دفءُ نار

التوجيه الجامعي … من زاوية غير تقنية

نشرت

في

لأن كل المعلومات التقنية حول موضوع التوجيه الجامعي مُتاحة بوفرة على عديد المواقع والصّفحات، فإني سأتناوله من زاوية اجتماعية محاولا استدعاء بعض الحقائق والثوابت التي رشحت بعد سنوات عديدة من التجربة في المجال وكذلك إضفاء شيء من الطرافة على بعض تفاصيله في هذا الظرف الذي تتداعى فيه كل أسباب التوتر والإحباط واليأس.

<strong>منصف الخميري<strong>

في هذا المجال بالذات – مجال التوجيه الجامعي- للأسئلة الصّادمة غير المألوفة تأثير إيجابي ومُثمر أكثر بكثير من الأسئلة المكرورة والمتوارثة من قبيل آش تحب تولي أو كل شي مربوط بالمعدل أو كذلك استنساخ التراتبية التي تربّى عليها مجتمع بأسره وتُرسل بموجبها المتفوقين الى الطب والهندسة وتسكت عن مصير الأغلبية الساحقة من الناجحين في الباكالوريا. الأسئلة الصّادمة تكون على نحو يُربك الشاب الذي أمامك أو وليّه ويفرض عليه إعمال العقل كأن تدعوه إلى التفكير العميق فيما يرتاح إليه من مناخات عمل، يُجيبك فورا : ولكن مجموعي …. ؟؟؟ لكونه يتعامل مع المعدل أو المجموع بشكل بضائعي باعتباره مبلغا ماليا سيلج به سوق العروض التكوينية ليقرر ما سيشتريه بواسطته حسب نبض السوق وحالة العرض والطلب…

والحال أنه يتعين قلب المعادلة تماما أي التفكير بشكل مطلق ومتحرر من ضاغط مجموع النقاط في لحظة أولى وطرح الأسئلة التي لا بد أن تطرح (من أنا ؟ ماذا أريد ؟ هل أرتاح الى العمل ضمن فريق ؟ هل أُجيد التفاوض ؟ هل أقبل الابتعاد عن عائلتي ؟ لو أُخيّر إن كنت فتاة بين أن أواصل دراساتي الجامعية الى حدود سن الثلاثين أو أن أتزوج في سن الــ 24، ماذا أختار ؟ …). تصوروا لو أن القبول بالجامعات يتمّ (كما هو معمول به في كثير من بلدان العالم) بدون معدلات ومجاميع بل تكون هي مجرد مؤشرات من ضمن مؤشرات أخرى يقع اكتشافها وتقييمها من خلال محادثات فردية مع لجان علمية متخصصة ؟ وتصوروا بالتالي أنك بنفس المجموع يمكنك الدخول الى أي اختصاص تريد، فماذا تختار إذا أنت تخلصت من أغلال الأفكار الجاهزة التي نمت وترعرعت في بيئة مجتمعية  تنتمي عموما إلى عصور ما قبل الحداثة؟

ينكشف لي من خلال ما تشهده سوق الشغل من تحولات عميقة ومتسارعة وما يلتقطه أبناؤنا وبناتنا من فرص علمية وشُغليّة في العالم أن وصفة النجاح الدراسي والتألق والوصول إلى أرض المعركة الأخيرة (معركة التنافس بدون هوادة أو مجاملة بين متخرجين جدد في شتى المجالات وسط سوق شغل كونية لا فرق فيها بين أعجمي وعربي إلا بالكفاءة والنبوغ والمهارة الذهنية)… أن الوصفة بسيطة ولكنها مُركّبة في ذات الوقت ومفادها أن هنالك أربعة عناصر أساسية لا بدّ من توفّرها لضمان التميز واقتلاع أفضل مواقع العمل وطنيا وعربيا ودوليا :

  1. الاستثمار بقوة في الأساسيات (الحساب أو الرياضيات فيما بعد والفيزياء والتفكير المنطقي عموما والقراءة والكتابة بما يعني المطالعة اليومية على امتداد سنوات التمدرس). لاحظوا في هذا المجال مكانة اللغات والفلسفة التي تفرضها الجامعات الأجنبية على المتفوقين التونسيين الراغبين في الالتحاق بها !
  2. مدى السيطرة على اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الانكليزية، فحتى الشركات الفرنسية أو الألمانية أو اليابانية سلّمت أمرها في نهاية المطاف إلى ما يُصطلح عليه اليوم في العالم بهيمنة “كل شيء…للانكليزية” le tout-à-l’anglais وفرضت لغة شكسبير كلغة تعامل أولى على ترابها الوطني لأن مجال إشعاعها وآفاق تطورها يتجاوز الحدود الوطنية الضيقة.
  3. الانخراط في منظومات الإشهاد certifications مثل السيزا وسكرام وسرتيو  وكريسك وسيتركس وميكروسوفت الخ… والتي لا يتجاوز معلوم التسجيل فيها والحصول على شهادة، المائة دولار سنويا… يُعتبر مُلحقا مهما جدا لتثمين مؤهلات المترشحين لعمل ما، خاصة عندما تكون المناظرات دولية.
  4. مهارات الحياة هي الأخرى عنصر مساعد جدا على تعزيز ما تُتيحه الشهائد الجامعية من مهارة واقتدار، مثل القدرة على التواصل والمفاوضة والابداع والعمل ضمن فريق والمرور بالعمل المدني الخ… (ألقوا نظرة على مقاييس الدخول الى جامعة هارفارد الأمريكية).

لقد آن الأوان في اعتقادي لكسر صناديق التصنيف التقليدية والشروع في التفكير في المستقبل ومهن المستقبل على نحو جديد، إذ يقول المتخصصون في متابعة تطورات سوق الشغل العالمية إن الشركات الكبيرة خلال السنوات القادمة ستبحث عن إطارات بملمح “هجين” أي كفاءات في مجالات تقليدية مثل البنوك والمالية والصحة والطاقة الخ… على شرط أن تكون مُضاعفة بخبرة في التكنولوجيات الحديثة.

مهن المستقبل بإجماع المُطلعين ستكون في مجالات الرقمي والارتباط بالشبكة والتسويق الالكتروني والذكاء الاصطناعي وأنترنات الأشياء وتعليم الآلة والبيانات الضخمة والتكنولوجيا المالية وهندسة التطبيقات المحمولة وأمن المعلومات …والعناية بكبار السن والتعليم والتكوين عن بعد… بما يعني أنه يتعيّن علينا كأولياء وكمتدخلين في عملية توجيه أبنائنا وتأطيرهم أن نتحلّى بأكبر قدر ممكن من التواضع والقدرة على التّنسيب والإقرار بأن نسبة كبيرة من مهن المستقبل مازلنا لا نعرفها وبالتالي منحهم الثقة حتى يختاروا ويبنوا مشاريعهم الدراسية والمهنية بهدوء وتبصّر…وحضور والديّ غير ضاغط بشكل مبالغ فيه. (على التونسي أن ينسى اليوم منطق ولدي جابلي 12 في الباك ونحبّو يولّيلي محامي يُعبر).

وفي الختام أقول إن شُعَبا يعتبرها الجميع عادية مثل الجغرافيا والهندسة المدنية وتصميم الصورة والهندسة الداخلية وأكسسوارات الموضة والبستنة والصناعات الغذائية يمكن أن يتخرّج منها شباب على درجة عالية من الكفاءة والقدرة على مجابهة تحديات سوق الشغل ونحت مناخ خاص يُتيح كثيرا من الفرح الذاتي والسعادة العائلية وتوازن الشخصية … ومن الوارد جدا في المقابل أن يتخرج من الشعب المرموقة والمُثمنة اجتماعيا مثل الطب والهندسة والخبرة في المحاسبة أناس بكفاءات متوسطة بالكاد تُعيل أصحابها. فسبّاك ماهر ولهلوب وضامر وحائز على ثقة سكان البيوت قادر على تحقيق رفاه حياة أفضل بكثير من مهندس متوسط.

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version