هكذا صرخت سيدة ريفية رأته مقتولاً وجثته ملقاة فى حقل بأحراش بوليفيا قبل أربع وخمسين سنة بالضبط.
لم تكن تعرف من هو.. ولا ما قضيته.. ولا لماذا قتل على هذا النحو البشع؟
كل ما استلفت انتباهها قدر العذاب الإنساني على وجهه وسكينة الروح التى أزهقت ـ كأنه مسيح جديد قد صلب.
فكرة “المسيح المعذب” واحدة من أكثر الأفكار المعاصرة إلهاماً فى الضمير الإنسانى.
لم يكن “أرنستو تشي غيفارا” قد لقي مصرعه عندما صاغ تلك الفكرة الروائي اليوناني “نيكوس كازانتزاكيس” فى رائعته “المسيح يصلب من جديد”.
الفكرة نفسها تتجلى فى العذاب الفلسطيني، الذى يبدو بلا نهاية ـ “مسيح وراء مسيح وراءمسيح”، كما أنشد شاعر العامية المصري “عبدالرحمن الأبنودي”.
أحد الأسباب الجوهرية لتراجع القضية الفلسطينية أنها لا تجد ـ الآن ـ من يتحدث أمام العالم باسم عذابها الطويل مؤثراً ومقنعاً.
تأسست “أسطورة جيفارا” على مثاليتها الأخلاقية،
فهو بحسب شاعر عامية مصري آخر “أحمد فؤاد نجم “:
“مات المناضل المثال.. يا ميت خسارة ع الرجال..
مات الجدع فوق مدفعه جوه الغابات..
جسد نضاله بمصرعه ومن سكات”.
كانت تلك الكلمات، التى لحنها وغناها الشيخ “إمام عيسى” إحدى أيقونات الحركة الطلابية المصرية فى سبعينات القرن الماضي والأصوات ترتفع بحماس بالغ فى مدرجات جامعة القاهرة تردد خلفه
“غيفارا مات.. غيفارا مات” بيتاً بعد آخر.ارتبط فى المخيلة العامة لذلك الجيل مصرع غيفارا “فوق مدفعه” مع طلب تحرير سيناء المحتلة بقوة السلاح، كما طلب نصرة القضية الفلسطينية باعتبارها مسألة مصير مشترك.
لم يكن الطلاب المصريون وحدهم من وجدوا فى المناضل الأرجنتيني الراحل مثالاً يلهم ونموذجاً يقتدى، فشباب العالم كله وجدوا فيه نفس المعنى.
بعد شهور قليلة من رحيله تصدرت صوره الانتفاضة الطلابية الفرنسية (1968) وعلقت على جدران غرف المدن الجامعية، كما حدث فى مصر تماماً.
فى تلك الأيام شاعت فكرة “وحدة المصير الإنساني”ـ
إنه حتى يتضامن العالم مع قضايانا لابد أن نتضامن بدورنا مع آمال شعوبه ومآسيه.
غنى الطلاب المصريون وراء “عدلي فخري” من كلمات شاعر عامية مصري ثالث “سمير عبدالباقي” لـ”بابلو نيرودا” شاعر شيلي العظيم الذى أغتيل بعد انقلاب الجنرال “أوغستو بينوشيه” على الرئيس الاشتراكي “سلفادور الليندي” خريف (1973):
“الدم فوق طبق الرئيس الأمريكاني.. الدم فوق صدر الوزير المعجباني.. يكتب شعاراتنا على حيطان المدينة”
.”الوزير المعجباني” هو “هنري كيسينجر” صاحب الأدوار الحاسمة فى إجهاض النتائج العسكرية لحرب أكتوبر، التى اندلعت بعد انقلاب شيلي الدموي بحوالى شهر.
وقد كان مثيراً أن الرجل الذى تولى رئاسة ملف المصالحة فى شيلي قال إنه ليس متأكداً إذا ما كانت الولايات المتحدة لها دور فى الانقلاب أم لا ـ كما استمعت إليه فى لقاء ضيق استضافته أمانة الجامعة العربية.
بدا ذلك تدليساً بدواعي إغلاق الملف الدموي، لكن تظل الحقيقة هى الحقيقة مهما طال الزمن.
بعد خمسين سنة من اغتيال “غيفارا” وقف الرئيس البوليفي “إيفو موراليس” بقرية “فيلاغراندي”، التى اغتيل فيها الثائر الأرجنتيني، ليوجه اتهاماً مباشراً للاستخبارات الأمريكية بأنها “اضطهدته وعذبته وقتلته بموافقة الرئيس البوليفي رينى بار منتوس”.
من “ريني بار منتوس”؟!
لا شيء، فهو جملة عابرة فى التاريخ لا يذكر اسمه إلا مقروناً بجريمة الاغتيال.
الضحية عاشت والقاتل محض نكرة.
بعد خمسين سنة قال التاريخ كلمة أخرى فى بوليفيا، فرئيسها من مدرسة “جيفارا” بوسائل حديثة اقتضتها عملية التحول الصعبة فى أمريكا اللاتينية من حروب العصابات إلى التجارب الديمقراطية.
“موراليس” أول رئيس لاتيني من أصل هندي أحمر.
وصوله للحكم يعنى ـ بالضبط ـ أن ما قاتل من أجله “غيفارا” لم يذهب سدى.
الأكثر إثارة ـ كأنه انتقام آخر من التاريخ ـ أن الرجل الذى قيض له تولى رئاسة الكنيسة الكاثوليكية فى روما “البابا فرانسيس”، وهو أرجنتيني مثل “غيفارا” ينتمي إلى “لاهوت الحرية”، وهى حركة اقتربت بالروح والجوهر فى مناصرة المضطهدين من رجال حرب العصابات، وقد كان “غيفارا” رمزهم الأكبر.
عندما ذهب سلفه الأسبق “البابا يوحنا بولس الثاني” فى زيارة رعوية إلى كوبا وقف مع زعيمها “فيدل كاسترو” تحت صورة كبيرة لـ”غيفارا”.
كان السؤال مشروعاً:أيهما يمثل المسيح؟..
البابا الذى لا تخفى ارتباطاته بالاستخبارات الأمريكية أم الرجل الذى اغتيل وهو يقاتل تلك الاستخبارات وقبضتها الحديدية على مصائر الفقراء؟
قوة “غيفارا” فيما مثله من قيم ومبادئ إنسانية.اقترب من الثورة الجزائرية وربطته صداقة مع قائد ثورة المليون ونصف المليون شهيد “أحمد بن بلة”.زار “غزة” عندما كانت تحت الإدارة المصرية وأبدى تضامناً كاملاً مع الحق الفلسطيني المهدور.
كانت القاهرة فى ذلك الوقت منارة إلهام لحركات التحرير بالعالم الثالث.عندما كان مع رفيقيه “فيدل” و “راؤول كاسترو” فوق جبال “سيرا ماستيرا” يتأهبون لاقتحام العاصمة الكوبية “هافانا” بدا صدى صوت “جمال عبدالناصر” ملهماً وهو يعلن المقاومة: “سنقاتل” أثناء حرب السويس (1956).
كان النموذج المصري موحياً بالأمل، فقد تمكنت دولة من العالم الثالث، استقلت بالكاد، من أن تؤمم “قناة السويس” وأن تتحدى الإرادات الغربية، وأن تصمد فى المواجهات العسكرية، وأن تخرج المستعمرة القديمة إلى العالم لاعباً رئيسيا على مسارحه تمتلك قرارها ومصيرها.
اللافت فى قصة “غيفارا” أن صورته فى التاريخ فاقت حجم دوره.
لم يكن دوره بحجم “فيدل كاسترو” فى الثورة الكوبية، ولا يقارن تأثيره بالأدوار الكبرى التى لعبها “فلاديمير لينين” فى الثورة السوفياتية، أو “ماو تسى تونغ” فى الثورة الصينية، أو “هوشى منه” فى الثورة الفيتنامية، والقائمة تطول وتمتد إلى قامات دولية أخرى لعبت أدوارا أكثر تأثيراً وأوسع نفاذاً.
لماذا عاش “تشى غيفارا” أطول منهم جميعاً فى الذاكرة الإنسانية؟
ببساطة لأنه لخص فى شخصه وتجربته “قوة النموذج الإنساني”،
دعته فكرة الثورة إلى الحرب فى كوبا، وعندما انتصرت غادر السلطة سريعاً.
فكر أن يقاتل فى إفريقيا و “ناصر” نصحه ألا يفعل ذلك حتى لا يبدو طرزاناً جديداً.
حاول أن ينظم حروب عصابات فى أكثر من بلد لاتيني حتى استقرت به مقاديره فى أحراش بوليفيا، التي لقى مصرعه فيها مصلوباً .
بعد رحيله بسنوات طويلة نقلت رفاته إلى مدينة “سانتاكلارا” فى كوبا، مهد ثورته، حيث دفن تحت رعاية “فيدل” باحتفال يليق باسمه.
قبل ذلك انتدب شبان من القارة أنفسهم لتعقب كل من ساهم فى اغتياله.
القصة لا تنتهي هنا فالعذاب الإنساني يتسع والعدالة تغيب، وألف مسيح يصلب، فى فلسطين المحتلة ومناطق أخرى من الوطن العربي والعالم كله دون أن نتعلم الدرس القديم عن وحدة المصير الإنساني، الذى ألهمه ذات يوم رجل اسمه “أرنستو تشى غيفارا”