شعرت البارحة بقلق شديد جعلني أكره كل ما هو حولي…خرجت لأتجول في الأنهج المجاورة، ثم خيّرتُ العودة بعد بضع مئات من الأمتار…
وكالعادة قبل أن أصل المنزل اعترضني أحد أصدقاء الحيّ محتضنا عمود الكهرباء متمتما أغنية للهادي الجويني تقول “اللي تعدّى وفات زعمة يرجع…والاَّ نعيش بعلّتي نتوجعْ”…ارتمى صديقي أمامي قائلا “يا عشيري…خذ نفسا أو أكثر” أجبته “لا لا أدخّن” غضب…وتحرّك يمنة ويسرة وكأنه يعدّ لعدوان ثلاثي على شخصي…وصاح “خذ نفسا…وأدخل الجنة…وسترى ما تتمنى”…قلت في خاطري…أخذته قبل أيام، فدخلت جهنّم، لنجرّبْ فقد يتغيّر وضع البلاد ونخرج مما نحن فيه من سقوط هذه المرّة…”هات نفسا “…
ولثمت السيجارة التي انتحلت في تلك اللحظة، صفة شفاه امرأة فاقت عتبة الأربعين فالتصقت بفمي ودحرجتني معها إلى عالم رائع لا أعرف نهايته…لم أشعر بشيء ولم أر شيئا لكني سمعت طرقا على الباب فأسرعت…رأيت …ويا هول ما رأيت…لم أصدّق ما رأيت أغلقت الباب وعدت من حيث أتيت…عاد صوت الطرق على الباب بأكثر شدّة…رجعت بسرعة وأنا أتمتم…أظنّ أنني صعدت إلى الفردوس الأعلى…فتحت الباب وقررت أن أرحّب بالطارق حتى وإن كان والدي الذي توفي منذ قرابة العقدين…
ضحك الطارق ونظر إلي محدّقا … ألم تعرفني؟ أنا محمد البوعزيزي…أنا الذي أحرق نفسه ألا تذكر؟ أجبته…مرتعشا وأحسست في ذات الوقت بتدفّق وتسرّب مائي ينزل من بين فخذي ليملأ حذائي…أعرف… ومن أين أتيت؟ ألم تمُت؟ ألم يحترق جسدك؟ ولماذا جئت إلي منزلي؟ اخترتك أنت…قالها وهو ينظر إلى حذائي الذي تسربت منه مياه تصريفي ووصل سيلانها إلى أصابعَ قدمه اليمنى…فقد كان منتعلا “شلاكة”…
تمتمت في خاطري “حتى في الجنة هناك “الشلايك بلاستيك” يا دين الزكش”، أدخلت الشهيد إلى قاعة الجلوس وأثار “بَوْلي” تتابع خطواته فقد “ترنّخت” أصابع قدميه بمياه تصريفي التي ملأت حذائي وتسربت لتصل بين أصابعه…استأذنت منه أن أنظّف المكان وأعود إليه…صاح في وجهي “لا يهمّك” أجلس أريدك في أمر هام…جلست محدّقا في وجه الشهيد، بعد أن بدأت ألملم بعض شجاعة ورثتها عن والدي وأنا أتمتم “دبرتها يا هذا واسطة للجنّة…جوّ…انسى روحك ..” وقلت له هذا شرف أن يزورني شهيد البلاد والثورة…
ضحك ساخطا…أنا اليوم هنا لأعتذر لك وللشعب كافة عما سببته لكم من مصائب ونكبة…فلو سكتّ ولم أحرق جسدي لما جاءت معارضة بن علي رحمه الله لتحكمكم، ولما جاء هؤلاء الجهلة يخربون البلاد ويجوعون العباد…ولما جاء هؤلاء الذين لا يفقهون شيئا من مفهوم الدولة والحكم والتسيير ليغرقوكم في الهمّ والغمّ…هؤلاء هم سبب كل اللعنات التي أصابتني وأنا في القبر…
استغربت قوله…وسألته كيف ذلك يا شهيد هل ضربوك في القبر أم شيطنوك أم ماذا هل تعرّضت للهرسلة هناك ممن وكيف أيعقل ذلك يا شهيد هل منعوك من السفر هناك أم وضعوك في الإقامة الجبرية أم صادروا عربتك كما فعلوا هنا؟…لا، ليس كما تتصور وكما ذكرت لكن وأنا هناك سمعت لعناتكم جميعا ومع كل لعنة …أُحرَقُ من جديد…لذلك أزورك اليوم لتُبلغ اعتذاراتي لأهلي بسيدي بوزيد وكل البلاد ليسامحوني عمّا اقترفته من خطأ تسبّب في دخول التتار والوندال وجنكيز خان إلى تونس…
سألته مستغربا “ولماذا اخترتني أنا بالذات؟” ضحك وقال: أقرأ كل ما تكتبه في “جلنار” وعلى حسابك بالفايسبوك وأعترف أنك عقلاني ومنطقي، فجئت لأعتذر من خلالك لأنك تعرف كيف تنشر اعتذاري بالطريقة التي تريد…وقفت مرتعشا وأنا أقول: وهل لكم فايسبوك هناك وهل سرعة التدفق رديئة كما التي نعانيها أم أنتم في حال أفضل؟ هدّأ من روعي وأضاف قائلا “نعم لنا فايسبوك وتويتر ونتخاطب مع سكان الضفتين جهنم والجنة وما بينهما، وقد قرأت كل ما تكتبه وكل ما يكتب عنّي…على فكرة “يا عشيري” (عشيري من اين جاء بهذه الكلمة وانا لم ألتقه يوما في حياتي ما هذا…؟؟؟) الجميع يقرأ لك هناك وهم مغرمون بأسلوبك…
شعرت ببعض العرق في بعض مناطق الظلّ في جسدي وتمتمت…”تهردت” الجماعة عاجبهم اسلوبي…ترصيليش نخدم كرونيكار في “جهنم نيوز” أو في “رنديفو في الجنة” أو حتى ناطق رسمي لإحدى وزارات جهنم العليا أو الديمقراطية…” حرّكت جسدي يمينا ثم شمالا عساني أترك منفذا للعرق الذي تكاثر في مناطق ظلّي المهمّشة من الرعب الذي اعانيه وأنا أتحدث مع عائد من تحت الارض…تفطّن البوعزيزي لقلقي ورعبي من وجوده فأضاف: لا يهمّك سأخرج فقط أردت أن يعرف الجميع أننا هناك نشعر بالندم عمّا أتيناه وما تسبّبنا فيه للبلاد …كما عرفنا من أحد معارضي بن علي ممن التحقوا بنا في حي التضامن “الجهنمي” أن أوضاع البلاد ساءت كثيرا وأنها تسوء يوميا وقد تعاني البلاد المجاعة في قادم الاشهر…
سألته : وما الذي أتى بمعارض بن علي إلى حيّكم ألا تعيشون في الجنة أنتم؟…ضحك وحرّك قدمه اليمنى حتى اعتصر البول الذي تسرّب إليها من حذائي محدثا صوتا “إباحيا” مريبا كذلك الذي يحدث اثناء الجماع …لا يا “عشيري” نحن في جهنّم…تألمت وأنا أقول في خاطري…”رمز ثورتنا في جهنّم… ثورة الكازي هذه”…ثم أضاف لا تقلقوا فهذه الأيام كثر عدد الوافدين علينا ممن حكموا بعد بن علي رحمه الله وحتى من جماعة بن علي الذين غدروا به و”غلطوه”…وهذا يؤكد أنهم ليسوا على حقّ…لا تقلقوا …قالها باكيا…متمتما “اش لزني نجبدلها في “ضرعها” على لساني” …معتذرا عمّا فعله مع فادية عون التراتيب !
ووقف متثاقلا يريد توديعي…لمحت دمعة نزلت تتدحرج على خده الأيسر…وقلت له هل تريد شيئا هل أنت جائع هل تشرب عصيرا؟…انتظر لأملأ لك قفّة من الغلال تأخذها معك…أتريد “ستيكة دخان لوريس متاع دزاير”؟ نظر إلي ضاحكا…” لا يا “عشيري”…ظاهرة التهريب مستفحلة هناك وكل أصدقائي لا يبخلون علي بغلال الجنّة… أخيرا وصلتني قارورة ويسكي من صديق شهيد عراقي وجدها في أدباش قتيل من المارينز”…ضحكت وقلت دون أن يسمعني البوعزيزي…”ملّا عيّاق حتى في جهنّم يهرّبوا في السلع والدخان وربما حتى الزطلة”…شهداء…شهداء “الكازي”…
خرجت مودّعا الشهيد سابقا، قائلا له ” وأين أنت ذاهب الآن؟” أجابني ضاحكا “سأذهب لأزور بن علي رحمه الله في الجنة إن نجحت في الحصول على ترخيص من اللجنة العليا للزيارات بين الأموات التي يرأسها سي الباجي “الله يرحمو” فقد علمت أنه زارني وأنا في المستشفى قبل أن أرحل إلى حيث أنا الآن”…استغربت قوله وسألته “ولماذا تزوره؟”…أجاب ضاحكا” لأقول له “غلطـــــوني”…وأقبّل ليلى فهي تعجبني فنحن هناك يمنع علينا مخالطة النساء”…قلت في خاطري “ملاّ عايق لتوه ما تابش…”
فجأة شعرت بصفعة قويّة نزلت على خدّي الأيسر…وسمعت صديقي الذي ارغمني على اخذ نفس من سيجارته المحشوة “زطلة” يصرخ…”فيق يا سخطة… فيق سي السما…شبيك راقد البرّة”…نظرت من حولي فلعنت “الزطلة “ومن أدخلها البلاد…وتأكدت أن “الزطلة” هي وسيلة النقل الأسرع التي توصلك جهنّم والجنّة في لحظات…ودخلت منزلي مستغفرا الله عن الذنوب التي ارتكبتها وأنا في جهنّم…ومتسائلا ..”هل من “زطلة” تدخلني الجنة…لأبقى هناك؟”