مِنْظ ... نار

الإذاعة بين العمومي و الخاص

نشرت

في

هذا المقال يمكن لي أن أنعته بمقال الصدفة، فالموضوع لم أشأ في أي وقت من الأوقات الخوض فيه ليس لأنّه شائك و معقّد … بل لأنّه سبق أن كان محورا رئيسيّا لملتقيات و ندوات و دورات تكوينيّة و لجان تفكير وكتابات كثيرة للعارفين و لغيرهم من المجتهدين و المتطفّلين و الفضوليين … لذلك ” هزّيت يدي ” عن الموضوع و قلت في نفسي و لنفسي يمكن أن يكون الجميع على صواب و بالتالي فإنّ رأيي هو من قبيل ما لا يلزم.

<strong>مولدي الهمّامي<strong>

و منذ أيّام تلقّيت دعوة كريمة من السّاهرين على برنامج (Racine carrée) بالإذاعة الخاصّة IFM وقد وجدت من كل أعضاء الفريق الترحاب و حرارة الاستقبال فلهم منّي تحيّات ممنونة و صادقة … في الكواليس و خلال البرنامج أثار مقدّم الحصّة الزميل سامي بنّور موضوع الإعلام العمومي في وضعيته الحاليّة و في علاقته بالقطاع الخاص و الشبه الذي أصبح بينهما في أحيان كثيرة … و لهذا السبب أردت أن أساهم بالقليل في هذا الملف من منطلق شخصي و ذاتي غيرة على الإذاعة العمومية التي أوصلتني إلى ما أوصلتني إليه في مسيرة ناهزت الـ 35 سنة … لن أعود إلى الوراء لأتحدّث عن الماضي لكن سأكتفي بأنّنا كنّا إعلاما حكوميّا و لم يكن ذلك بالبدعة أو الإستثناء فالإعلام الحكومي أو الرسمي هو واقع ساري المفعول إلى يومنا هذا في بلدان كثيرة من مختلف قارّات العالم … و هو سياسة و منهج متّبع و الأمثلة عديدة و كثيرة و لا داعي لذكرها و لا داعي أيضا لذمّها أو مدحها فهي اختيارات سيادية بالأساس … و الإعلام العمومي هو أيضا موجود كمفهوم و ممارسة منذ عشرات السنين و في بلدان كثيرة و له من التقاليد الراسخة و القويّة التي أكسبته جمهورا وفيّا مخلصا.

في تونس وفي مدّة وجيزة انتقلنا من مفهوم الإذاعة الرسميّة إلى الإذاعة العموميّة و اجتهد أبناء المؤسّسة في جعل ذلك الانتقال سلسا و معقولا و مقبولا …  و مع مرور الوقت حصل ما كان منتظرا، فالنتيجة الأولى تمثّلت في ظهور علامات التعب و الإرهاق على نوع من الإعلام جعلناه و أردنا منه في مدّة قصيرة أن يرضي جميع الفرقاء و يركض و يسابق و ينافس في السهول و الوديان و الطرقات الوعرة و المنبسط من الأرض، دون أن نمكّنه من الأدوات التي تجعله يقوم بكلّ ذلك و هو في كامل عافيته و عنفوانه … فكان أوّلا النزيف الذي طال كفاءات استقطبها القطاع الخاص بشكل من الأشكال مستفيدا مما لديها من نجوميّة و تجربة و خبرة و معرفة … و النتيجة الثانية كانت دفعه و من خلال عمليات سبر الآراء التي جعلته في مراتب متأخّرة، إلى المنافسة مع القطاع الإذاعي الخاص الذي كان و لا يزال شرسا في الدفاع عن مصالحه و مكاسبه المادّية من سوق الإشهار ذات المساحة المحدودة أصلا …

 و لم يكن ذلك دون ثمن دفعته الإذاعة العموميّة على حساب جزء هام من رسالتها، فحاول القائمون في البداية استرجاع الكفاءات المهاجرة إلى محطّات وجدوا فيها ترغيبا كثيرا و لكن أيضا ترهيبا بقوانين ليس فيها منطقة وسطى … فعاد من عاد بإحباط لازمه طويلا، و بقي من بقي في ما يشبه عدم اكتراث و لا مبالاة يحاول أن يقنع نفسه بما يبرّرها … و النتيجة الثالثة و بنسب متفاوتة، هي  هذا الانسياق الجارف أحيانا في ممارسات إعلاميّة تقترب من نسق و محتوى الإعلام الخاص الذي هو في الأخير مؤسّسات مستثمرة تبحث عن الربح المادّي، و تحاول شدّ الجمهور بكل الطرق التي يرضاها أهل الإشهار، من قبيل ما خفّ حمله … فظهر البعض من اللهجة الهجينة و البعض من عناوين البرامج باللغات الأجنبيّة و البعض من مواضيع “البوز” … و انتشر العادي و الأقلّ من العادي، و قلّ حتى لا أقول غاب التأطير و التكوين المستمرّ، و لم يفلح صمود البعض في محاولات تعديل الكفّة و إعادة توازن  “البسكولة “.

لقد اكتسبت الإذاعة العموميّة على مرّ السنين تراكما من التقاليد و أساليب العمل تعتبر من الأساسيّات و وقع التخلّي عنها تدريجيّا لأسباب كثيرة لا فائدة من الخوض فيها تجنبا “للبوليميك ” … فالإذاعة العموميّة هي إذاعة الخدمات بامتياز، هي الأداة التي تتحدّث و تخبر عن أحوال الوطن، عن الطفل و أساليب تكوينه و تربيته، عن المرأة في ساحات الإنتاج و الكفاح اليومي، عن العمل، و التكوين، و المسرح، و السينما، و الحياة الثقافيّة، و المهرجانات، و التظاهرات، و السياحة و الفلاحة و الاقتصاد … إنها حلقة الوصل بين السائل و بين الذي يملك الإجابة، هي التي يجب أن تتفتّح على المدرسة و المعهد و الجامعة و تفسح المجال للمبدعين من شعراء و أدباء و فنّانين و مطربين و مسرحيين للبروز و الإنتاج … إنّها المصنع الذي ينتج العلم و المعرفة و الثقافة و الأغنية و الترفيه الجميل الذي لا تشوبه شائبة … و حتّى تقوم بكلّ هذا، أرى أنّه من المنطقي أيضا أن ينظر إلى ما يلي :

– عدم ترك فراغات في مقاعد التسيير  

ـ التخفيف من مركزية القرار خصوصا في مسائل إداريّة بحتة  

– مراجعة الهيكلة بصفة دوريّة، بما يسمح بتجاوز السلبيات و إيجاد حوافز لتشجيع المجتهدين 

ـ الزيادة في ميزانيات الإنتاج خصوصا بالنسبة إلى الإذاعات الجهويّة 

ـ  تعهّد و تطوير البنية التحتية بما في ذلك أدوات العمل على اختلافها و اللّوجيستيك

ـ  تنظيم مناظرات لتغطية حاجات مختلف الأقسام خصوصا أقسام الأخبار و التنشيط الإذاعي

ـ  عودة العمل بالاجتماعات الفصليّة لمديري قنوات الإذاعة العمومية،  لدورها الكبير في التنسيق بين مختلف المحطات و بسط المشاغل و إيجاد الحلول المناسبة لها.   

إن الإذاعة العمومية تتّفق مع الإذاعة الخاصّة في كلّ ما حدّدته مواثيق أخلاقيات المهنة و مدوّنات السلوك، و حقوق الوطن و الواجبات نحوه، و هي ليست مطالبة بمنافسة الإذاعة الخاصّة إلاّ فيما ينفع البلاد، فهي في الأصل مختلفة في أهدافها و رسالتها …  و مهما يكن من أمر، فإن الإذاعة العموميّة ستبقى إذاعة القرب … فهي “البانوراما” و “عروس الصحراء”، و “عروس البحر”، و “لؤلؤة الواحات”، و “زيتونة الأثير”، و “صوت المستقبل” و “صوت الشمال الغربي” و “صوت إرادة الحياة”، و هي “التي تجمعنا” و “معها بدأت الحكاية”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version