جور نار

التونسي الحرّ الأصيل

نشرت

في

“الثقافة العامة للتونسي هي ثقافة الأخذ من كل شيء بطرف دون التعمق، ويُحبُّ التونسي الثقافة السمعية وثقافة المقاهي والجلسات الخلاّنية، فالتونسي كائن شفوي يُبهرك حين يتكلم وليس ثمة في قاموسه كلمة “لا أعرف”، وهو يتقن البهلوانيات اللغوية لإخفاء ثقافته السطحية أو عدم معرفته (…) والتونسي غير ميّال للتفلسف وللتفكير المعمق”.

من كتاب الهادي التيمومي “كيف صار التونسيون تونسيين ؟”.  

<strong>منصف الخميري<strong>

التونسي الحر الأصيل له بصفة عامة رِفقٌ خاص بعقله، لا يُرهقه بالسؤال ويحرص دائما على أن لا يوقظه من نومه الذي يغط فيه منذ آلاف السنين، يَعتبر القراءة شأنا مدرسيا صرفا، فيضيف إلى الكتب بشكل فطري صفة “السماوية” أو “المدرسية الموازية”والكتاب يضيف إليه بشكل تلقائي صفة “المقدّس” أما الكتب الأخرى فيعتريها في ذهنه دنسٌ يخشاه وإعْمال للذّهن لا يتمنّاه.

التونسي الحر الأصيل خاصة إذا كان إداريا مُحنّكا (مهما كان السلك الذي ينتمي إليه) يتصيّد بمهارة نادرة فريسته على طريقة التماسيح المعروفة باعتماد تقنية “الكمين” في تعقب ضحيّته (فكّاه قوتهما 2000 كلغ في السنتيمتر مربع بحيث لا يترك أية فرصة للفريسة للإفلات منهما)… فيكون عدم التحوّز بجواز التلقيح فرصة للابتزاز، وانتهاء صلاحية الفحص الفني للسيارة مناسبة للتغوّل، وضرورة إثبات تلقي لقاح فايزر بدلا من سبوتنيك إن كان المواطن قاصدا بلدا أوروبيا ذريعة لعرض إمكانية تسوية الإشكال بمُقابل، وكل الذي تعجز عن تسويته الإدارة عبر شبابيكها الرسمية يجد له حلاّ سحريا مدهشا عبر الوسطاء والنشطاء في أروقة إدارتنا الكسيحة ويكون المقابل عادة “ثابتا ومتعارف عليه لا يقبل المفاوضة”.

التونسي الحر الأصيل لا يُكلّف نفسه إشعال اضواء تغيير اتجاه سيارته أو التعبير عن نيّة التوقّف ويعتبر احتجاجك على ذلك ضربا من ضروب “التفلسف” والتأثر الكاذب باحترام قانون الطرقات في بلد لا طرقات فيه، ويُشهر في وجهك “تحب تمركي ستوب في وِلجة السّدرة ؟”. ويستنكر تصرف امرأة أو فتاة جميلة تقوم بمجاوزته معتبرا ذلك اعتداءًا سافرا على فُحولته.

التونسي الحر الأصيل يُجيد استعمال الأفكار الجاهزة (في إطار تجنب التبذير الذهني) والمقولات الناجزة والقوالب الحاضرة التي يردّدها دون وجل من قبيل “بكري المعلم كيف يعرضك في الثنيّة، تبدّل التروتوار” و “اتفق العرب على أن لا يتّفقوا” و “ما عندكش أشكون مستحيل توصل” و “يكذب عليك، نظافة الدار ورتبتها ودْفاها وبنّة ماكلتها وتربية الصغار ونجاحهم على الأم يا كبدي” (لست أدري ماذا ترك لنفسه من مهام كأب؟)

التونسي الحر الأصيل لم يعِ بعدُ أنه ليس أكثر ذكاء من جاره الليبي وليس أوفر علما من أخيه الخليجي وليس أرقى من صديقه الافريقي … وها قد بيّنت الأيام “الضّنكة” أننا نتدحرج بسرعة ضوئية نحو غياهب اللاترتيب واللافعل واللافرح بينما تصعد بلدان حديثة أخرى وتعانق التميز وإحراز النجاحات علما وبحثا ونظافة وهدوءًا مثل المغرب ورواندا وأثيوبيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية …

وبالنسبة إلى التونسي الحر الأصيل الأبواب المغلقة بإحكام والأسوار العالية الصمّاء مسألة في غاية الأهمية، لأن الثوب الخارجي الذي يتعاطى من خلاله مع الآخر صباحا يختلف تماما مع حقيقته عاريا خلف الأبواب مساءً. قد يبدو لك سويّا ومستقيما وخيّرا ومحترِما بشكل قدسي للضوابط المتعارف عليها ومُحبّا للناس أجمعين ومؤدّيا للشعائر جميعها، ولكنه يتحوّل راديكاليا ويتهوّل عندما ينفرد بأنائه العميقة فتشتغل في رأسه كل محركات الكبت والأنانية والنميمة والقسوة وتشتعل المُفاعلات المرضية، على عكس مجتمعات أخرى قطعت اشواطا عملاقة في التحضر حيث تكون المسافة الفاصلة بين ما يعلنه الفرد حول نفسه في الفضاء العام وما يعيشه عندما يكون وحيدا أو رفقة ذويه، متقلصة إلى أبعد الحدود.

التونسي الحر الأصيل له ترسيمات وتصنيفات بديعة في الحياة، فأثناء اليوم على سبيل المثال “يؤدي الفرض” ثم “ينقب الأرض” بعد ذلك. والعمر عنده مقسّم إلى جزأين كبيرين : الجزء الأول إلى حدود الأربعين تقريبا يُوظَّف للبهجة والنشوة والانشراح، والجزء الثاني والنهائي منذور للعُمرات المتكررة بحثا عن غسل الذنوب والتوبة و”تطهير العظام” عملا بقاعدة “التائب من الذّنب كمن لا ذنب له“، والمواطنون منقسمون إلى من وراء البلايك ومن أمامها…

التونسي الحر الأصيل يحبّ والدته إلى درجة العِبادة، ويعشق أخته لأنها تحمل في ملامحها وفرط عنايتها دفء الأم وعطفها، ويعانق ابنته ويُلاطفها ويحنو عليها كأنها قطعة أفلتت من بين ضلوعه… ولكنه عندما يتعامل مع امرأة لا يربطه بها ما تقدّم من مودّة وحميمية يتغيّر مزاجه فجأة وتصحو حيوانيّته وتحضره كامل الترسانة المدجّجة بالنعوت والأوصاف التحقيرية التي تبدأ بـ “البنات زرّيعة إبليس” وصولا إلى اعتبار “تبرّج” المرأة (والتبرّج يُقاس بمسطرة لا يُعرف لها بداية ولا نهاية) كبيرة من الكبائر،وبالتالي “لا تدخل الجنّة ولا تشمّ رائحتها” كما يقول الفقهاء… فارضا على عقله تناسي أن هذا التشفّي حدّ الشعور بالسّرور، يشمل أمه وأخته وابنته.

التونسي الحر الأصيل يتعامل مع اللغة بنوع من “العنطزة والبلطجة” ينطق مصطلحاتها كما يشاء ويُضفي على مصطلحاتها المعاني التي يريد بصرف النظر عما تقوله القواميس والمعاجم، فكلمة الموعد مثلا لا تُطلق إلا في علاقة بالطبيب أما كلمة “رونديفو” فلا يصح استعمالها إلا إذا كان اللقاء الموعود غراميا حسب تأكيده، و”القضْيَة” أو التبضّع لا يكون له معنى إلا إذا كان shopping ، وكبار المسؤولين يتوهّمون أن بعض المعاني البسيطة لا تستقيم إلا إذا عبّروا عنها بفرنسيّة تقريبيّة جدا…

هناك بالتأكيد وجوه أخرى أكثر إشراقا تُميّز شخصية التونسي، ولكن النّبش في الخفيّ وغير السويّ أكثر إضافة من التذكير بالبديهيّات.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version