كأنه مشهد مقتطع من التراجيديات الإغريقية بدت فيه السيدة التسعينية “حورية درويش” مستغرقة في أحزانها، الألم يعصف بها على فقد ابنها “الغالي” كما كانت تصفه دائما، وتوأمه الشعري “سميح القاسم” يتقدم نحوها ليعزيها ويعزي نفسه.
احتضنته، كما لو أنه “محمود” نفسه، وأخذت تنشد على السجية من صميم قلبها الموجوع: “نزل دمعي على خدي وحرقني.. مثل الزيت على النار وحرقني.. أنا أبكى على ابني يللي فارقني.. فارقني في ليل ما ودع فيه حدا”. وقائع ذلك المشهد سجلت على شريط كاسيت إثر الرحيل المفاجئ في أحد مستشفيات الولايات المتحدة لشاعر فلسطين الأكبر في أغسطس (2008).
كانت “الست حورية” تحفظ التراث الشعبي، تنشد أزجاله وتهاليله، وتبدو في كلامها المعتاد كأنها تتنفس شعرا وزجلا. في مرآة الحقيقة التاريخية. إنها الأم الملهمة.
عاشت وماتت في الظل المعذب، صورتها الملائكية في قصائده ألهمت أجيالا تتالت دون أن يدرك أحد بما يكفي عمق تأثيرها في تجربته الشعرية، التي ساعدت في صياغة وجدان عربي حاول أن ينفي ثقافة الهزيمة عن الروح المثقلة بالجراح بعد أن توالت النكبات والنكسات على أكثر القضايا الإنسانية نبلا وعدالة في التاريخ الحديث. ساعدته على بناء ذائقته الشعرية، وتركته على ما قال للرياح.. لتجربة عريضة في الشعر كان فيها صوت فلسطين المسموع في محيطها وعالمها، أنضجت خبراته ووضعته بمكانة رفيعة في الأدب العالمي.
لم يكن الطفل الصغير ينام قبل أن تأخذه أمه في أحضانها الدافئة وهي تنشد من الذاكرة، أو تبدع على السجية أزجالها. صورتها تسري فى قصائده، خبزها وقهوتها ولمستها وحزنها، كانت تحفظه عن ظهر قلب: “ويكفى أن أنام مبكرا لترى منامى واضحا، فتطيل ليلتها لتحرسه”
كانت تردد ما تحفظ أو تبدع دون تكلف، تفكر بلغة الشعر وصورها، تجيب سائليها بأبيات تتلى، تفرح وتحزن شعرا، وفي أزجالها فلسفة حياة كامنة وذكريات تأبى على النسيان.. لقنته أوجاع النكبة، عاينها بنفسه في السابعة من عمره دون أن يدرك تماما ما يجري حوله، لكن روايتها صاغت حوادثها وحفرت جراحها.. أحيت فيه الذاكرة، وهو أحياها بقصائده لتظل القضية الفلسطينية تؤرق الضمير الإنساني.
صاغ “درويش” قصة ما جرى لأسرته في ملحمة إنسانية مؤثرة وعميقة، شاعرية وملهمة في ديوانه: “لماذا تركت الحصان وحيدا”.. عذابها لخص عذابا أوسع لشعب بأكمله اقتلع من أرضه وشرد كما لم يحدث لشعب آخر في التاريخ الإنساني الحديث. في صورة إنسانية عبقريتها في بساطتها نافذة إلى كل ضمير: “يقول أب لابنه: لا تخف. لا تخف من أزيز الرصاص! التصق بالتراب لتنجو!”… “ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبى؟ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي”.
كان لدى الطفل الصغير سؤال يؤرقه يكرره على مسامع والده: “لماذا تركت الحصان وحيدا؟ لكى يؤنس البيت، يا ولدى، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها”…
تجربة التهجير القسري لم تغادر مخيلته أبدا، وكانت “حورية” عنوان ذاكرته وصوت ضميره وجذره الضارب في الأرض. توقع كأنها نبوءة أن يموت قبلها، وتصور أن شالها الأبيض الذي لا يغادر رأسها سوف تلقيه حزنا على قصيدته الأخيرة، وهذا ما حدث فعلا، بعده بنحو عام رحلت الأم المكلومة. لم تره إلا قليلا بعد أن غادر الأرض المحتلة في سبعينات القرن الماضى: “لا نلتقي إلا وداعا عند مفترق الحديث”.
لا يمكن التعرف على تجربته الشعرية بكامل أبعادها وأسرارها دون إدراك طبيعة علاقته بالأم الملهمة “حورية”، والتوأم الشعرى سميح القاسم، والزعيم الفلسطينى ياسر عرفات.
إثر رحيل محمود درويش نشرت جريدة “العربي” القاهرية الحوار الوحيد مع الست حورية أجرته الصحفية الفلسطينية “صابرين دياب” من داخل حجرة مكتبه حيث تربطها صداقة قديمة مع ابنة شقيقه. كان ذلك كشفا أدبيا ينير مناطق مجهولة من تجربة الشاعر الفلسطيني الأكبر، غير أن عددا من أصدقائه القاهريين تصوروا بسوء ظن مفرط أن سميح القاسم وراء ما نشر من أزجال أبدعتها بقصد تشويه صورة “محمود”، الذى لم يكن ليوافق أبدا أن يقال إن والدته “زجالة”! كان ذلك افتراء على توأمه الشعرى، الذى أنشد عند رحيله قصيدته الحزينة “خذنى معك” قبل أن يغيبه الموت فى أغسطس آخر بعد ست سنوات عام (2014).
قصة الشاعرين الكبيرين لم تكتب بعد، وتحتاج إلى تقصٍّ ودرس لفهم تعقيداتها، ففيها محبة غامرة وحساسيات مفرطة. قصته بجوار “ياسر عرفات” تحتاج بدورها إلى تقص آخر بين عوالم الشعر وانقلابات السياسة. ارتبط بحركة “فتح” كبرى المنظمات الفلسطينية، واقترب من “عرفات” كأنه ابنه الروحي واختلف في صمت. عندما رحل نظمت الرئاسة الفلسطينية حفل تأبين لم يحضره “سميح”. سألته على الهاتف: لماذا لم تشارك؟ قال: “لم يكن يستريح لخلفاء عرفات”.
كان اقترابه من “الختيار” داعيا إلى إثارة غبار كثيف حول بعض مواقفه السياسية، لكنه كشاعر لم يخذل قضيته بأية لحظة محذرا من عواقب “أوسلو”: “إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار”. كان أمله أن “تضىء نجوم كنعان الأخيرة”.. ارتفع صوته مع جيله من شعراء الأرض المحتلة، مع سميح القاسم وتوفيق زياد وآخرين، ليقولوا للعالم: “نحن هنا” ولنا قضية عادلة تستحق التضحية من أجلها.
هذا هو المعنى الجوهري الذي يضفي على تجربة “محمود درويش” إلهامها وخلودها.