هذه السنة نجح 48 ألف مترشح للباكالوريا و قريبا يلتحق بهم (في النجاح) آلاف آخرون … و هذا في حد ذاته شيء حسن نفرح به العائلات و نملأ الصفحات الأولى للجرائد و مثلها أوقات المذيعين في الإذاعات … كما قد يساعدنا ذلك على أن “نغمّ” صندوق النقد و غيره من المانحين، كلما جاءت سيرة منظومتنا التربوية …
كلام كثير يقال عن تدهور مستوى تلاميذ اليوم و الطلبة من مختلف المستويات، سواء أخذوا الباك أم لم يأخذوه، و سواء كانوا من بين السبعة آلاف صفر في الفرنسية أم لم يكونوا … لم يعد أحد يطالع كتابا و صار هناك كثيرون ممن يعترفون و يتفكّهون بأن آخر ما قرؤوا لا يتجاوز نصوص الثانوي و أدباءه الذين صاروا مثل أثاث بيت الصالة، معروفين كرسيّا كرسيّا و طاولة طاولة … المسعدي، المعرّي و أحيانا التوحيدي و نُعيمة … و شواهد ذلك رسم كلمات لا علاقة لها بقواعد قُرئت بقدر ما يشبه ذلك ما كان يخطّه عطّار حومتنا الأمّي على دفتر الكريدي … مع فارق: هو لا يخطئ في الحساب و الأرقام و لو شنقوه …
و لكن … نعتب على تلاميذ اليوم و ننعى ضعفهم في الآداب و العلوم و الثقافة العامّة، و نتحسّر على مستوى القدماء النوابغ و هناك من يستعرض فرضا لتلميذ سادسة ابتدائي منذ خمسين عاما و يقارن … و يتباكى أغلبنا على تعليم كان طيّارة في وقت ما، و لكنه انهار فجأة مع أول إصلاح … واحد يقول السبب مزالي، و آخر يقول بل الصيّاح، و ثالث عنده حكم مبدئي على محمد الشرفي … و يتوالى معرض أسماء من أمسكوا وزارة التربية في نصف القرن الأخير … و في النهاية نستريح جميعا حين نلقي تبعات تدهورنا على القوى الاستعمارية و المؤامرة الكبرى التي تستهدفنا من دون كل البشر … لماذا يا هذا؟ لا أعرف …
و الحقيقة أننا سواء بجهابذة الأمس أم بأصفار اليوم، لم نتقدم قيد أنملة بل كان التوغّل في الظلمات شنيعا … فمدرسة الماضي بكل ما نغلّفه بها من تقديس و إجلال و حنين و كأنها أكاديميات أثينا … تلك المدرسة هي نفسها التي خرّجت من ضربوا العلم و التعليم حين كبروا، و أعموا عيون صغارهم و دللوهم مفرطا حين أصبحوا آباء، و عبثوا بالدولة حين آلت لهم الدولة … لم نأت بطبقتنا السياسية الحالية من وراء البحر كأكياس الحبوب، بل نحن الذين زرعناها و حصدناها و غربلناها و صففناها في المطمور أو المندرة … أقول “نحن” و قصدي هذه البلاد و تلك المؤسسات و هاتيك البرامج قديمها و جديدها …
و هذا يدلّ على أن التعليم ليس أعداد ناجحين، و لا نسب نجاح، أو كمّ معلومات، و لا حتى تمكّنا من هذه اللغة أو تلك … التعليم تربية و حضارة و قدوة و بيئة لا غشّ فيها من أوّل الأسرة إلى آخر رأس في النظام … في مملكة الجهل التي قعدنا عليها بشتى الأسماء، تعليمنا كان على الدوام كمّيّا، بالرقم و الجدول البياني و اكتساب المعرفة الكافية فقط للحصول على وظيفة مّا … سواء كانت كاتب بلدية أو مهندس أشغال أو تقني كهرباء أو أستاذ فلسفة أو طبيب صحة …
و لكن الإنسان … الإنسان المواطن الحرّ المفكّر الواعي المبتكر التواق لمجتمع أرقى، المفيد لبلده و المستفيد منه … هذا لم نهدف إليه قطّ و لم يكن يهمّنا، سواء كان رعية مطيعة في الزمن السابق، أو ناخبا لجوجا و لكنه مستجيب … في الزمن اللاحق.