كان ذلك شعارا انتخابيا صاغته حملة المرشح الديمقراطي “بيل كلينتون” في الانتخابات الرئاسية، التي خاضها مطلع تسعينات القرن الماضي، بمواجهة الرئيس الجمهوري “جورج بوش الأب”
أرادت حملة كلينتون أن تركز الانتباه على كساد الاقتصاد وأثره الفادح على مستويات معيشة الأمريكيين.. لا على انفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، التي ترجح كفة الرئيس. بدا ذلك الشعار عدوانيا بطريقة غير مألوفة لكنه لعب دورا جوهريا في صعود مرشح شاب نسبيا شبه مغمور سياسيا إلى البيت الأبيض على حساب رئيس عتيد ترأس في وقت سابق الاستخبارات الأمريكية..
“إنه البترول يا غبي”
كان ذلك تعبيرا مرادفا صاغه كتاب ومثقفون عرب، أبرزهم الكاتب الراحل محمود عوض، إثر احتلال العراق عام (2003). لم يكن مقصودا بذلك التوصيف اللاذع الرئيس الأمريكي “جورج بوش الابن”، الذي قاد بالتضليل السياسي والإعلامي والاستخباراتي تحالفا عسكريا دوليا واسعا أعاد العراق قرونا إلى الوراء. كان الرئيس الأمريكي ومن معه يعرفون جيدا ما يريدون من غزو العراق فيما انشغل عدد كبير من القادة العرب في التحريض والدعم اللوجيستي لآلة الحرب المدمرة وبعض الكتاب يبشرون بالديمقراطية الآتية مع دبابات الاحتلال! الحقيقة أن العراق، ومشرق العالم العربي كله، هو المقصود بالتحطيم المنهجي لإعادة بناء الإقليم من جديد، وأن تكون إسرائيل مركز القيادة فيه.
“إنه الغاز.. يا غبي“
باستلهام آخر في ظروف جديدة ومختلفة فإن الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” يجر العالم إلى النذير النووي، أو أعتاب حرب عالمية ثالثة تفضي إلى تدميره. الحرب الأوكرانية أفلتت حساباتها العسكرية عن كل قيد وضربت تداعياتها كل بيت بأزمة غذاء فى العالم الثالث وأزمة طاقة بقلب أوروبا. نحن أمام مأزق مزدوج ينذر بأوضاع مضطربة وأحوال تفلّت تتجاوز بكثير ميدان الحرب والأهداف المباشرة لطرفي القتال في أوكرانيا. هناك ــ أولا ــ تصعيد عسكري ميداني إلى مستوى يكاد يكون صداما شبه مباشر بين روسيا وحلف يالناتوي، الذي يمد القوات الأوكرانية بترسانات من أحدث الأسلحة وأكثرها تقدما مصحوبة بخبراء ومستشاريين عسكريين وربما قوات قتالية حسب بعض التقارير. يصعب الآن وصف الحرب الجارية أنها روسية أوكرانية، أو غزو روسي لأوكرانيا على ما دأبت بعض التغطيات الإعلامية.
أدق الأوصاف، التي تلائم الحقائق على الأرض، أنها حرب روسية أطلسية مرشحة للتمدد في الزمن واستنزاف طويل المدى تعاني ويلاته القوى المتحاربة، والعالم كله بأكثر من أي توقع. تستهدف الولايات المتحدة من ضخ الأموال والسلاح بطريقة شبه مفتوحة في آلة الحرب استنزاف روسيا في المستنقع الأوكراني على ذات السيناريو، الذي حدث في أفغانستان، وأفضى بالنهاية إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي نفسه. السيناريو الأفغاني لا يقاس عليه موضوعيا، فالحقائق الجغرافية والإنسانية تختلف تماما وأغلبية الروس يؤيدون العملية العسكرية فd أوكرانيا.
إذلال روسيا سيناريو آخر مستبعد، وقد حذر من الرهان عليه وزير الخارجية الأمريكي الأشهر “هنري كيسينجر”. بالمقابل تستهدف موسكو التمركز فيما حققته من توسع ميداني حتى يمكنها تاليا ضم ما تسمىه بالجمهوريات الانفصالية في أوكرانيا باعتبارها روسية وجزءا لا يتجزأ من الوطن الأم ينتمون إليه ويتحدثون لغته.
بموازين القوى الحالية: الحرب غير مرشحة للحسم بأي وقت منظور.
لا الروس مستعدون لأي تراجع بعد الأثمان الباهظة التي دفعوها جراء العقوبات الغربية غير المسبوقة ولا الأمريكيون جاهزون لتسوية سياسية وإيقاف القتال لأسباب استراتيجية تتعلق بمستقبل النظام الدولي إذا ما خسروا الحرب، كما لأسباب داخلية تتعلق بانتخابات التجديد النصفي لمجلسى الكونغرس في الخريف والانتخابات الرئاسية عام (2024) المرجح أن يخسرها الحزب الديمقراطي. وهناك ــ ثانيا ــ أزمة الغاز المتفاقمة في قلب القارة الأوروبية جراء توقف موسكو عن إمدادها بالغاز في إجراء يكاد يضاهي بالفعل ورد الفعل ما يحدث في ميادين القتال من اشتباكات سلاح لا تتوقف فيما كل طرف يعلن انتصاره لهز ثقة خصمه في نفسه.
بإلحاح ظاهر حرضت أمريكا على فرض عقوبات مشددة على الغاز الروسي بتحديد سقف لسعره، لا علاقة له بأية قواعد فى الأسواق العالمية للطاقة. جرى ذلك باسم حرمان موسكو من أية موارد مالية قد تستخدم في تمويل عمليتها العسكرية بأوكرانيا برد الفعل خفضت روسيا من صادرات الغاز قبل أن تغلق بالكامل خط أنابيب “نورد ستريم1″، الذى يمثل (40%) من الاحتياجات الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، لإيقاع الألم بالاتحاد الأوروبي على التغير الحادث في لغة خطابه من التهدئة المراوغة إلى التصعيد الصريح ضد الكرملين واعتبار الرئيس فلاديمير بوتين غير جدير بالثقة.
بالتصعيد إلى حدود غير مسبوقة في التناحر على مستقبل النظام الدولي يدخل الاتحاد الأوروبي في أزمة شرعية مستحكمة. إذا ما فشل في مواجهة آثار أزمة الغاز على حياة مواطنيه فإنه قد يتقوض من داخله وتتفلت بعض نظمه عن قراراته باسم احتياجات مواطنيها للغاز. بقدر كفاءة أي نظام أوروبي على إدارة الأزمة الطاحنة يكتسب شرعيته. كان لافتا تصاعد دعوات تخزين الغاز في أنحاء أوروبا خشية الآثار الوخيمة للشتاء القاسي الذى يدق أبوابها. كما كان لافتا أن رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة “ليز تراس” وضعت مواجهة أزمة الغاز على رأس أولوياتها على قدم المساواة مع تنشيط الاقتصاد والرعاية الصحية.
تعدلت الأولويات في الدول الأوروبية الكبرى خشية الآثار والعواقب وأخطرها انقطاع الكهرباء، وأن ترتفع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية فوق طاقة أي تحمل للمواطن. كان ذلك نوعا من الانتقام الروسي على سيناريو إذلالها. بنفس الوقت ترددت دعوات أمريكية وغربية لبناء استراتيجية جديدة تنهي الحاجة الأوروبية للغاز الروسى دون تحسب أننا على أبواب الشتاء، وأنه بلا غاز سوف يكون غير محتمل وقد تترتب عليه اضطرابات اجتماعية واسعة. هكذا أفلتت الحسابات، أو تكاد.
أفلتت في سباق التسليح وإطالة الحرب لأماد مفتوحة لم تكن متوقعة. وأفلتت فى النذير النووي، الذي يتهدد محطة “زيبريجيا” بالاتهامات المتبادلة. الروس يتهمون القوات الأوكرانية بقصف المحطة، والأوكرانيون يعترفون ضمنيا بمسؤوليتهم مطالبين بانسحاب القوات الروسية لضمان أمنها، هكذا بكل وضوح.
هيئة الوكالة الدولية للطاقة الذرية دخلت المحطة، ورصدت شواهد الخطر المحدق، دون أن تتهم أحدا بقصف المكان وتعريض العالم إلى كارثة نووية. وأفلتت في أزمة الحبوب التي كادت تضع دولا عديدة في إفريقيا والعالم العربي تحت مقصلة الجوع قبل أن تخف وطأتها باتفاقية روسية أوكرانية رعتها تركيا. وأفلتت فى أزمة الغاز، التي روعت أوروبا كما لم يحدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.