جور نار

التونسي لا تنزل الشُكوك ساحته… أبدا

نشرت

في

“…التّونسي كائن شفوي يُبهرك حين يتكلّم، وليس ثمّة في قاموسه كلمة “لا أعرف”، وهو يُتقن البهلوانيّات اللغويّة لإخفاء ثقافته السطحيّة أو عدم معرفته…” (المؤرّخ الهادي التيمومي: كيف أصبح التونسيون تونسيين ؟ ص 79)

<strong>منصف الخميري<strong>

يبدو أنه لدينا نحن التونسيين ميزة لا تتقاسمها معنا بقية شعوب الأرض وهي كوْننا مقتنعين جدّا دائما بما نقول، فلا نتردّد في خطابنا ولا نلجأ إلى علامات التنقيط إلا نادرا ولا نُنسّب أبدا اقتناعاتنا الراسخة ولا نستعمل أبدا إلا تعابير تُحيل على اليقين والدّراية القاطعة حتى وإن كنا لا نعرف والمعلم أو الأستاذ يُحرجه جدّا أن يقول “سأتثبّت في المسألة وأجيبكم في الحصة القادمة”، بحيث بات لدينا اعتداد مرَضيّ بأنفسنا نحن مهدّدون جديّا بأن تجرفنا سيوله لو نتمادى في “الصياح وأرجلنا في الوحْل”.

فالتونسي الكهل اليوم واثق جدا من أن الجيل السّابق أفضل من الجيل الحالي، فيُكثر من استعمال عبارات من قبيل “يا حسرة على جيل بكري” وترديد تلك الصورة الركيكة لتلميذ سابق يضطر إلى “تغيير وِجهة المشي حتى لا يلتقي بمعلّمه في الابتدائي احتراما له وعرفانا” (لديّ شخصيا سُخط خاص على هذه الصورة لأنني أعرف للأسف الكثير عن سلوك عديد المربّين على أرصفة الشوارع تجاه تلاميذهم وتلميذاتهم). هؤلاء يتناسون أن جيل الأمس لم يجابه مشكل البطالة المُدمّر (إذ كانت الباكالوريا والأستاذية جوازات عبور يسير نحو أية مهنة وأي قطاع يقع عليه الاختيار) وأن جيل اليوم سُدّت أمامه كل المنافذ بإحكام وتكاثرت على الشاشات “رموز النجاح والثروة والشهرة دون أدنى مجهود” وأن نفس هذا الجيل كلّما توفّرت أمامه فرص حقيقية للنجاح والتألق تميّز  وحلّق عاليا في كل سماوات العالم.

والتونسي متأكّد تماما أن الفتاة هي المُطالبة بالعذريّة عند الزواج لإثبات عفّتها وطهوريتها عكس الذكور الذين باستطاعتهم (بل يتوجّب عليهم) أن يسرحوا ويمرحوا ويطوفوا كما طاب لهم للتدرّب على الحياة واكتساب الخبرة الضرورية وإقدار أنفسهم على حسن الاختيار. أما الفتاة فهي بصورة عامة موضوع اختيار وليست ذاتا فاعلة فيما سيختارونه لها.  والمفارقة في سياق هذا التصوّر الدّوني أن التونسي يعبّر عن حبّ مقدّس لأمّه وابنته بينما يبدو فظا وغليظا تجاه نساء الآخرين.

والتونسي يؤمن بقوّة أن جمال المرأة وأناقتها هما استفزاز لذكورة الرجال وحساسيتهم الجنسية المُرهفة، فليس من حقها أن تتجمّل لتكون مزهوّة بنفسها ولنفسها ومنتشية بما وهبها الله من حسن وبهاء. ويصل به الأمر حدّ اعتبار الاغتصاب الذي تتعرض له الفتاة نتيجة منطقية لهذه الجاذبية التي تمارسها المرأة بصفة متعمّدة لجلب المُعتدين. والتونسي لا يسأل نفسه أبدا “لماذا تمتنع النساء عن لوم الرجال الذين يتمتعون بجمال أخّاذ ويُبالغون في التأنّق والتزوّق ؟ أليس في ذلك مصدر إثارة أيضا ومجْلبة للتحرّش؟

والتونسي يتوهّم أنه ينتمي إلى شعب اصطفاه الله ليكون الأذكى والأكثر دهاء من بين شعوب العالم، لذلك يكثر تندّره وتنمّره إزاء جيرانه وأشقائه العرب والأفارقة الذين تركوه في حُمقِه وترفّعه وراحوا يُراكمون التطوّر وجودة الحياة سنة بعد أخرى. وأعتقد أن عُقدة “التونسيون أصحاب أول دستور وأول طيارجية وأعرق جامعة وأول من ألغى العبودية وأسياد قرطاج…”ساهمت بشكل كبير في زرع هذه الأوهام وترسيخ عقلية استعلائية زائفة فيه.

والتونسي الرجل لا يمارس فرضا دينيّا واحدا مهما كان بسيطا ولكنه في باب الميراث “يستلبس ويتهوّل ويدخل في سينة أخرى” فيستعرض عن ظهر قلب ما قاله “العلماء” في ختام آية المواريث (تلك حدود الله) وهي ليست مسألة اجتهادية لأن الحكم الشرعي بشأنها قاطع وباتّ.

والتونسي يحفظ عن ظهر قلب كل المقولات المسوّغة لانحرافه: إن الله غفور رحيم، وأعمل الفرض وأنقب الأرض وبرّة برك ربّي يتوب علينا وعاش ما كسب مات ما خلّى واللي عندو أولاد ما يعظّم عالسرّاق والشنقة مع الجماعة خلاعة وما دواء الكساد كان الفساد … والخمر أم الخبائث والكبائر لا يسأل الله ردّها بل يسأله اللطف فيها.

والتونسية حريصة جدا على أن يكون لابنها الكلمة الفصل مع زوجته (لأن الراجل راجل والمرا مرا) وأن يكون لابنتها المكانة الأعلى في علاقة بزوجها (لأنه يتعيّن عليها تحصين مواقعها “باش لا يقدّر نهار آخر ما تخرجش بايديها على راسها”.

والتونسي (خاصة بالنسبة إلى الأجيال الشابة) غير متصالح مع الفلاحة لأنه يأبى الأعمال الفلاحية إلا إذا كان لديه جرّارات وآلات حصاد وشاحنة رباعيّة الدّفع، ويعتبر أنه ولّى عهدها ويفتي لنفسه ببيع الأرض والتحوّل إلى كائن ريْعي يقتات من عائدات الأكرية (لقد ذكر ابن خلدون أن الفلاحة في عصره ـ القرن الرابع عشر ـ كانت تعتبر معاش المستضعفين، أما علي باشا الحسيني فقد حرّم على أبنائه تعاطي الفلاحة لآنها مجلبة للذلّ كما كان يعتقد (التيمومي، نفس العنوان، ص 78).

والشاب التونسي لا يُخامره أدنى شكّ في أن نتائج كل المناظرات معروفة بشكل مُسبق حتى لا يُرهق نفسه ويبذل مجهودا من أجل اقتلاع نجاحه.

والتونسي مقتنع جدا أنه ليس ثمة من ضرورة لرسم حدود مُواطنيّة واضحة بين الفضاء الخاص والفضاء العام، حيث تتداخل لديه الأمور وتلتبس إلى درجة ينزع فيها إلى محاولة فرض قناعات أو سلوكات خاصة في الفضاء العام، كأن تُركّز خيام الأعراس في الممرات العامة ويُسمعك سائق التاكسي ما طاب له من أغانيه الحومانية وأناشيده الجنائزية المفضّلة (في حين أن الأصل هو أن تُفتح أكثر الإذاعات حيادية سمعيّة مثل تلك الإذاعات الأوروبية المتخصصة في بث أخبار الحركة المرورية أو إذاعة ألوان هادئة من الموسيقى).

والتونسي لديه قناعات راسخة غريبة يستحيل تعقّب أصولها مثل الاعتقاد بأن التشرّد والخصاصة في أوروبا أقل وطأة من بلده، وأن تخلفنا مردّه الوحيد مؤامرات الغرب وكرهه لنا، وأنه من الطبيعي أن تُباع منشوراتنا الإسلاميّة للمواطن الانكليزي في شوارع لندن ولكن ليس من حق الآخرين أن يتحدّثوا إلى الناس عن ديانتهم لدينا، وأن بعض المشعوذين “إيديهم تجمّد الماء” وأن السّحر من أركان الدّين باعتبار ذكره في القرآن إلى درجة أن طبيبا أعرفه شخصيا زاره في بيته زملاء له بالمستشفى الذي يشتغل به لأنه كان متغيّبا عن عمله نتيجة شدّ غضروفي حادّ في ظهره، فوجدوه مستلقيا على ظهره وسحليّة (وزغة) على قيد الحياة تتدلّى في الواجهة الأمامية لسريره منتظرا أن يموت الحيوان المسكين عطشا وجوعا فيذهب المرض وتنتهي الأوجاع. كما يحضرني مثال مدير عام في دولتنا العريقة يُشرّع ويُقرّر المصائر وقع في حِبال مشعوذ إفريقي بارع ابتزّه في مبلغ مالي يفوق الــ 80 ألف دينار.

والتونسي أخيرا يعتقد جازما أن أخطاءه وانحرافاته وسقْطاته مهما تعاظمت هو قادر على استعمال بعض المناسك لمحوها، ويستغرب كيف يمكن للإنسان أن يكون خيّرا دون طمع أو أن يكون ممتنعا عن الإساءة وإلحاق الأذى بغيره دون خوف من العقاب وأن يكون ضميره هو السلطان الأعظم قبل أية سلطة أخرى.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version