لمْسُ نار

إشاعات… إشاعات… إشاعات

نشرت

في

برنامج جنة الأطفال للسيدة عليا و عم راشد.. مجلة عرفان ، مجلة الرياض، مجلة pif لمن استطاع إليها سبيلا هذه العناوين و غيرها أثثت طفولة جيل السبعينات و الثمانينات و هي إلى اليوم راسخة في البال و الذاكرة عناوين تميزت بالثراء و التنوع و هي خير تجسيد للحكمة القائلة علموا الأطفال و هم يلعبون.

<strong>عبير عميش<strong>

ثراء على مستوى التصوّر و تنوّع على مستوى المواضيع و الأفكار، معلومات مختارة بدقة و عناية و مواقف طريفة ضاحكة بكل براءة لا أثر فيها للعنف أو البذاءة عناوين كانت رائدة في عصرها و تركت بصمتها في تكوين ذلك الجيل. ذلك الجيل الذي كانت القراءة ملاذه الأول فلا قنوات فضائية و لا ألعاب إلكترونية و لا هواتف ذكية و لا شبكة عنكبوتية و لا مواقع اجتماعية أجيال كانت القراءة بوابتها إلى المعرفة و العلم طبعت شخصيتها و نظرتها إلى الوجود و خلقت لديها الفكر النقدي التحليلي و جعلتها تتطارح أسئلة وجودية حقيقية و قد تكون عاملا من عوامل استقرار المجتمع و بناء الدولة في تلك الفترة.

هي عناوين اختفت اليوم و لم يخلفها غيرها للأسف.. و عوضتها الألعاب و الفيديوهات و الصور حقيقية كانت أو مفبركة و صار الأطفال و الشباب مجرد متلقين مستهلكين عاجزين عن طرح الأسئلة و التفكير النقدي و صار جيل اليوم لا يهتم بالقراءة و لا يبحث عن الجديد و رغم التطور التكنولوجي و قرب المعلومة الا أن فئة كبيرة تستسهل الاطلاع على ما يوجه إليها و ليست لها قدرة على قراءة مقال مطوّل أو تحليل عقلاني فلا تجلبها سوى ستاتيات الفايسبوك الملأى بالدمغجة و بنظريات المؤامرة و الإشاعات فتقبلها و تتقبلها على هناتها دون تدقيق أو تمحيص و يصبح كل ما يبلغها مسلمات غير قابلة للمراجعة.

و قد ساهم الذباب الأزرق و الملون في تكريس هذه الظاهرة وذلك بهدف التأثير النفسي في جماعة من الناس أو في فرد معيّن، خاصة أن الأخبار الزائفة تطغى على أي جهد لتصحيحها و يتواصل انتشارها على نطاق أوسع من التصحيحات و التصويبات اللاحقة لها. و لعل عالم السياسة في تونس خير مثال على ذلك فقد تجاوزت فيه الإشاعات كل حد و يمكن أن نرجع ذلك إلى ضعف الوعي و التكوين السياسي للتونسيين و مباغتتة المدعوّة “ثورة” لهم ، فالإشاعة تزدهر خلال الكوارث و الأزمات و تتغذى من الفضائح و قد يعود ذلك أيضا إلى ضعف السياسة التواصلية لدى أهل السلطة و استفادتهم من حال الغموض و الضبابية أو تعمدهم له بغية التضليل الإعلامي حيث تحقق الإشاعات ما تعجز عنه الحقائق …

و لا يقتصر الأمر على المجال السياسي فحسب فالإشاعات المتداولة حول الكورونا و التلاقيح منذ أكثر من سنة تجعلنا ننظر باستهجان إلى هذه الظاهرة فإلى اليوم مازال بعض التونسيين يضع رجلا على رجل في المقهى و ينفث دخان سجائره في وجهك مؤكدا أن الكورونا غير موجودة بالمرة و أنها إشاعة و البعض الآخر يرى أنها مؤامرة صهيونية أمريكية أو مؤامرة كونية من قوى ماسونية غايتها التقليص في أعداد البشرية و اثنان جلسا يحتسيان مشروبا أخضر أو أحمر يؤكد أحدهما أن الفيروس من صنع فرنسي صيني خرج عن سيطرة العلماء و الآخر بكذبه قائلا بأنه ظهر بسبب تناول الصينيين لشربة الخفاش و مجموعة أخرى ترفض التلقيح و تعتبره غير ناجع بل تذهب أبعد من ذلك حين تؤكد أنّ فيه مغناطيسا ركبه العلماء ليراقبوا البشر و يتحكموا فيهم و في ميولاتهم.

و لو سألت أيا منهم عن الدراسة التي استند إليها أو الموقع الذي أخذ منه معلوماته لأجابك بأنهم ” قالوا” في القهوة أو “قالوا” في الفايسبوك. و في هذا الإطار يوضح الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير سبب انتشار الإشاعة لدى الشعوب المتخلفة خاصة لدى مرتادي موقع الفايسبوك حيث تسري الإشاعات سريان النار في الهشيم مستندا إلى بحوث “هيلين هارتون” أستاذة علم النفس في جامعة أيوا الشمالية و عالم النفس الأسترالي ” ستيفان لاندوفسكي “.

و تقول هارتون في تفسيرها الظاهرة “لدينا ميل إلى إعطاء وزن للمعلومات السلبية أكثر من الإيجابية. ولهذا مغزى تاريخي من ناحية تطورية، فمنطقياً كان علينا أن نعرف كيف نتجنب نمراً في الغابة أكثر من أن نعرف أين يوجد حقل من الزهور الجميلة. طبعاً، معظمنا لا يخاف الآن من النمور، لكننا نجزع، مثلاً، من التسريح من العمل، لذلك نرمي الإشاعات شمالاً ويميناً لمعرفة ماذا يجري”. أي أنّ التركيبة النفسية لأغلب البشر تجعلهم يفضلون تصدير و تسويق الأخبار السلبية على حساب الأخبار السعيدة و قد تكون تلك استراتيجية يتبعها الفرد لتحقيق تموقعه الاجتماعي.

أما ستيفان لاندوفسكي فقد استنتج بعد بحثه عن أسباب تفشي المعلومات الكاذبة وانتشارها في غضون ثوانٍ حول العالم، أن الدماغ يستهلك طاقة أقل للتصديق عندما يكون البيان كاذباً… قائلا : “إما نحن كسولون وإما أن أدمغتنا كسولة أو كلاهما. فإيجاد الحقيقة يتطلب وقتاً وجهداً، ونحن لا نملك أياً منها”… و يتابع معاذ بن نصير أن النتيجة أو الخلاصة إلتي خرج بها هي أن لدى التونسي كما هائلا من الموجات السلبية التي يفرغها في الاشاعات فيوزعها يمنة و يسرة ، إضافة إلى كونه شديد الكسل فيرفض القيام بأي مجهود عقلي ليفهم أو يستفسر أو يحلل اي خبر يبلغه … إذن فالسلبية و الكسل هما الأرضية الملائمة لانتشار الإشاعة.

و يبقى السؤال : في ظل الواقع الحالي و مع نمط العيش الجديد ما هي الحلول لمقاومة الإشاعة و كيف يمكن تحصين الشعب منها ؟؟ كيف يمكن أن نبني وطنا بشعب أغلبه سلبي متواكل يستهلك كل ما يقدم اليه دون تروّ أو تدقيق؟ متى نعود إلى العناية بأطفالنا بمعايير تربوية جدييدة حتى نخلق من الجيل الناشئ جيلا غير قابل للاختراق؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version