أن تكون ريفيا، أو فلاّحا، أو صيّادا، أو متسلق جبال، أو “معاصري”، أو من طهاة البركوكش المهرة، أو من فناني و فنانات الخزف البدوي و عازفات السدّاية و نقّاشات الكليم و حافظات ريم الفيّالة و يا سعد يا شوشان و هزّي حرامك و جيبولي حصاني و مڨروني … أن تكون هذا و غيره، ليس قضاء محتوما بقدر ما هو طبع، ميل، شغف، دم يسري بين العضل و مسامات الجلد … إمّا عندك و إمّا ليس عندك …
لذلك هرب كثيرون من ريفنا الكريم لأن فيروس المدينة ضربهم في العمق (من خلال مؤثرات عدة منها التلفزيون) ضربا لا شفاء منه … صحيح أصولهم بدوية بل سيقانهم منغرسة هناك حتى العروق، و لكن الرأس فسدت أو تمدّنت فأصبحت العيون لا ترى في بوادينا إلا القبيح و الشحيح، و صارت الرئتان تضيقان بالهواء الطلق و لا تنتعشان إلا وسط الدخان و الغوغاء وروائح المجاري و سحب البعوض العاصمي … طبعا سيتعلل أغلبهم بفقدان التشغيل و التنمية و البنى التحتية و كما قلنا سابقا، بغياب المسرح و السينما وكأنّ مدننا ما زال في دين أمّها أثر للفن الرابع أو السابع أو الحادي عشر بعد المائة …
و في المقابل، أعرف عديدين من سكان المدن “الأقحاح” لنقلْ منذ جيلين فأكثر … أعرف كثيرين ممن يهوون حياة الاخضرار و الخشونة و التضاريس الصعبة و صقع الليالي و خاصة … الاعتماد على النفس ! لا، لا أقصد “الفلاّحين” بالريع أو بالوراثة أو بالمراسلة أو بالمكافأة على خدمة البايات و من خلفهم … فهذه الطبقة الطفيلية التي ضمّت و تضمّ أعيان المدينة من كبار المالكين، هي دمّلة دائمة في جسد فلاحتنا، و بسبب أفرادها انحرف حتى معنى كلمة فلاّح … المصطلح يعني في كل اللغات و المجتمعات ذلك المزارع الكادح الذي يسابق الشمس طلوعا و غروبا، و يكتوي ببرد الشتاء و لظى الصيف، و يداه تخشّبتا إلى درجة صار لا فرق بينهما و بين آلات الحفر … بينما في العرف التونسي، عبارة “فلاّح” تعني الإقطاعي الكبير الذي يُخدَم و لا يخدِم (مثل الشاذلي التمّار) و تنطبق عليه بجودة عالية، أغنية الهادي القلاّل: ولد الفلاّح، عايش مرتاح …
إذن يقول قائل ماذا ينتظرون؟ و المقصود طبعا أحبّاء الريف و المستعدّون لشظفه و الآخذون موقفا نهائيا متبرّما من ثلاثية “بيار بيارن” (مترو، شغل، نوم) … لماذا لم يغادروا حلقة العبث بالمدينة، نحو المسافات الأبعد و الأعلى في بلادنا غربا و جنوبا؟ … هنا نعود للأسف إلى بيروقراطية الدولة، بل نهب الدولة المكلوبة التي تقرفص على صدورنا … بداية من امتلاك الأراضي، وصولا إلى طلب التراخيص المضنية لأقل تنفيسة، ومعها ضرورة أن تكون سيادتك راشيا محترفا، مرورا بنظرة هذه الإدارة للريفي و اعتبارها إياه على أنه ـ اعذروني ـ حيوان … لا من باب احترامه و رعايته خوفا من جمعيات الرفق، بل من باب تقييده و “تكتيفه” إلى وتد ما … و جعله مخيّرا بين الموت جوعا، و بين ارتجاء ما تمنّ به عليه من نخالة أو عظام أو قراقش خبز بين الفينة و الأخرى …
… دون أن تنسى استدعاء كاميرات التلفزة لتصوير ذلك و عرضه في النشرة الجهوية …