمة اليوم أن الخبزة الباردة خير من الخبزة الساخنة و أقل كلفة …
و الحمار القصير دائما في هذه المناسبات، بل في جميعها منذ ازدهرت في ربوعنا ثقافة النوبة و الحضرة … الدابة الأسهل ركوبا هنا هي التراث، هذا التراث المسكين اليتيم الأب و الأم المشرّد بين الأرصفة المنتوش الأطراف من ألف يد و يد … حدث ذلك في الماضي، و يحدث الآن أكثر بعد أن فتحت 2011 باب النهب على مصراعيه … بل صرنا نتساءل حتى عن معنى تراث، هل هو البقايا المادية و اللامادية التي تركها لنا الأجداد ملكا مشاعا … أم هو يشمل أيضا كل ما عجز أصحابه عن الدفاع عنه، إما ضعفا أو فقرا أو جهلا بأصول القانون أو يأسا من إنصاف قد يأتي و قد لا يأتي و هذا هو الأرجح …
ثارت ثائرة بعض الأوفياء ذات مرة حين رأوا أغنية “منيّرة” للهادي القلال يتم العبث بكلماتها لتسويق أحد المنتجات، و معها أغنية “بحذا حبيبتي”، و تحركت تبعا لذلك مؤسسة حقوق المؤلف و أصدرت بيانا، و لحقت بها الهايكا و حررت إنذارا … و ذلك كان أفضل من لا شيء فقد توقف بث الومضتين من وقتها حسب علمي … و لكن لم تتوقف عمليات الخطف و النتر، و ما يغيظك أكثر هو التشويه و التمييع و التشلـ … أيا فك علينا مما تلبسه الأقدام !
يثير غضبنا أن تتحول ملحمة الجرجار و القطاري، بطليْ و شهيديْ معركة الجلاّز، إلى أغنية راقصة لشمس الدين باشا … و أن يتم تقديم بطل شعبي آخر (مع الاختلاف طبعا) هو علي شورّب في ذلك الشكل المهزلي بأحد المسلسلات … و أن يسند أداء الأغنية الجنوبية الرائعة “عانيت صقع الليل” إلى كافون … و الأمثلة عديدة و هنا نطرح سؤالا: هل يكفي أن لا يطالب أحد بحقه في أثر فني، حتى يصبح ذلك الأثر خيشة و ممسحة و مداس أقدام؟ و حتى إذا تم إسكات المبدع ببعض المال، هل نترك ثروتنا الثقافية و ذاكرتنا مجال لعب للأميين و صبيان السحرة حتى يقدموها في أسوإ صورة و أنكر صوت؟؟
إذا كانت الحقوق المادية للمؤلفين تباع و تشترى و تكترى و تسقط بالتقادم، فهناك شيء اسمه الملكية المعنوية و يعود إلى كامل البلاد … و هي رصيد أجبال مضت و أجيال ستأتي، و خزينتها الأثمن من الخزينة المالية للدولة، و من البنك المركزي، و من ذهب الكون كله …