بعد أيام يلتحق رُبع الشعب التونسي تقريبا بالمدارس والكليات ومراكز التكوين، وإن الناظر إلى مشهد الاستعداد لهذه العودة يستطيع تبيّن نزعتين كبيرتين تخترقان مُهجة التونسيين :
نزعة تعتبر أن العودة المدرسية بمثابة عقوبة مسلّطة خاصة على المدرّسين فترى بعضهم يقول “ذكّركم بالعودة ونكّد عليهم” أو “أكثروا من النوم قبل العشرة الأواخر” أو كذلك “ستكون عودة مثل أخواتها لا جديد فيها سوى إهانة المعلّمين وتبخيس الأساتذة والمدرّسين ” في استباق كارثي لمجريات السنة الدراسية الجديدة، وأخرى تنمّ عن نوع من الاحتفاء بالمدرسة والعودة إلى مقاعدها ومباهجها، فترى الأولياء يسارعون إلى “تجهيز” أبنائهم وبناتهم بما تيسّر من إمكانيات رغم شحّة الموارد والغلاء المتزايد في أسعار الأدوات والأزياء.
(أقول هنا بصفة عابرة أن الجامعيين يعيشون اقتراب مواعيد العودة الجامعية بتوتر أقل مقارنة بزملائهم المعلمين والأساتذة في الثانوي، لكونهم بصورة عامة متحررين بشكل لافت من كل أنواع القيود ومراقبة جودة الأداء).
أنا شخصيا من معتنقي النزعة التنسيبيّة التي تقول انه بمستطاعنا أن نؤلّف مُتونا ومجلّدات حول مُكبّلات مدرستنا التونسية وما يتهدّدها من أخطار وإخلالات مرصّعة، تحول دون انبعاث مدرسة جديدة تُرسمل المكتسبات وتستفيد من كل الأزمات الحادة التي عاشتها في سبيل تحقيق انتعاشة تربوية حقيقية، توهّل الأجيال وترسخ القيم وتشقّ طرقا سيارة عبر صحاري الأميّة وأدغال الخرافة وأحراش البقاء على قارعة العلم والمعرفة… لكن التشخيص لا فائدة منه إلا متى وُضع على طاولة من يريدون إجراء إصلاحات بشكل جدي، وإن لعْن معوّقات تطور مدرستنا بشكل مستمر لن يزيدنا إلا إحباطا وإصرارا على استبعاد أي أمل في الإصلاح والتجاوز وإعادة البناء.
وعليه، ليس أمام التونسيين سوى المحافظة على هذا المصعد المعطوب حتى وإن تدنّى أداؤه وتعالى أزيزه وفاقت الحمولة مستوى تحمّلهُ.
نتمسّك بمدرستنا وندافع عنها ونعتبرها مكسبا استراتيجيا لن نفرّط فيه :
لكوننا شعبا “زوّالي” بالنسبة إلى أغلبيته الساحقة يظل بحاجة متأكدة إلى تفعيل محرّكات التكاتف والتضامن فيه من خلال وجود دولة تسهر على توفير مرافق ميسّرة مثل الإدارة والمدرسة والأمن والحافلة والمستشفى والطريق والماء والكهرباء والتي كلّما تراجعت، بقيت شرائح واسعة بلا كفيل ولا بديل. وحيثما حافظت على بعض مناطق الضوء فيها، تسنّى إنقاذ الكثيرين من التّيه والموت والجهل وضنك الحياة.
يُغريني في هذا المجال تقديم ملاحظة تتمثل في كون سامي إطارات الدولة التونسية بصورة عامة (أتحدث عن الأسوياء وغير الضّالعين في استجلاب الأموال على غير الصيغ الشرعية) غالبا ما تكون زوجاتهم موظفات عاديّات أو معتنيات بشؤون منازلهنّ وأبنائهنّ، وعادة ما يأكلون أو يلبسون مثلما يأكل أو يلبس سائر التونسيين … كأننا كتلة متجانسة بنسبة عالية جدا يجمعها اللبلابي والأكلات الشعبية ومقاعد المدرسة العمومية.
ونذود عن مدرستنا ونسعى بكل ما أوتينا من قوة اقتراح وشديد نُباح إلى تطوير أدائها لأنها هي من لاذ إليها شبابنا المتخرّج عندما انحسرت آفاق التشغيل في ربوعنا، وضاق صدر مؤسساتنا الاقتصادية والمالية والصناعية الرثّة بكفاءاتنا النيّرة التي راحت تتلقّفها كبرى الشركات والمنصّات عبر العالم.
ومازلنا نزرع الأمل في مستقبل مدرستنا رغم هوانها، باعتبارها مازالت تتوفّر على كل مقوّمات التميّز والتفوّق من بنية تحتيّة متّسعة وموارد بشريّة أثبتت جدارتها، وبرامج قُدّت في مجملها بما ينسجم مع روح العصر والتوجّهات الحديثة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والمعارف الانسانية.
وسنظل نرفض سيناريوهات الخراب القائلة بأن مدرستنا آيلة للسقوط أو ان تعليمنا في حالة موت سريري أو كذلك ان المال والجاه والنفوذ والرفاه قد غيّرت العنوان لتصبح في ضفة مسالك الأرباح السهلة مثل التجارة الموازية وتهريب العملة وشتى أنواع الحبوب وعرض المفاتن والمفاتل على شاشات التيك توك والانستغرام.
ونشدّ بنواجدنا على ما تبقّى لنا (كما يفعل كل المقاومين المؤمنين بعدالة قضاياهم عبر العالم وعبر التاريخ) من مدرسة شيّدها أجدادنا بعرق جباههم وجدّاتنا بمصوغ صدورهنّ الطاهرة، لتُقبل أجيال بأكملها على فكّ رموز الحرف والشّرب من عيون مائية عذبة كانت محجوبة عنها لأن الغازي الأجنبي ومعاونيه المحليين كانوا يعتبرون أن التمدرس من شيم الأكابر والشرب من الغدران والبِرك كفيل بإبقائنا رهن إرادتهم السّمجة.
وعلى هذا النحو تكون المحافظة على هذا الإرث والارتقاء به أمانة تاريخية ومكسبا ندين به لمن عبّدوا أمامنا الطريق وأصبح لنا اسم وعلم ومدرسة نباهي بها بين الأمم والشعوب.
نُفاخر بمدرستنا التونسية أينما حللنا نحن أبناءها في مختلف مواقع العمل والإنتاج والبرمجة والتطوير والتدريس والتأطير إفريقيّا وعربيا وكونيّا وفي الندوات والملتقيات الدولية رغم أنه تنقصنا أحيانا بعض “المهارات” أو “القدرات الاتصالية” لكننا لسنا كُسّح أو من ذوي العاهات المُشلّة للقدرة على منافسة نظرائنا في بلدان أخرى… وكم من قامة تونسية تكوّنت وتدرّبت وتمرّست على أياد تونسية وتحت أسقف تونسية، راحت تُنازع كبار المختصين في ساحات أجنبية سواء في لغاتهم وبلغاتهم أو في التاريخ أو في الطب أو كذلك حديثا في أدق العلوم وأحدثها.
ونظل مؤمنين بأنه لا خيار لنا سوى الاحتماء بمدرستنا (والتي حان الوقت لكي تحتمي بنا حتى لا تصدأ مفاعلاتها تماما) لأن مستقبل العالم كما تؤكد ذلك كل الدراسات الاستشرافية سيكون مبنيّا على مُخرجات المدرسة (بمفهومها الواسع) أي ما سيراكمه أبناؤنا وبناتنا من معارف واقتدارات واستعدادات داخل الفصول وليس خارجها. ويصحّ هذا الاستقراء تماما خاصة عندما نقدر على فسخ الفكرة القائلة بأن المدرسة جُعلت لتكوين الأدباء والرياضيين والأطباء والمهندسين (قياسا على خارطة الشُعب المدرسية المتهالكة التي مازلنا متمكسين بها رغم اهتزاز أركانها) بل هي لاكتساب مفاتيح التواصل وأصول المعارف وأسس العلوم والتكنولوجيا في حدودها الدنيا، قبل ولوج ساحات العالم وباحاته بحِرَفها ومهنها واختصاصاتها وصنائعها ومجالات الفعل والنشاط الانسانيين المتعددة والمتنوعة… خاصة إذا علمنا أن المدرسة اليوم تُكوّن من أجل مهن ليست موجودة بعدُ (85 بالمائة من مهن 2030 غير معروفة اليوم سنة 2023 كما تقول بعض الدراسات).
من أجل كل ذلك،
سنبقى معتزّين بمدرستنا وما تحرزه من نجاحات مشوبة بعديد النقائص والهِنات ولكننا في ذات الوقت سنواصل إعلاء أصواتنا قصد دفع دولتنا والضغط عليها من أجل بناء مدرسة جديدة تولد من رحم هذه وتكون قادرة على تحقيق خمسة أهداف كبرى على الأقل :
1. تجريم الانقطاع وتحميل مسؤولية هذا الجرم للعائلة والدولة في آن واحد، والنزول بعدد المغادرين دون أدنى تأهيل إلى أسفل درجاته وهو هدف سهل المنال لو يتوفر صدق الإرادة والسيادة.
2. توقيف مهنة التدريس في كل مستوياتها وجعلها حِكرا (نعم حِكرا استثنائيا) على من هم جديرون بذلك وفقا لتقييمات صارمة وتكوين حقيقي لا يجامل أحدا… ولو كلّف ذلك المجموعة الوطنية عبئا إضافيا إذا بقي البعض زائدا عن النصاب.
3. استثمار كل الامكانيات وتوظيف مجمل ذكائنا الوطني في صهر التعليم التكنولوجي (دعْنا من تسمية التكوين المهني التي ارتبطت تونسيا بالفشل الدراسي) ضمن المنظومة الوطنية لتكوين الكفاءات، وجعلها معبرا عاديّا مثله مثل الشُعب المدرسية الأخرى.
4. إعادة الاعتبار لمكانة اللغات والتواصل الشفوي في منظومتنا أمام المدّ الضارب لخطاب التفاهة الذي أجّجته تلفزات الإثارة ومواقع صيد المُتابعين بالكركارة.
5. الانكباب فوريا على إجراء إصلاحات موضعية حتى وإن كانت موجعة بما يُنعش مخرجات المدرسة التونسية، بدلا من التكريمات المتواصلة والتصريحات المُخاتلة وموجات الصمت القاتلة.