لمْسُ نار

البحر في سليانة !

نشرت

في

“تجوّلنا في سليانة  و تمتعنا بالبحر الصافي … شاهدت تمثال ابن خلدون في طبرقة … سوسة تتميز بواحاتها العالية … زرت قصر الجم في صفاقس .. ذهبنا إلى دوز و القيروان و تمتعنا بالمقروض … أعجبني تمثال أبي القاسم الشابي في قرطاج” ..

هذا بعض ما ورد في تحارير تلاميذ السابعة أساسي حينما طلبت منهم وصف مشهد طبيعي بإحدى جهات الشمال التونسي ...

<strong>عبير عميش<strong>

لم أتعوّد الحديث عن عملي و عن تلاميذي خارج أسوار المؤسّسة و لست هنا بصدد التهكّم على أخطائهم، و لكن أحاول معكم فهم أسبابها و العوامل التي وصلت بهم إلى هذه الدّرجة من جهل مكوّنات البلاد و خصائصها … فمنذ أن شرعتُ هذه السنة  في تدريس محور ” تونس الجميلة ”  و أنا ألحظ جهل التلاميذ التام بالبلاد جغرافيّا و تاريخيّا و حضاريّا .. و لست ألومهم على ذلك فالخطأ هنا ليس خطأَهم إنّما هو خطؤنا ، خطأ الأولياء .. خطأ وزارة التربية و وزارة الثقافة و وزارة السياحة … خطأ وسائل الإعلام … خطأ المنظّمات …

عندما تتحاور مع التلاميذ يخبرونك أنهم يقضون أياما في عطلة الصيف في شواطئ سوسة أو المهديّة أو المنستير أو الحمامات  .. لكن عندما تسألهم عمّا يميّز هذه المدن فلن يحدّثوك إلاّ عن البحر أو مدينة الملاهي أو المطاعم و المقاهي ..  تقريبا لا أحد منهم زار متحفا أو مَعلما أو برجا أو رباطا … لا أحد يعرف مميّزات الأسواق التقليدية أو خصائص المدن العتيقة …

إنّ المسؤوليّة هنا جماعيّة و مشتركة بين الأولياء و مؤسّسات الدّولة و حتّى منظمات المجتمع المدني  . و لا بدّ من إيجاد حلول لتعريف الأطفال ببلادهم ، فكيف لطفل لا يعرف بلاده أن يحبّها و يتشبّث بها ؟ كيف لطفل لا يعرف بلاده أن يربط مستقبله بها أو أن يفكّر في نمائها و تطوّرها ؟

لا يكفي أن تُدرج برامج وزارة التربية  دراسة تونس في محور من محاور التدريس حتى يتشبّع الأطفال بمفهوم الوطنيّة  ، يجب أن تبحث الوزارة عن حلول و أن توفّر الإمكانيّات ليقوم التلاميذ من مختلف المستويات برحلات إلى المواقع الأثريّة و ليزوروا المتاحف و يتعرّفوا على خصائص المناطق المختلفة  أو بإمكانها حتّى  أن تستثمر مهارات الموهوبين منهم في إنتاج أشرطة فيديو من النوع الثلاثي الأبعاد، بما يسمح للتلاميذ بالقيام بجولات افتراضيّة في بعض المواقع …و لا أعتقد أنّ الأمر صعب أو يحتاج موارد ماليّة كبيرة بل تكفي الإرادة و القرار لتحقيقه و إنتاجه في عالم أضحت فيه التكنولوجيا تتحكّم في كلّ مجالات حياتنا و تحتلّ مساحة هامّة من وقت التلميذ و اهتمامه …

وزارة الثقافة و وزارة السّياحة كلّ واحدة من جهتها عليها أيضا أن تعمل على  تشجيع رجال الأعمال على الاستثمار في إنشاء المتاحف الخاصّة و المنشآت السياحية ذات التوجّه الثقافي ..  و ترغيب النّاس في زيارة بلادهم بأن تخصص أياما مفتوحة و مجّانيّة أو بنصف التعريفة في العطل المدرسيّة لحثّ العائلات على الإقبال على المتاحف و المواقع الأثريّة … فلا يكفي أن يسمح للتلاميذ وحدهم بالدّخول مجانا أو تخصيص يوم واحد مجّانيّ كلّ شهر لذلك و أغلب النّاس لا يعلمون بأمره  ( تخصّص أيام الأعياد و الأحد الأوّل من كلّ شهر للدخول إلى المتاحف و المواقع الأثريّة مجانا لكل المواطنين )، و أن توفّر للزّوار مرشدين يفسرون لهم ما يرونه و يقدّمون لهم ما يحتاجونه من معلومات…  فلا يكفي السير بين الآثار الدّارسة دون فهم أو إدراك. و يمكن أيضا الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة ببث مقاطع صوتيّة في الأرجاء ترشد السائح و تعرّفه بما يشاهده في ثوان معدودات،  و لنا من الكفاءات و الطاقات ما يسمح بذلك شرط توفّر الإرادة و القرار…

وسائل الإعلام هي الأخرى تتحمّل جزءا كبيرا من المسؤوليّة في ذلك … و خاصّة الإعلام العمومي فماذا لو اجتهدت  تلفزاتنا و إذاعاتنا قليلا في تقديم صورة مشرقة للبلاد في برامجها و مسابقاتها و تركت الحديث عن معارك المغمورين و كلاشات أشباه الفنانين و خصومات “الانستاغرامورات” و الممثلين وسهراتهم و عمليات تجميلهم ؟  ماذا لو حفرت قليلا في ماضي البلاد وخصائص  مواقعها  و معالمها و أعلامها و بحثت عمّا يميز جهاتها من  خصوصيّات حضاريّة  و صناعات تقليديّة و منتجات محلّية  ؟ أليس التثقيف رسالة من رسائل الإعلام ؟

المغرمون بالإعلاميّة ومصمّمو الألعاب في بلادنا بإمكانهم أيضا صنع تطبيقات هاتفيّة و ألعاب مشوّقة تستثمر أساطير البلاد و أمجادها التاريخيّة و مسالكها السّياحيّة و شخصيّات أبطالها و صولاتهم و جولاتهم و انتصاراتهم في معاركهم،  فتثير في الشباب الحماسة و تعرّفهم بتونس في نفس الوقت على رأي المثل القائل ” علّموا الأطفال و هم يلعبون “

الأولياء أنفسهم مسؤولون بدرجة كبيرة عن تثقيف أبنائهم و تعميق انتمائهم إلى هذه البلاد و تجذيرهم فيها .. فحين يصطحب الواحد منّا أبناءه إلى أية جهة من جهات البلاد عليه أن يستغلّ الفرصة لتعريفهم بمميزاتها .. فمثلما ينفق عليهم الأموال الطائلة في النّزل و المطاعم و الملاهي،  لا بأس في أن يخصّص جزءا يسيرا من نفقاته  للتجوّل في متاحفها و زيارة معالمها و شراء بعض الخرائط التوضيحيّة أو الكتب التفسيريّة، و حينها لن  تبقى الواحات في سوسة و لن يكون البحر في سليانة … فالمسؤولية هي مسؤولية جماعية لإنقاذ الجيل و توطيد علاقته بالبلاد و لإنقاذ تونس من جهل أبنائها .

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version